محمد ربيع's Blog, page 3
May 29, 2011
نداء الثورة
كتبتُ النداء مساء يوم الأربعاء، نقحته، ثم أرسلته لصديق صباح الخميس التالي، ناقشني في بعض النقاط، ثم نشرت الصيغة الورادة أدناه على فيسبوك، وأرسلته لأعضاء قائمتي البريدية.
كنتُ قلقاً، وتخيلتُ أحداثاً كابوسية في اليوم التالي، الجمعة، الثامن والعشرين من يناير. ما حدث طوال يوم الجمعة كان كابوسياً فعلاً، وما تلاه من تهافت الرئيس المخلوع على الكرسي كان أكثر كابوسية. وما تلا ذلك من تهافت الوزراء ورؤساء تحرير الصحف وأساتذة الجامعات على كراسيهم، يؤكد أن المخلوع اختارهم على نفس القدر من الصلف والعناد والغرور وحب السلطة، اختارهم على صورته.
نشرتُ النداء خالياً من التوقيع، كانت الاتهامات قد بدأت تظهر للثوار في كل كلمة، هؤلاء إخوان، هؤلاء غوغائيون. ثم ظهر الشق الكوميدي، هؤلاء إيرانيون- اسرائيليون. وأتى أحدهم ليرسم مشهداً كوميدياً يليق محمد نجم؛ أكّد: نعم، هؤلاء إيرانيون واسرائيليون، إنما هم من اليسار الإسرائيلي، في محاولة – مسّاه الله بالخير- للربط بين أشهر نقيضين في الجوار. بالطبع لم أكن أتوقع كل هذه الشائعات، أغفلت التوقيع عمداً لأني أردت ألا أتهم بأني متحيز، التحيز الذي قد يستخدمه مروجو الشائعات لقتل النداء. حسناً فعلت، لا يزال البعض متهمين بالماسونية حتى اليوم.
كنت أود أن يصل النداء لكل من خاطبتهم، لكن الإعلام وقتها كان تحت السيطرة، وفضائي الإعلامي على انترنت لم يكن ليصل إلى جزء بسيط من الأغلبية. مع ذلك، كتبت ونشرت.
خذلني الكثيرون من من خاطبتهم في النداء، كنت أظنهم أكثر وطنية، وأنهم على وعي بمسؤولياتهم، وأنهم سينحازون إلينا ضد النظام. لكنهم خذلوني وخذلونا، ولا يزالون.
أظن أن إعادة نشر النداء ستذكرنا بالحدث القريب في يناير الماضي، وستجعلنا نقارن بين يومنا هذا وبين يوم الثامن والعشرين، وستجعلنا نرى أن من تحيز ضدنا ذلك اليوم، لا يزال متحيزاً ضدنا، أو أنه اكتشف طريقة جديدة للهدم فأخذ يتقاعس ويتكاسل، أو أنه لا يزال يتخابث -بغباء أسطوري- على شاشة التلفزيون، محاولاً إلهاء الناس وتشتيت أفكارهم. سيذكرنا أيضاً أن الفاسدين كُثُر، وأن كل ما فعلناه لا يرقى سوى درجة واحدة في سلم الحرية الطويل.
لكن الناس لم يخذلونا، بل انضموا إلينا.
نداء
هذا ليس بياناً، وإنما نداء.
للسادة الإخوان ضباط الشرطة والعاملين بوزارة الداخلية، قفوا الى جانب الناس، النظام راحل، لكن الناس ستبقى و ستبقون معهم. لا أطلب منكم عصيان الأوامر، أنا متفهم تماماً حجم المسؤولية، فقط ترفقوا بالناس، لا تحسنوا التصويب، لا تصوبوا نحو الصدور والرؤوس، هناك دائماً حلول وسطية. لو أحصيتم المتحكمين فيكم لوجدتم أنهم لا يتعدون العشرة أفراد، بدونكم سيكونوا ضعفاء ولا حول لهم، أنتم سلاح الحكّام، كونوا سلاحنا لا سلاحهم، كونوا للناس لا للحكّام.
للإخوان عساكر ومجندي الأمن المركزي، أنت أخي، أنت سندي وعوني، الرجاء أن تقف إلى جانبي هذه الأيام،لا أقول لك اعصى أوامر الضباط، اسمع كلام الضباط، لكن لا تقتلني، لا تضربني بقوة، أريد أن أعود إلى منزلي سالماً، أريد أن أنظر في عينك غداً ونحن لا نزال أخوة، أنا لست مجرماً، أنا أخوك.
للسادة الإعلاميين الشرفاء، أحكمتم عملية التعتيم في اليوم الأول بأوامر من الحكّام، وبدأتم في كسر التعتيم في اليوم التالي، الرجاء استكمال عملية الشفافية بالكامل، الرجاء نقل أحداث الشارع ليعلم بها كل مشاهد، مشاركتكم في الثورة لن تتحقق بالنزول إلى الشارع، وإنما بنقل أحداثها. أثق في حكمكم وقدرتكم على اتخاذ القرارات، كونوا مع الشعب هذه المرة.
إلى السادة الأطباء والصيادلة، دوركم يتمثل في اسعاف الناس، الجرحى والمصابون يعتقلون فور دخولهم المستشفيات الحكومية، دوركم محاولة إسعافهم خارج تلك المستشفيات.
إلى السادة رجال الأعمال و أصحاب الأموال، قفوا إلى جانب الناس، لا ترحلوا. ومساهماتكم في الثورة تتمثل في الاستمرار في العمل والتواجد وخدمة الشعب.
إلى الفنانين والكتّاب والمشاهير، أنتم أحباؤنا، أنتم من تصنعون البسمة وتثيرون الفكر، قفوا معنا اليوم لتظلوا في قلوبنا إلى الأبد، قفوا معنا بإعلان تأييدكم للناس.
الى الناس، انزلوا إلى الشارع يوم الجمعة القادم، لا تخافوا من الضرب، لا تخافوا على أولادكم وأهلكم، ما تفعلونه سيضمن مستقبلاً خالياً من الظلم والفساد والفقر، حتى اليوم نزل أكثر من مئة ألف إلى الشوارع في مصر كلها، ولم يعتقل سوى ألف واحد، نسبة اعتقالك لن تتعدى الواحد في المئة. وهذه نسبة صغيرة جداً. الثورة لكم ولن تكتمل إلا بنزولكم.
لست عضواً في جماعة أو حزب، ولا أنتمى إلى تنظيم أوغيره، وإنما أخاطبكم بصفتى واحد من الناس.
بلا توقيع
نداء الثورة
كتبتُ النداء مساء يوم الأربعاء، نقحته، ثم أرسلته لصديق صباح الخميس التالي، ناقشني في بعض النقاط، ثم نشرت الصيغة الورادة أدناه على فيسبوك، وأرسلته لأعضاء قائمتي البريدية.كنتُ قلقاً، وتخيلتُ أحداثاً كابوسية في اليوم التالي، الجمعة، الثامن والعشرين من يناير. ما حدث طوال يوم الجمعة كان كابوسياً فعلاً، وما تلاه من تهافت الرئيس المخلوع على الكرسي كان أكثر كابوسية. وما تلا ذلك من تهافت الوزراء ورؤساء تحرير الصحف وأساتذة الجامعات على كراسيهم، يؤكد أن المخلوع اختارهم على نفس القدر من الصلف والعناد والغرور وحب السلطة، اختارهم على صورته.
نشرتُ النداء خالياً من التوقيع، كانت الاتهامات قد بدأت تظهر للثوار في كل كلمة، هؤلاء إخوان، هؤلاء غوغائيون. ثم ظهر الشق الكوميدي، هؤلاء إيرانيون- اسرائيليون. وأتى أحدهم ليرسم مشهداً كوميدياً يليق محمد نجم؛ أكّد: نعم، هؤلاء إيرانيون واسرائيليون، إنما هم من اليسار الإسرائيلي، في محاولة – مسّاه الله بالخير- للربط بين أشهر نقيضين في الجوار. بالطبع لم أكن أتوقع كل هذه الشائعات، أغفلت التوقيع عمداً لأني أردت ألا أتهم بأني متحيز، التحيز الذي قد يستخدمه مروجو الشائعات لقتل النداء. حسناً فعلت، لا يزال البعض متهمين بالماسونية حتى اليوم.كنت أود أن يصل النداء لكل من خاطبتهم، لكن الإعلام وقتها كان تحت السيطرة، وفضائي الإعلامي على انترنت لم يكن ليصل إلى جزء بسيط من الأغلبية. مع ذلك، كتبت ونشرت.خذلني الكثيرون من من خاطبتهم في النداء، كنت أظنهم أكثر وطنية، وأنهم على وعي بمسؤولياتهم، وأنهم سينحازون إلينا ضد النظام. لكنهم خذلوني وخذلونا، ولا يزالون.أظن أن إعادة نشر النداء ستذكرنا بالحدث القريب في يناير الماضي، وستجعلنا نقارن بين يومنا هذا وبين يوم الثامن والعشرين، وستجعلنا نرى أن من تحيز ضدنا ذلك اليوم، لا يزال متحيزاً ضدنا، أو أنه اكتشف طريقة جديدة للهدم فأخذ يتقاعس ويتكاسل، أو أنه لا يزال يتخابث -بغباء أسطوري- على شاشة التلفزيون، محاولاً إلهاء الناس وتشتيت أفكارهم. سيذكرنا أيضاً أن الفاسدين كُثُر، وأن كل ما فعلناه لا يرقى سوى درجة واحدة في سلم الحرية الطويل.لكن الناس لم يخذلونا، بل انضموا إلينا.
نداءهذا ليس بياناً، وإنما نداء.للسادة الإخوان ضباط الشرطة والعاملين بوزارة الداخلية، قفوا الى جانب الناس، النظام راحل، لكن الناس ستبقى و ستبقون معهم. لا أطلب منكم عصيان الأوامر، أنا متفهم تماماً حجم المسؤولية، فقط ترفقوا بالناس، لا تحسنوا التصويب، لا تصوبوا نحو الصدور والرؤوس، هناك دائماً حلول وسطية. لو أحصيتم المتحكمين فيكم لوجدتم أنهم لا يتعدون العشرة أفراد، بدونكم سيكونوا ضعفاء ولا حول لهم، أنتم سلاح الحكّام، كونوا سلاحنا لا سلاحهم، كونوا للناس لا للحكّام.للإخوان عساكر ومجندي الأمن المركزي، أنت أخي، أنت سندي وعوني، الرجاء أن تقف إلى جانبي هذه الأيام،لا أقول لك اعصى أوامر الضباط، اسمع كلام الضباط، لكن لا تقتلني، لا تضربني بقوة، أريد أن أعود إلى منزلي سالماً، أريد أن أنظر في عينك غداً ونحن لا نزال أخوة، أنا لست مجرماً، أنا أخوك.للسادة الإعلاميين الشرفاء، أحكمتم عملية التعتيم في اليوم الأول بأوامر من الحكّام، وبدأتم في كسر التعتيم في اليوم التالي، الرجاء استكمال عملية الشفافية بالكامل، الرجاء نقل أحداث الشارع ليعلم بها كل مشاهد، مشاركتكم في الثورة لن تتحقق بالنزول إلى الشارع، وإنما بنقل أحداثها. أثق في حكمكم وقدرتكم على اتخاذ القرارات، كونوا مع الشعب هذه المرة.إلى السادة الأطباء والصيادلة، دوركم يتمثل في اسعاف الناس، الجرحى والمصابون يعتقلون فور دخولهم المستشفيات الحكومية، دوركم محاولة إسعافهم خارج تلك المستشفيات.إلى السادة رجال الأعمال و أصحاب الأموال، قفوا إلى جانب الناس، لا ترحلوا. ومساهماتكم في الثورة تتمثل في الاستمرار في العمل والتواجد وخدمة الشعب.إلى الفنانين والكتّاب والمشاهير، أنتم أحباؤنا، أنتم من تصنعون البسمة وتثيرون الفكر، قفوا معنا اليوم لتظلوا في قلوبنا إلى الأبد، قفوا معنا بإعلان تأييدكم للناس.الى الناس، انزلوا إلى الشارع يوم الجمعة القادم، لا تخافوا من الضرب، لا تخافوا على أولادكم وأهلكم، ما تفعلونه سيضمن مستقبلاً خالياً من الظلم والفساد والفقر، حتى اليوم نزل أكثر من مئة ألف إلى الشوارع في مصر كلها، ولم يعتقل سوى ألف واحد، نسبة اعتقالك لن تتعدى الواحد في المئة. وهذه نسبة صغيرة جداً. الثورة لكم ولن تكتمل إلا بنزولكم.
لست عضواً في جماعة أو حزب، ولا أنتمى إلى تنظيم أوغيره، وإنما أخاطبكم بصفتى واحد من الناس.بلا توقيع
December 10, 2010
تلفزيون يا عم حسني
اليوم، يدور عم حسني في حلقته الخامسة أوالسادسة، هزل جسده كثيراً، وأصبح أكثر هدوءاً من ذي قبل، لم نعد نراه يصرخ في نوبات هلع مرعبة للجميع: العابرين للحي، أوالمارين عليه بصفة يومية، أوحتى سكان الحي الذين اعتادوه منذ سنين طويلة.
أول معرفتي بعم حسني كانت عن طريق أخيه، الذي لا أعلم اسمه، وربما لا يعلمه أحد من سكان الحي، فقط نقول: أخو عم حسني. في يوم أحد، أتانا صراخٌ وعويلٌ من الشارع، لما تطلعنا من النوافذ، وجدنا أخا عم حسني جالساً في الحديقة الوسطية بجسر السويس، يصرخ بلوعة، صراخ فقد عزيز، أوضياع طفل. لمدة ثلاث ساعات ظلّ يصرخ، ولما هدأ، وجدنا عم حسني شخصياً يظهر ويجلس بجانبه على النجيلة، ليبدآ معاً نوبةً جديدةً من الصراخ. كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها عم حسني وأخاه، والمرة الأخيرة التي رأيتهما معاً، حدث هذا منذ خمسة عشر عاماً.
بدا الأخ أكبر في العمر، أهدأ بكثير، وإن اشتركا في ارتداء جلبابان متشابهان تماماً، مخططان بخطوط طويلة، بيضاء وزرقاء، جلباب بيتي يوحي للمشاهد بأن لابسه رجل هادئ يهوى الراحة في البيت. علمنا أن الأخوان يسكنان بيتاً قديماً في أحد الشوارع الواصلة بين طومانباي وسليم الأول، يساعدهما الجيران في المأكل والملبس والغسيل والعلاج، والكثير من المارة والسكان يعلمون مدى احتياج الأخوان، فيمدانهما بالطعام والمال من حين لآخر.
لم أر أخا عم حسني إلا قليلاً خلال السنوات الماضية، لكن عم حسني كان متواجداً دائماً، يمشي ناظراً إلى الأمام في اندهاش وذهول. منذ عدة سنوات، لاحظت أن بؤبؤ عينه تحول للبياض، تلاه في ذلك رجل الزبالة، وسبقه مارلين مانسون. استقر في ذهني أن بياض العين علامة على غرابة الاطوار.
عم حسني يلبس جلبابه على اللحم، بلا أية ملابس داخلية، نراه يقضي حاجته في مكانه المفضل، الحديقة الوسطي بجسر السويس، لا يخشي أعين المارة أوراكبي السيارات، لا يتخفى وراء شجرة، وإنما يفعل ذلك في المنتصف تماماً، حيث لا ساتر لجسده وأعضاءه.
قبل ذلك بعدة سنوات، أيام هياج عم حسني المرجف للقلوب، كنا قد علمنا سره، وحتى الآن لا أعرف كيف وصل السر إلينا، أوكيف تعرف واحد على السر أول مرة. كنا لما نشاهد عم حسني قادماً في الطريق، نهتف بكل قوة "تلفزيون يا عم حسني" لتبدأ أكثر ثورات عم حسني عنفاً وغلظة، صراخه في ذلك الوقت كان محيراً لنا، رعب ظريف، يضحك البعض بسببه، ويتسمر الآخرون خوفاً أوخجلاً. يرفع أثناء الصراخ جلبابه حتى رقبته، ليظهر جسده الضخم المكتنز حينها، ثم يمسك بعضوه يهزه هزاً عنيفاً، كأنه يريد أن يقطعه، ثم يأخذ بضرب صدغه بقبضة يده، يعود بعدها ليمسك بحلمة ثديه ويقرصها، ثم يخرج لسانه، ويلعق سبابته، يحملها الكثير من اللعاب، ليضعه على حلمة ثديه. يمسك بعد ذلك ثديه ويوجه الحلمة نحونا، كل هذا يرافقه صراخ وشخر ولسان متكهرب يلعب خارج وداخل الفم، وعينان تدوران بهستيرية تنظران في كل الجهات. ثم يعيد العملية كلها من جديد.
تكررت هذه العملية أمامنا كثيراً، مع اختلاف الترتيب والسرعة ودرجة التعقيد، لكنها رسخت في أذهاننا وكأنها ممارسة عادية تماماً يقوم بها "واحد مجنون"، ومن خلال بقائنا المستمر لساعات طويلة في الشارع، كنا نلاحق عم حسني، مكتفين بالهتاف "تلفزيون…" متعففين عن غواية رجمه بالحجارة، أوشد طرف جلبابه، أوأي تحرش فعلي خارج عن نطاق الهتاف الشهير، حتى إننا لم نكن نحرك ساكناً حينما يواجهنا عم حسني صارخاً "يا ولاد الوسخة"، كنا نصمت صمت العاقلين، الصمت الذي يؤكد رجاحة عقلنا وجنون عم حسني.
كنا قد اتفقنا على اصطياد عم حسني أثناء سيره في شارع الكريم، متجهاً نحو طومانباي، ضاع وقت كثير حتى استطعنا اصطياده فعلاً أثناء سيره، كنا نسير بمحاذاته على الرصيف المواجه، منتظرين إقبال سيارة علينا، لنصرخ "تلفزيون…" فيرفع حسني جلبابه مظهراً عضوه أمام السيارة وراكبيها. بذلك نضرب عصفورين بحجر واحد، نثير حسني، ونصدم راكب السيارة. في ذلك اليوم، توقفت السيارة الثالثة، لينزل قائدها ويضرب عم حسني بشدة، لكمات تلو لكمات، لم تكن هناك ركلات أوصراخ أوشتائم، فقط لكمات موجهة نحو الوجه، في النهاية سقط عم حسني على الأرض، وعاد الرجل بوجه بالغ الهدوء، ليجلس بجانب السيدة المحجبة في السيارة وينطلق في شارع الكريم. كانت هذه حادثة مرهقة لنا جميعاً.
من خلال دلائل أخرى غير رد الفعل التلفزيوني، كأن يصرخ عم حسني في وجه كل امرأة بالغة يراها "يا قحبة، يا وسخة" أوفي وجه كل رجل بالغ يراه "يا حاج"، ومن خلال غزارة صوتيات عم حسني من صراخ وشخر وحشرجة وهتاف. وقلة كلماته اللاتي لم تتعد الثلاث كلمات "قحبة، وسخة، حاج" بدأ بعضنا يدرك ومع تقدمنا في السن،أن عم حسني مريض، والأكثر إثارة، أن هناك أبعاداً جنسية لمرض عم حسني.
مرض؟ نعم، أدركنا أخيراً أن عم حسني مريض، وأنه ليس "مجنوناً" كما كنا نظن، وأن علاجه ممكن وسهل، وأن الكثيرين مصابون بأمراض عقلية أونفسية شبيهة ويعيشون حياة أقل إرهاقاً من حياة عم حسني. أدركنا ذلك عن طريق القراءة، عن طريق الأصدقاء دارسي الطب أوعلم النفس، عن طريق بعض ممن يعرفون حالات مشابهة لحالة عم حسني. لم ندرك ذلك عن طريق الأهل، لم يمنعنا أحد منهم من التحرش بعم حسني، أويوضح لنا أنه مريض، كالمريض بالإنفلونزا أوالسكر أوالضغط، كانوا يغضون الطرف عما نفعله، ثم يؤدون الزكاة والصدقات لعم حسني.
أصبح عم حسني ضعيفاً جداً هذه الأيام، تهدلت كتفاه، وازداد تيهه في الملكوت الواسع، لمحناه يعبر الشارع غير مدرك لمرور سيارة، وهو ما لم يفعله من قبل قط، رأيته جالساً على كرسي القهوة يدخن الشيشة، وهو عمل يدل على تعقل ورقي وحضارة، رأيته يقف -فقط يقف صامتاً- أمام أحد المطاعم، ليخرج عامل من المطعم بطبق يحوي طعاماً كثيراً ويسلمه إياه. رأيته يقذف بكلمتي "قحبة، وسخة" في وجه كل امرأة يقابلها في طريقه، ورأيت الوجوه ترتجف عند سماع الكلمتين، لكن الاجساد كانت تمضي في الطريق غير عابئة.
لكن أحداً منا لم يتحرك لعلاج عم حسني، أولإيداعه المستشفى، كنت سابقاً ألوم "الكبار" اللذين لم يتحملوا مسؤولية عم حسني وتركوه لنا لقمة سائغة، ثم لُمت نفسي لأني لم أفعل شيئاً من ذلك حيال عم حسني لما أصبحت مسؤولاً عن عائلة. لكني تعايشت مع الوضع الآن، وكففت عن لوم نفسي، وتقبلت الوضع كما تقبله "الكبار" منذ خمسة عشر عاماً، بل أصبحت أنتظر اليوم الذي سيظهر فيه الجيل الجديد الصاعد هاتفاً: تلفزيون يا عم حسني.
December 3, 2010
رومل
يدق جرس التليفون فجأة، أظنه تليفوني القابع في جيبي، لكن سكونه ألغى الظن. ألتفت و أدخل في عمق الكهف.
رومل جالساً على الكرسي يوزع أوامره على الضباط المحيطين، كل عدة دقائق يرن جرس التليفون ليتلقى معلومات أو أوامر من ألمانيا، تليفونات من عرين الذئب. ينصت تماماً، يترك سيجارته مشتعلة مصغياً لما يحمله التليفون من كلام، لا يعلق، رومل لا يصدر قرارت متسرعة، يضع سماعة التليفون ليغلق الخط، يطلب من الضباط الخروج، يجلس بالكهف وحده مفكراً فيما وصله من معلومات.
رومل يرفع السماعة مرة أخرى، أجده جالساً على الكرسي بظهر مستقيم، ظهر عسكري اعتاد الاستقامة و لم ينحن أبداً. يصرخ بالألمانية في التليفون، لا أفهم كلمة مما يقول، لم يكن رومل الذي قرأت عنه، لم أجده هادئاً كما عرفته من خلال الكتب و المقالات. وضع السماعة جانباً بغضب و قال في شبه اعتذار: آسف، نحن على وشك الهزيمة.
يبقى جندي واحد في الكهف، يقف ثابتأ في مواجهة رومل، معاونه، ربما خادمه. ينتظر إشاره منه حتى يأتيه بأوراق أو أحد الملفات، يحضر القهوة له، يسكب له القليل من الكونياك. صندوق الكونياك أوشك على النفاذ، يحتار الجندي، هل يبلغ رومل بهذا أم يطلب من كتيبة الإمداد صندوقاً آخراً؟ لن يؤخر رجال الكتيبة الطلب، لكن رفاهة الكونياك تظهر رومل و كأنه ضابط مدلل. رومل لا يشرب الكحول إلا بعد فراغه من مهماته كضابط، كأس الكونياك هو جائزته الصغيرة التي يحصل عليها قبل النوم.
يطلب مني الجلوس أمامه، هناك كرسيان مغطيان بالجلد، أجلس على أحدهما و أتأمل وجهه، ندوب كثيرة أصابت الوجه النحيل، شاب شعره و تساقط القليل منه، مبرزاً بشره بيضاء رقيقة، تكاد تكون شفافة. راعني ما أصاب عينه السليمة، غمامة بيضاء عليها، مياه بيضاء. بينما الأخرى غائبة تماماً، زوائد لحمية وردية اللون مكان العين. و فراغ متهدل حولها. يخبرني أن الحرب على وشك الانتهاء، هو يعلم أن ألمانيا ستنتهي قريباً، ما زال لا يفهم كيف خطى اليابانيون تلك الخطوة الانتحارية، مهاجمة الأمريكان. كان يعتقد أن نهاية هتلر ستكون على أيديهم، لكن النهاية ستأتي من ناحية ستالين.
أقوم من مكاني و أتجول في الكهف، يتوقف هو عن متابعة الحديث متعجباً من قيامي غير المتوقع. ظننت أنه سيعنفني، سيغضب، لكنه لم يتحرك، ظل صامتاً. تابعني و أنا أتجول في الكهف. العلم الضخم يطغى على المشهد، يمتد ليغطي نصف أرضية الكهف، لم وصم هتلر السواستيكا إلى الأبد؟ ذراع الصليب ضخمة للغاية، عندما وقت قريباً من العلم وجدت الذراع أطول مني قليلاً. إذا فرد أحدهم هذا العلم لغطى أرضية الكهف بالكامل، الآن سيأتي جنود ألمان مخلصون، يخرجون العلم ليغطون به العالم بأكمله. أجد على الأرض صخوراً حادة في حجم قبضة اليد، أفكر في إمساك إحداها و ضربه بها حتى ينزف أو يموت. أتراجع في اللحظة الأخيرة.
يرن تليفوني، أحمد يتصل ليسأل أين أنا، أقول إني في الكهف، يقول إنهم سينزلون إلى الكهف فوراً. أفيق من مقابلة رومل، أنا في مرسى مطروح على شاطئ البحر، على شاطئ رومل، في كهف رومل، إلى جانب رومل، يشعل هو سيجارته مدخناً إياها بعمق. أتحرك نحو المشجب، أمسك بطرف البالطو السميك، لا يزال دافئاً، ألاحظ المسدس المعلق في حافظة سوداء، أستله و أحاول أن أسحب أجزاءه، لكنه عالق، قديم و يحتاج إلى زيت، أريد أن أقتله قبل أن يأتي أحمد، ربما إذا قتلته سيختفي و يبقى المكتب و المشجب و الخزانة. لكن المسدس عالق تماماً، لا يستجيب. أحاول بعنف هذه المرة، يتحرك جزء من المسدس في يدي، تقفز رصاصة من جانب الماسورة و تقع على الأرض، ألتقطها ثم أضعها في جيبي. رومل يتابعني و الأسى يبدو عليه.
يرن التليفون مرة أخرى، يرفع رومل السماعة لأذنه، لم يتحرك عندما أمسكت المسدس، ربما يعلم أني لن أتمكن من إطلاق النار عليه، يشرد رومل، يحدق في صخور الكهف أمامه، يهتف فليحيا هتلر!، و يضع السماعة.
يخرج عصابة عينه من الدرج، مرآة صغيرة يضعها على مكتبه، يثبت العصابة على تجويف العين الغائبة و يعدلها، يمشط شعره، يقف فجأة ليصدمني طوله الفارع، يرتدي البالطو الثقيل، يتحرك نحو مدخل الكهف.
يدخل أحمد و رفاقي، يضحكون بصوت عال، يقابلون رومل و هو خارج، يقفون صامتين أمامه قليلاً، ثم ينفجرون في الضحك، ضحك هستيري، يضحكون أكثر، يرفعون أيديهم بتحية عسكرية ساخرة، ثم يتذكرون فجأة فيضحكون مجدداً، هذه المرة يرفعون ذراعهم الأيمن في حركة عصبية، رومل نازي و تحيته نازية. يبدأون في المشي مشية الإوزة، يغالبون الضحك و هم يبالغون في مشيتهم. ينظر رومل إليهم في ازدراء، بينما يتابع مشيته الصارمة، يتقدم من فتحة الكهف في ثبات، ثم يقف ناظراً إلى الأمام، مستعداً لما سيأتي.
أحمد يصرخ: آيست، تايخ، نيخ، فاااااي!!. ثم يجري في سرعة، ليصطدم بظهر رومل، ملقياً إياه خارج الكهف، يهوي رومل فوق الصخور في الأسفل.
لا أدري لم شعرت بالخوف هكذا، كنت أود قتل رومل منذ دقائق، و لكن ضربة أحمد تلك أرعبتني، ربما لأنها كانت مفاجئة؟ ربما لأني كنت أريد أن أقتله بنفسي؟ لا أعلم. لكني الآن أتسائل عن سبب تلك الرغبة، لم أردت قتله؟ لم قتله أحمد؟ لم أرغب في قتل أي شخص قبل الآن، أحمد لم يكن ليقتل ذبابة، لا زلت أفكر.
يلتفون بالعلم النازي، يغنون معاً، لا أفهم كلماتهم، يغنون بالألمانية؟. يكررون جملة واحدة كثيراً، "تايس آشينفيرج… تايس آشينفيرج… تايس آشينفيرج…" أتجه إليهم في عمق الكهف لأغني معهم، أصبح أحمد نازياً، و يجب أن أجاريه و إلا قتلني. يتركون العلم ويتجهون نحوي، الآن سيلقون بي من مدخل الكهف كما فعلوا برومل. لكنهم يربتون على ظهري و يتعلقون بعنقي في حبور، نخرج سوياً من الكهف، أنظر إلى الأسفل، لأجد جسد رومل و قد التوت أطرافه و دماء تسيل من رأسه. نتسلق الصخور، بجانب الكهف هناك ممر حاد يرتفع حتى الأعلى، نصعد إلى الأعلى حيث نعمل على صيانة الطريق الأسفلتي.
تصلبت طبقة الأسفلت أخيراً، أقف على بداية الطبقة الجديدة شديدة السواد، أنظر إلى الأفق، أحاول أن أشاهد الطريق كاملاً، لكني لا أرى الأشياء كاملة هذه الأيام، الطريق يتلاشى في الأفق. أتحدث في التليفون لأتأكد من وصول عربة الأسفلت الجديدة.
November 26, 2010
الراس
أرسلتُ أحدهم ليأتي ب"ونش" ليرفع اللودر، هناك على بعد كيلومترين سيجد الكثير من المعدات القادرة على تحريك ستين طناً من الحديد. بينما بقينا إلى جانب اللودر، كان السائق يجلس على الأرض، ناظراً إلى ما أسفل اللودر، منادياً الراقد تحته في سلام، المختفي تماماً تحت الأطنان الحديدية، كان ينادي بإيقاعٍ ثابتٍ مملٍ، قادرٍ على تبديد أي تعاطف قد ينتج من هول ما حدث، لكن السائق -مع ذلك- كان ملتاعاً، كان يردد: يا عبدالحكيم.
صديقي أخبرني اليوم صباحاً أن أحدهم كتب على أبواب سيارته الجديدة "عبدالحكيم"، كتبها بمسمار، أزال طبقة الطلاء المعدني الغامقة الرقيقة، لتظهر تحتها طبقة أخرى فاتحة اللون، رسم خطوطاً ومنحنياتٍ مكونة أحرف كلمة "عبد الحكيم" كان صديقي يكرر: على الباب الأمامي "عبد الحكيم" على الخلفي "عبد الحكيم" في كل مكان "عبدالحكيم". ولارتباط شرطيّ خاص به، سمعته يلحق شكواه باسم "عبدالحكيم عامر". أطلتْ أنف عبد الحكيم عامر في وجهي، كنت أراها ضخمةً جداً، غير متناسقة مع وجهه، الذي ظننته سيكون أكثر وسامة بدونها. أقصد: بأنف أصغر منها. أطلت برلنتي عبدالحميد باستداراتها وصوتها الحلقي المثير. ثم أطل الطبيب الذي رافق عبد الحكيم عامر أثناء اقتياده إلى استراحة الهرم، محله الأخير.
لما رفعنا اللودر، وجدنا عبدالحكيم مستلقياً على جانبه، كأنه نائم، لم يكن في وضع جنيني، الوضع الذي يسمح باتزان مستقر. لكن وضع ساقيه وذراعيه المستقيم سبب توازناً قلقاً لجثته، فبقيت هكذا في انتظار أي لمسه لتنهار.
كنتُ أظن أن مرور ساعتين على وفاته سيسبب التخشب الذي سمعت به من قبل. أتذكرُ قاتل أسرته، يطل ولده المتخشب في غرفته، الولد قاوم أباه، لكن الأب صرعه واستقرت الجثة بالقرب من السرير، وجدوها متخشبة كأنها تمثال رخامي. يطل الخفير –أو الفلاح؟- الذي أخرج جثة من التراب ليسأل طبيب القرية: هل هذا ما تدعوه التخشب الرُمي؟. لكن والحمد لله لم يكن عبدالحكيم متخشباً، لكني وجدتُ رأسه غائبة.
لا أعلم لماذا لم ألحظ غياب الرأس، تقدمت نحوه وكأني سأحرك الجثة وأريحها على ظهرها، لكن كل من حولي "تخشبوا" فوراً. لما اقتربت، بعدما أطل القتيل المتخشب في غرفته، لاحظت الرأس الغائب. والدائرة اللحمية الدامية أعلى الجسد. خاورني ذلك الشعور بسائلٍ كثيفٍ دافئ يسيل من أنفي، ليس مخاطاً، بل دمٌ لا يمكن السيطرة عليه، رفعتُ يدي تلقائياً، لكني وجدت أنفي جافاً بلا رعاف. أنقذني أحدهم، لا أعرفه، أخذ يحفر الأرض بالقرب من جسد عبدالحكيم باحثاً عن الراس.
انهمكت في الحفر، أحفر الرمل بيديّ العاريتين. بعد ست ساعات من الحفر، رفعت رأسي لأجد العشرات يحفرون بحثاً عن الراس، لم يعد رأس عبدالحكيم، بل أصبح راساً مستقلاً الآن، وعلينا بأي ثمن أن نجده، علينا أن نحطم استقلاله ونعيده إلى عبد الحكيم مرة أخرى. نبحث لأكثر من ثلاث ساعات، ولا راس ظهر حتى الآن. أكثر ما أخافه غياب الشمس، الظلام سيمنعنا حتماً من مواصلة البحث. أتي شرطي ليكتب المحضر. أثبت فيه أن رأس عبدالحكيم غائب. و قبل أن يرحل أمرنا ألا نحرك الجثة حتى يأتي وكيل النيابة ليعاينها. تأكدت حينها أن الجثة ستتخشب.
في الواحدة صباحاً أتت مجموعة من الناس، حملوا جثمان عبدالحكيم في عربة ومضوا، أهل عبد الحكيم علموا بموته، بعثوا عربة من قنا لتأخذ الجثمان، يريدون أن يُدفن في نفس اليوم. كانوا قد جهزوا كل شئ، أعلنوا الوفاة و حضروا الكفن و اتفقوا مع التربي، بل وبدأوا في تلقى العزاء. لم يبق إلا الجثمان، لما وجدوه غائباً أخذوا يتفحصون قدميه و كفيه، يتأملون أنامله، يمسكون إبهام قدمه ويحركونه، أخيراً، وقفوا يتشاورون، ثم وضعوه في الصندوق الخشبي، ورفعوا الصندوق فوق العربة. لم يجرؤ أحد على إيقافهم، اتفقنا على الصمت. عدتُ أنا للمنزل.
في اليوم التالي، وقفت مكان جثة عبدالحكيم، الرمل مازال على حاله، آثار حفر الليلة السابقة ظاهر على وجه الأرض، لكن المشاهد لن يفهم أبداً ما حدث، لن يتصور أننا كنا نبحث عن الراس. أود الآن أن أحفر في الأرض لأجد الراس. سأجده حتماً هنا، تحت قدمي بالظبط. متأكد أنا من وجوده في هذه البقعة بالذات، تحت الرمل بعشرين سنتيمتراً. عبدالحكيم دُفن بلا رأسه، وهو عمل لا أتصوره صحيحاً على الإطلاق. عبد الحكيم لن يستطيع القعود في قبره، حينما يأتي الملكان ويسألانه، لن يستطيع الإجابة، لن يرد، فقط سيشير بيديه وذراعيه، وأظن أنهما لن يفهمانه. ربما لن يستطيعا تمييزه، سيبحثان في الدفتر، سيبحثان عن صورته، سيتطلعان للصورة الصغيرة المرفقة. لكنهما سيقفان أمام الجثة في حيرة. لن يتفحصا قدميه و كفيه، لن يفهما كيف تتميز أطراف عبد الحكيم عن بقية البشر.
لكن لا، هذا غير صحيح، الكثيرون قطعت رؤوسهم، بعضهم دفنوا مع الراس، بعضهم ضاع راسه أو تشوه. آخرون دفنوا في مكان، ودفن راسه في مكان آخر. لابدأن هناك وسيلة أخرى لدى الملكان. مع كل هذا يجب أن أجد الراس.
ربما طارت الراس الى المبنى المجاور، تحت الإنشاء ولكنه فارغ تماماً، خال من العمال والبشر و الخفر. أبحث عن الراس في داخله. أصعد الطوابق كلها، ثم أعود فأنزل السلم باحثاَ عن الراس في كل طابق، في كل حجرة. لما رأيت آثار حفرنا من خلال أحد النوافذ، أدركت أني أبالغ في ظنوني.
ربما الراس الآن في صندوق الزبالة على ناصية الشارع، أقترب من الصندوق متردداً، أنظر في داخل الصندوق، ثم أنظر حولي لأتأكد أن لا أحد يتابعني. أقلب بيدي محتويات الصندوق، أتوقع رؤية شعر الراس هنا أو هناك. لكني لا أجد الراس.
ربما الراس في هذه السيارة، تدحرج بعدما قُطع، حتى وصل إلى السيارة، كان بابها مفتوحا فقفز الراس إلى الداخل. أنظر من خلال الزجاج، ربما أجد الراس على المقعد، أو في الأسفل مكان الأقدام، ربما الراس مستقر تحت مقعد السائق، هذه مبالغة، فالمسافة ضيقة جداً تحت المقعد.
أظن أن البوح أفسد كل شيء، أكتب الآن بلا رغبة أومتعة، أكتب لأني قلت إني سأكتب. لأسجل اللحظة فقط، وأدعي التحذلق والروح الفنية الكئيبة، أدعي بطريقة آلية وإن كانت إدعاءاتي السابقة تحمل أحد المتع. ربما أكتب كي أسجل الفكرة باسمي، لن يسجلها أحد ممن حدثتهم عنها، أنا تحدثتُ وبحتُ بالمكنون، وهذا خطأي أقومه الآن، أسجل الكلمة لأقدسها. التسجيل مُقدِس، إذا ما تحول الكلام إلى كتابة قُدِس.
أظل بلا نوم لأيام كثيرة، ثم أعود إلى نوم مضطرب بعد فترة من الأرق، تطل الدائرة اللحمية أعلى الجسد عليّ مراراً. يتضاءل الجسد ويفنى، تبقى الدائرة اللحمية واضحة حمراء. تنتظر أن يظهر الراس مرة أخرى ليلتحم بها.
May 30, 2010
مناورات مكشوفة
لا نعرف متى بدأ في صمته هذا. في أحد الأيام، قرر أن يصمت تماماً، لم يرد على من خاطبه طوال اليوم، فقط ينظر إلينا حينما نحادثه، ولما يظهر القلق على وجه من يخاطبه، يرفع كفه مطمئناً، يعلمنا أنه بخير، ثم يحدق في الأرض.
بالطبع أصابنا القلق. منذ مدة وهو مريض، نسمع صوته وهو يتألم طوال الليل، لكننا لا نستطيع فعل شيء، فقط نسمع ونصمت. بينما هو يقاوم الألم. بالأمس فقط بدا أنه ألمه قد زال. لم يعد يئن كما في الأيام السابقة، انتظم تنفسه ونام بعمق.
المرض ليس خطيراً كما ظننا، لكنه بلا علاج فعّال. العلاج يتمثل في تعديل العادات الغذائية والحياتية، لا شيء آخر قد يفيد. أي تغيير ولو كان ضئيلاً يضايقه ويؤرقه، ولما كف عن الأنين ظننا أن كل شيء على ما يرام.
ثم قل حديثه كثيراً، حتى صمت تماماً، لا نعرف متى بدأ في صمته هذا. تأقلمنا بسرعة على الوضع، كانت صدمات المرض السابقة كافية للتأقلم على أي وضعٍ تالٍ، اعتدنا على صمته الدائم وكأنه لم ينطق قط.
ثم قرر أن يزور الطبيب، وجدناه يشرع في ارتداء ملابسه، ولما سألناه ماذا يفعل، أشار إلى الوصفات الطبية الموضوعة على المنضدة، تذكرنا أن عليه زيارة الطبيب اليوم. لم يقل شيئاً ولم يطلب منا الحضور، ذهبت هي معه إلى الطبيب.
لم أجد سبباً لزيارة الطبيب، كان قد تحسن كثيراً، ولم يبد أنه يحتاج إلى زيارة الطبيب. ربما أراد أن يخرج للشارع، أن يرى الناس. لما عاد وهي معه، أسرّت لي أنه تكلم!. كنا نعلم أنه يستطيع الكلام، لكننا لم نتوقع أن يعود فيتكلم أبداً، قالت إنه وصف لها الأعراض وتطور حالته قبل دخولهما للطبيب، على أن تقوم هي بعد ذلك بنقل كلامه للطبيب. في الداخل حدق الطبيب في وجهه قليلاً، سأله إن كان يستطيع الكلام، فأومأ بالإيجاب. صمت الطبيب متفهماً، ثم كتب له وصفة جديدة.
غمرتنا الراحة، زالت أسباب الشك تماماً، هو يستطيع الكلام فعلاً، لكنه لا يرغبه. أصبحت هي الصلة بيننا وبينه مع الوقت، كل ساعة تقترب منه، قد يشير لها فتقرب أذنها من فمه، يهمس همساً لا نسمعه، تذهب لتأتيه بكوب من الشاي، أو جريدة اليوم، أو الراديو.
وهكذا لازمته طوال الوقت. كنا نفهم إشاراته ولا نحتاج إلى كلام، مطالبه أصبحت قليلة ولا تحتاج الكلام لوصفها، مجرد إشارات بسيطة ونفهم. ملازمتها له لم تكن ضرورية، كلما فكرت في الأمر وجدت أن ذلك مضيعة لوقتها. لكنه لم يكن ليهمس لأحد غيرها.
كان يهمس لها فتبتسم هي، ثم نسألها ماذا قال، فتخبرنا بمضمون الكلام فقط، لم تكن تحكي لنا تفاصيل الحديث، في الحقيقة لم تكن التفاصيل مهمة ابداً.
في يوم ما غابت هي عن البيت، خرجتْ صباحاً، أراد هو أن يخرج ليرى الشمس ويتنشق الهواء في الخارج، خرجتُ معه لنمشي في الشارع. أثناء النزول رافقتنا في المصعد جارتنا القاطنة في الشقة المقابلة، حكى لي سابقاً أنها جاءت إلى العمارة بعده بأيام قليلة، تعاملا بود في البداية، ولما علم بأنها تعمل راقصة بدأ في وضع الحواجز بينه وبينها، تعامل معها بحرص، قلت الابتسامات المتبادلة بينهما كثيراً، حتى اختفت بعد سنوات من الفتور.
ابتسم لها على غير العادة، ابتسمت هي أيضاً على غير عادتها. كانت قد اعتزلت الناس تماماً لكنها حافظت على مظهرها ولم تغير فيه شيئاً، لم ترتد حجاباً أو غطاءً للرأس، فقط تلك التغيرات القسرية المصاحبة للتقدم في العمر، هذه التغيرات التي ربحت في النهاية لتشكل جسداً مشوهاً، لا يشبه أبداً ذلك الجسد الممشوق الذي رأيته في الصور القديمة. ابتسامتها متوقعة رغم كل ذلك، يعلم كل الجيران بمرضه وصمته، مازالت العمارة صغيرة والجيران قليلون، وكل الاخبار تنتشر بينهم. ومرض أحدهم أو صمته المفاجيء خبرٌ هامٌ للجميع. أجزم أن هذا سبب ابتسامها له، ابتسامةٌ مجانيةٌ من النجمة السابقة.
وهكذا، وصلنا للأسفل، مشي ثلاثتنا في الممر أمام العمارة، توقف هو فجأة، لنتوقف بجانبه بتلقائية، فتح فمه وهو يواجهها، ثم ضم أصابع يمناه رافعاً أنامله إلى اعلى، وظل يومئ بكفه المضمومة هكذا، كأنه يقول لها اصبري، أو كأنه يتوعدها، أو يعلم الله ما يقصد من فعله هذا. لم أتوقع شراً، لكن ابتسامته اتسعت، وانحنى رأسه إلى الأمام، بينما بقيت عيناه مثبتتان على وجهها، تلك النظرة "آلية الدقة" التي تشير إلى كارثة قادمة، قال لها: يا شرموطة!
مشينا في الشارع وأنا أحاول التفكير في كيفية نقل ما حدث إليهم في البيت، لا مقدمات يمكن أن ُتحكى، كل ما سأحكيه ما حدث، الأمر كله لا يعدو كلمة قيلت في لحظة من شخص كبير في السن. تصرف جارتنا كان حكيماً، مشت وكأنها لم تسمع ما قاله، لم تلتفت ولم تخطو بعصبية. أنا وقفت منذهلاً، بحثت في عقلي عن معنى آخر لكلمة "شرموطة"، ربما معنى آخر نسيته أو غاب عن ذهني، لكن الكلمة لا تحمل إلا معنىً واحداً معروفاً، لا جدال أنه قصد أن يشتمها. صدمةٌ سيتلقاها كل من يسمع هذا الكلام، لا أظن أن المباشرة ستكون صالحة، قد أُجمّل الحادث قليلاً، لكن كيف أُجمل كلمة شرموطة؟
أخبرني هو سابقاً، وكجزءٍ من حديثٍ عن كبار السن وعصبيتهم الزائدة، وغضبهم السريع وقلة صبرهم. أخبرني أنهم يبتزون من حولهم عاطفياً، يعتمدون على أن كل من حولهم سيتحمل كل أفعالهم، كنوع من رد الجميل لهؤلاء الكبار، أو كنوع من إظهار القدرة على التحمل. يعلم الكبار كل ذلك ويستغلون كل هذا لصالحهم، فيعمدون لفعل ما لا يخطر على بال أحد، ما لا يخطر على بالهم في الأحوال العادية.
أيضاً يتراوحون بين إبداء الغضب، وادعاء الانفعال، وإظهار الضعف، في مناورات تحكمها الخبرة الحياتية الطويلة، وكل هذا لا سبب له إلا التسلية. وقت كبار السن الطويل الفارغ من أي نشاط يجب ملؤه بأي طريقة.
أتذكر هذا ونحن نصعد السلم، فضل هو أن يصعد الدرجات ببطء بدلاً من استقلال المصعد. نصف ساعة مضت شاهدت فيها كل المناورات التي حدثني هو عنها سابقاً، هو يعلم تماماً أني ما زلت أتذكر قوله هذا، هو يعلم تماماً أني أفهم مناوراته هذه. مع ذلك يستمر في المناورة ليتسلى، وأستمر أنا في التلقي لأظهر مقدار جلدي.
أفكر في مناوراتي المستقبلية البعيدة، بالتأكيد لن تكون مكشوفة هكذا.
May 9, 2010
رجل الزبالة
نشرت في أخبار الأدب بتاريخ 9 مايو 2010
الفتاة الكبرى تمسك بيد رفيقتها الصغرى و تعبران الشارع، هما في الثالثة عشرة و الثامنة، أو أقل، لا أعلم على وجه التحديد. أعرف أنهما لا يدركان شيئاً مما يحيطهما، لا شئ واضح أو مفهوم.
منذ عدة شهور و هما تجلسان يومياً على الرصيف، في انتظار رغيف أو طبق طعام أو ثمرات نصف فاسدة، في حال الشدة تستيقظان صباحاً ليعبثا في أكياس النفايات السوداء. تتفننان في إخراج بقايا تفاحة أو كسرة خبز. هناك دائما بقايا أرز مطبوخ و قشور برتقال. ليست هذه بصدقات، لذلك تأكلناها بنهم و استمتاع.
يأتي من حين لآخر رجل يأكل من الزبالة، هو أقدم منهما، معروف لكل من يسكن الشارع، معروف للزبالين أيضاً. الزبالون بعد إعدام الخنازير الجماعي أصبحوا يتركون أكياساً سوداء على ناصية الشارع، النفاية العضوية أصبحت عبئاً عليهم. رجل الزبالة حل هذه المشكلة، يقوم الزبالون يومياً بفرز سريع للغاية لمحتويات الأكياس، يعرفون الأكياس الخاصة بهؤلاء المبذرين، غير الحريصين على بقايا الطعام، يرمونها في الأكياس السوداء بدلاً من أكلها. آخرون لا يرمون طعاماً أبداً، يأكلون كل شيء، يتندر الزبالون على سكان البيت الازرق في منتصف الشارع، حتى الموز يأكلونه بدون تقشير.
يفرز الزبالون نفايات المبذرين بسرعة، يجمعون بقايا الأكل و القشور في أكياس بعينها، يرمونها على الرصيف على الناصية، ثم يرحلون مسرعين، أصبح التقاطع مكاناً دائماً للنفايات العضوية. يأتي رجل الزبالة يومياً ليأكل، في البداية يفتح الأكياس بسرعة، يمزقها، يبحث بسرعة محمومة، يمسك بالطعام في يده، يرفعه إلى فمه و يلوكه. المراقب له سيلحظ غياب قواطعه، مما يجعل قضم الطعام مستحيل، هو يكسر بقايا الطعام بيديه، ثم يدخل القطع إلى فمه لتطحنها اضراسه. مع الوقت يبدأ في الإقلال من سرعته، يأكل على مهل، يمسح بقايا الطعام في قميصه المتسخ في الأصل. ثم يأكل و يمضغ بهدوء. يجلس على الأرض بعدما يشبع، ثم يبدأ في فرز آخر للأكياس أمامه، هناك دائما فائض من النفايات، يكتشفه رجل الزبالة بعد أن يشبع تماماً، يجمع كل ذلك في كيس أسود، ثم يرحل. يمر يوم أو يومان، ثم نراه ينبش في الأكياس مرة أخرى.
رجل الزبالة كان زبالاً في أحد الأيام، كما يفعل الزبالون الآن، كان يرفع غلقاً ضخماً مصنوعاً من الخوص، يحمله على ظهره بعدما يملؤه بالأكياس السوداء. يظل يمشي و هو يحمل الغلق، ينحني ظهره بزاوية تكاد تكون قائمة، وجهه نحو الأرض. لا ينظر أمامه ليتحاشى الناس، الناس هم من يتحاشونه، السيارات تخاف الاقتراب منه. الكل يتوقف حينما يمر هو، مهدداً إياهم بالقذارة و الرائحة المنتة. ثم طارت عينه اليمنى، وانزلق غضروفه، و كان لا ينطق سوى عدة كلمات، لم يسعفه جسده الآن، لذلك ترك نقل الزبالة و أصبح يمر على البيوت أول كل شهر ليجمع أجرة الزبال، يمسك بالمال و يقربه من عينه اليسرى، حتى سنتيمرترات قليلة، يعد الورقات على مهل، ثم ينظر إلى صاحب المال و يومئ برأسه ثم يرحل. لا ينطق إلا ببضع كلمات، كأنه لا يعرف الكلام. ثم وجدناه في أحد الأيام يفتح الأكياس و يأكل ما فيها.
الفتاتان ظهرتا بدون مقدمات، تحتلان واجهة بيت مهجور، بلا محلات في طابقه الأرضي، تجلسان على الأرض طوال اليوم، تتحركان مع الشمس في الشتاء، تسطع الشمس عليهما من ُفرج متعددة، نتجت من عشوائية ارتفاع المباني الفارعة في وجه شعاع الشمس. بينما في الصيف تسير الشمس في مدار آخر فيتغير النظام العشوائي لظل الارتفاعات الفارعة، يمر الشعاع الشمسي بعيداً عن وجه الفتاتين في الصيف، لكن السمرة المستغربة لشقرة شعريهما تظل واضحة.
شجار أليم اندلع، انتهى بأن ُضربت الفتاة الكبرى بعنف، علقة ساخنة تلقتها من رجل الزبالة، ضرب حقيقي، أمسك بشعرها و أخذ يلطمها حتى فقدت الوعي، تركها لتقوم بعد ثوانٍ، عاد هو إلى الناصية ليأكل. فهم الجميع أن هذا صراع على زبالتنا العضوية، انتصر فيه الرجل ببساطة. إيماناً منا بأن الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى، لم نفعل أي شيء.
بعد أيام وجدنا الفتاة الكبرى تجلس على فخذ رجل الزبالة، يضحك هو و تضحك هي، يربت على ظهرها، و الأخرى الصغيرة تجلس على الرصيف بجانبهما. الآن كل شيء على ما يرام.
تبدو أمورنا التافهة أهم كثيراً من طعام الثلاثي المتعايش في الشارع، سيفكر الكثيرون في وضع نفايات عضوية أكثر المرة القادمة في الكيس الأسود، هي طريقة غير مباشرة، تحمل معانٍ سامية، تضامن إجتماعي و تعايش اشتراكي، على الجانب الآخر تبدو هذه طريقة شريفة لكسب الطعام، على الأقل أفضل كثيراً من التسول وطلب الإعانة و ما يصاحبهما من إهانات.
ثم أفقنا على صوت شجار آخر أكثر عنفاً ، الفتاة تضرب رجل الزبالة هذه المرة، نمرة تخمش وجهه و أذنيه و هو يحاول عابثاً رد أظافرها. انتصر هو في النهاية، كفين اثنين، كانا كافيان لإفقادها الوعي.
هذه المرة، و بكل هدوء، اتجه صاحب الفرن إلى الرجل، وقف أمامه صامتاً أو هكذا بدا لنا، لكنه كان يحدثه و هو ساكن تماماً، لم يتحرك. ثم استدار و دخل إلى الفرن. أطاح رجل الزبالة بذراعه في الهواء مستهيناً بالآخر.
استمر رجل الزبالة في المجيء، هذه المرة منع تماماً الفتاتين من الأكل من الزبالة، يظل طوال اليوم يأكل و يأكل، بعد عدة ساعات يرتب الزبالة بجانب الحائط، ثم ينام بموازاة الحائط، حامياً زبالته من المتطفلين. يستيقظ ليتابع الأكل، يجمع بعض الفضلات في كيس بلاستيكي، ثم و في آخر الليل، يرحل.
كرد فعل ثوري، قرر الكثيرون وضع المزيد من الفضلات العضوية الصالحة للأكل في اكياسهم السوداء، على أمل أن يتخم رجل الزبالة و يقرر ترك الباقي للفتاتين، كرد فعل شعبي، قرر هو أن يتبرز في آخر الليل على ما يتبقى من فضلات عضوية.
في العصر، رأينا الفتاتين يتجهان إلى كومة الزبالة، تنبشانها، ثم تأكلان. في اليوم التالي تكرر الوضع، ثم اعتدنا على ذلك، لم يظهر رجل الزبالة أبداً. بعد عدة أيام سمعنا أنه مات، هو ينام في مكان بعيد، تحت شجرة ضخمة، بجانب سور المترو. قيل إن ثعباناً لسعه أثناء نومه، وجدوه ميتاً في الصباح. لم أعلم ان الثعابين قد تعيش على أسفلت الشوارع، وسط كل هذا الزحام. مشينا في الشارع و نحن ننظر إلى بعضنا نظرات الدهشة، معترفين بفضل الله و مؤمنين بعدالته المطلقة.
بالتأكيد لم تفهم الفتاة الصغيرة ما حدث، صوت الطلقة كان قوياً، عالياً و مؤثراً، على الرغم من صوت ضوضاء الفرن، ربما ما أخافها و جعلها تبكي بحرقة الدماء المنثالة بغزارة من فم صاحب الفرن، أختها الكبرى، ظلت واقفة على الباب، في تلك الساعة كان شعاع الشمس يدخل الفرن المظلم ذي الجدران السوداء، يطل الشعاع من خلف الفتاتين، يطل عبر فتحة الباب، يقع جزء منه على ساقي صاحب الفرن، بينما باقي الفرن معتم.
كنت أقف على شباك الفرن، في الحائط العمودي على الحائط الحاوي للباب، أرى ساقي صاحب الفرن و هما تتشنجان بعد أن دوت الطلقة. كان المكان خالياً إلا منه، لذا أدركت أنه أطلق النار على رأسه. كان جسده مختبئاً في الزاوية، و ما زالت ساقيه تتشنجان. أرى الطفلة الصغيرة، أو أني لا أراها، فقط أرى و أسمع ما يدل على وجودها خلف الأخرى الكبيرة. فقط أسمع صوت شهقة، ثم صمت دام لثوانٍ، تبعه صوات طويل، طال حتى أني ظننت أن الزمن توقف، تبللت عيناي و أنا أظن أني سوف أسمع الصوات طيلة ما تبقى من أيامي. رأيت الرجال و النساء يتحركون و أنا أمسك بالأرغفة و أعود للبيت و الصوات في أذني، ثم أنزل مرة أخرى و أنجب ولداً وفتاةً و يموت الولد وتتزوج الفتاة و أسافر أنا إلى بلاد باردة ثم أموت في عربة مترو مزدحمة و الصوات مازال في أذني، أصبت بالصمم طوال تلك الأعوام و لم أسمع سوى الصوات. لكن الصوات الطويل توقف، لتتبعه صرخات أخرى قصيرة. كانت الفتاة الكبرى لا تزال تحجب الصغيرة بجسدها، رأيت الصغيرة، أو أني رأيت فعلها، رأيتها تسحب ذراع الكبيرة بشدة ترغب في الخروج، الكبيرة المسمرة أمام تشنج الساقين تحركت أخيراً و خرجا معاً، في تلك اللحظة حاولت تذكر وجه الصغيرة، لكني أدركت أني لم أره من قبل أبداً.
February 19, 2010
في الحجرة
دخلت الحجرة….
على اليمين حائط يحوي باب الحجرة. على يساري الحائط ذي النافذة المطلة على الشارع، تبدو أنوار المدينة من خلف الستارة، زرقاء وحمراء، لا أثر للضوء الأصفر في الظلمة. تحت الشباك طاولة منخفضة، أجد عليها نموذجاً صغيراً للكرة الأرضية. متصلٌ بشكلٍ ما بمصدر طاقةٍ ومحركٍ، الكرة تستدير. لكنها تدور في عكس اتجاه دوران الأرض. يتدلى من السقف مصباح أصفر، معلقٌ بسلكٍ كهربائيٍ طويلٍ. يستقر المصباح على بعد سنتيمترات من نموذج الكرة، يضيء جزءاً من الكرة فقط، بينما الجزء الأكبر مظلم، كل شيء في مكانه. على الطاولة المنخفضة بجانب الكرة طبق معدني، به ُكلية حمراء ضخمة، كأنها كلية ثور. هناك ست زجاجات من البيرة تستقر خلف الطبق، الزجاجات "مشبرة" تلك الطبقة الخفيفة من بخار الماء المتكاثف على الزجاج البني البارد. أعلى النافذة هناك جهاز تكييف يبدو معطلاً، لم يعمل منذ زمن. ترابٌ متراكمٌ على وجه التكييف، أنظر إلى إطار النافذة فأجده نظيفاً لامعاً وكأنه ُنظف للتو. أمامي مكتبة تلفزيون ضخمة. الحائط خلفها خال من الأبواب والنوافذ، فقط مكتبة ضخمة تستقر أمامه. أمام المكتبة تستقر زجاجة بلاستيكية من سائل مطهر، "ديتول"، الأحرف تظهر واضحة على الزجاجة. لأول مرة ألاحظ رائحة الفل تفوح في الحجرة. أنظر باحثاً عن الزهرات البيضاء. الرائحة ندية توحي بالطزاجة. وكأن الزهرات لم يقطفن بعد. لكني لا أجد إصيصاً في الحجرة. هناك في طرف المكتبة آنية فخارية للزينة. مكتوب عليها كلام. أحاول القراءة. لكن الكتابة غير واضحة بالمرة. ربما هي آيات قرآنية أو حكم ما. في مواجهتي تماماً وداخل المكتبة أجد صورة لهندي يطعن خديه بسيخ صغير، يدخل السيخ في خده الأيمن الدامي ليخرج من الآخر ماراً بتجويف فمه. على الرف الأعلى أجد بكرات خيوط كثيرة، رزم منها، رزم ملونة. وإلى جانبها رزم لأوراق مقواة، تبدو تعريجات خفيفة على سطحها. استنتجت أن هذه إبر للخياطة، لكني لست متأكداً، سأتأكد حينما أقترب من المكتبة الضخمة. أسفل ذلك هناك مجموعة ضخمة من المجلدات. تبدو الأغلفة من بعيد قماشية خشنة. أرى خيوط القماش بارزة مرتفعة، ذات لون فاتح، على أرضية غامقة. احاول تمييز اللون، لكني لا أنجح. هناك على اليسار صورة لخمس دوائر ملونة. تكونها دوائر أصغر ملونة. ألوان كثيرة حتى أني تهت. في دائرتين أميز حرف R ورقم 2 باللاتينية. كتاب تشريح الجسم البشري هناك في الزاوية. أميز كلمة "أناتومي" بأحرف لاتينية كبيرة.
على الحائط المقابل للنافذة أجد رأساً بشريةً صغيرةً ذات شعر. عيناها مطموستان، أنفها مطموس ولا أميز منه إلا فتحتين. كأنه رأس دمية قبيح للغاية. على الأرض زجاجة شامبو ضخمة، تلك التي تشاهدها عند الحلاقين. ألاحظ السجادة عشوائية الألوان. تتوسط الحجرة وتبدو أطرافها مهترئة مقطعة.
دخلت الحجرة….
حائط باب الحجرة هو حائط البطولات، صورٌ كثيرةٌ جداً. زجاجات روم وبراندي معلقة على الحائط مباشرة، ربما هي ملتصقة به بطريقة ما. زجاجة تيكيلا ذات تشكيلات وبروز. تبدو وكأنها زجاجة معتقة من الأربعينات. أرت ديكو!. على الأرض أسفل الحائط كأس مليئة بالديدان. ديدان بيضاء لا تتحرك لكني أميزها. تفوح منها رائحة الكحول، الديدان سكرانة!. يهب نسيم بارد من النافذة، يحرك الستائر بخفة، أجزم أنها ستائر حريرية. بجانب الشباك حذاء قديم معلق، تآكلت اطراف الحذاء، تآكل نعله. على الجلد أرى طبقات من الوحل والأوساخ والأتربة. ألمس الوحل المتجمد. أحاول تقشيره عن الحذاء فيتفتت بين إصبعيّ ويتساقط على الأرض. رنينٌ ما ينبهني، ببطء أهز الحذاء مرة أخرى فأسمع الرنين بوضوح هذه المرة، أقلب الحذاء لتسقط منه جنيهات ذهبية. أرتبك، فأنا غيرت في نظام الحجرة وقد مُنعتُ من فعل ذلك. أجمع الجنيهات وأضعها مرة أخرى في الحذاء. المصباح بالقرب من الكرة يهتز، يتذبذب ضوؤه. الثريا في سقف الحجرة يضعف ضوؤها. أسمع خطوات قادمة من خارج الحجرة. حالما تقترب أتجمد منتظراً ما سيحدث، أميز صوتاً حاداً، كأنه طرق مطرقة، كعبٌ عالٍ. هناك امرأةٌ قادمةٌ، تلبس حذاءً مفتوح المقدمة. جاكيت بكمين طويلين وقميص تحته، وتنورةً قصيرةً ضيقةً ُتبرز نحافتها. شعرها مفرود على كتفيها. وتمسك بعصا قصيرة، مغلفة بشريط من الجلد الأسود يلتف حولها. وقطعة جلد سميكة في نهايتها على شكل مثلث. أستعد لاستقبالها. أفكر بسرعة في ردود للأسئلة التي ستطرحها علىّ. سأسألها أنا أولاً. بذلك سأتفوق عليها. الخطوات تقترب وتعلو. فجأه تتوقف الخطوات ولا شيء غير الصمت، أنتظر أن تدخل المرأة الحجرة، أن تظهر من خلال إطار الباب. لكني أجد مقبض الباب مغرياً، أمسك المقبض بكامل كفي. ُأدير الباب حول محوره، أغلقت الباب تماماً، أدرت المفتاح. الآن أنا في الحجرة ومؤمن بالكامل. مازلت مواجهاً للباب، لكن خلفي تخفت أضواء الشارع تدريجياً. تخفت أضواء الحجرة تدريجياً. أنا على وشك الغرق في الظلمة. تنطفيء الثريا تماماً. ينطفيء نور الشارع تماماً. لكني ما زلت أرى معالم الحجرة واضحة. هناك وبين الأشياء، نقاط فسفورية تشع نوراً. تضيء الأشياء وتضئ الحجرة.
February 15, 2010
ظَنّ
أخذ يعدل من ملابسه المهترئة التي يظنها بدلةً عسكريةً، و يلمع أغطية الزجاجات التي يظنها نياشين، و يضبط العملات المعدنية على كتفيه التي يظنها نجوماً و صقوراً. خرج الى الشارع، فوقف الناس الذين يظنوه جنرالاً و نظروا اليه باعجاب، ركب الكارو التي يظنها عربة التشريفة، فرد العربجي ظهره و هو يظن نفسه سائق الجنرال، دخل إلى العشة التي يظن الجميع أنها قصر السلطان، و قف أمام الرجل الكسيح الذي يلف خرقة ممزقه حول جبهته و يظنها عمامه، هنأه بالنصر الذي حققه على الذين يظنهم أعداء، قبل يده بتواضع و هو يحلم بالمجد، خرج الى الناس الفرحين بما يظنوه نصراً، رفع بعضهم عصياً يظنوها بنادق، فرك أحدهم يديه فرحاً، فهو يظن أنه سيترقى الى عميد، حمد الآخر الله، فهو قد هرب من التي ظنها معركه، وقد ظن أنه سيحاكم عسكرياً.
دخل الى بيته و جلس على ما يظنه مائده، أخذ يأكل القط الذي يظنه أرنبا، و يشرب الماء الأخضر العفن الذي يظنه ملوخية.
February 12, 2010
بشندي
في يوم ما، و أنا أشاهد مسلسلا مملا، مر أبي أمام التلفزيون، شاهد عبد الحفيظ التطاوي، بوجنتيه البارزتين المكورتين، قال لي أن عم بشندي كان ليشبهه إذا ما تقدم به العمر.
بحسب أبي، أتى بشندي إلى دكان جدي طفلا في العاشرة من العمر او نحو ذلك. يجلس أمام الدكان متفرجا على العمال و هم يخرجون أجولة الرز و القمح، و يدخلون الأخرى الممتلئة بالأذرة و الشعير. ينتظر بشندي حتى أذان العصر، ميعاد إغلاق الدكان، ليجلس أمام الباب منتظرا الليل لينام. في أحد الأيام تقدم بشندي و أمسك بالمكنسة ليكنس الدكان، كانت الكناسة على الرغم من وضاعة الفعل ذات قيمة كبيرة، خلطة معتبرة من الحبوب المتفرقة، يربو وزنها على الرطلين في أقل الأحوال، تباع إلى أصحاب الخيول الأصيلة فقط، تلك الخيول التي تتغذى على خليط الحبوب المعتبر. راقب جدي بشندي و هو يكنس الدكان في همة خرقاء، بذل مجهودا إضافيا، و أضاع وقتا ثمينا حتى أن جدي أخرج ساعته الفضية من سيالته و تابع عقاربها. لكنه انتظر بشندي اللذي جمع الكناسة في شوال صغير و خرج من الدكان مسلما على جدي بحرارة شاكرا إياه على الكناسة. أمره جدي بالبقاء في الدكان حتى الصباح، حتى يأتي الغد ليقرر ما سيعمله بشندي، و أمر أحد صبيان المحل باللإتيان بخبز و جبن و زيتون لبشندي، انتظر قليلا. ثم أقفل الدكان و بشندي مستقر بداخله.
في عام 1949 استقر بشندي في الدكان، كان ظهره طريا في البداية، لم يتحمل وزن الأجولة، فاعتاد على كنس الدكان، و الإتيان بطعام الغداء لجدي من المحلات المجاورة، و الشجار مع أطفال السوق. استمر هذا مدة طويلة، سنين متعددة و هو لا يقوى على حمل شيء. كبر من كان يتشاجر معهم في الشارع، فاستبدلهم هو بآخرين أصغر سنا، مع الوقت أدرك العاملون في الدكان أن جسد بشندي ينمو، لكن عقله بقي متوقفا عند سن العاشرة.
لم يكن طموحا، لم يطلب زيادة في الأجر، لم يفكر في الزواج، لم يتحرش بفتاة، لم يدخن سيجارة، لم يفعل شيئا على الإطلاق، حتى إنه لا يسمع الراديو. و بالتدريج، فقد العاملون بالدكان الاهتمام ببشندي، كانوا يكبرون بينما هو ما زال صغيرا في أعينهم، لم يحاول مشاطرتهم رزقهم أبدا، لذلك لم يحاولوا مضايقته، و تمنى جدي أن يصبح كل العاملين بالمحل مثل بشندي.
في الوقت الذي تكورت فيه وجنتي بشندي، و أخذ وجهه يقترب شيئا فشيئا من وجه عبد الحفيظ التطاوي، بدأ جدي يشعر أن بشندي يفتعل الغباء، كان الأمر محيرا، فلا سبب حقيقي لمثل هذا الافتعال. لكن حوادث قليلة أثبتت أن بشندي يتصرف بحكمة و حرص حينما يتحرك على سجيته، أو حينما يواجهه موقف ما و هو وحيد، بعيدا عن أعين من يعرفونه. أخذ جدي يختبره الاختبار تلو الآخر، راغبا في التيقن مما يظنه، لكن تصرفات بشندي الخرقاء تغلبت على تصرفاته الحكيمة. أرجع العاملون بالدكان الامر لذكاء الاطفال الذي قد يلتمع في لحظات قليلة، ليعود الطفل مرة أخرى للهو و الحماقة. في النهاية ترك جدي الأمر برمته، لم يعد يراقبه و لم يعد يختبره، مع ذلك ظل قلبه في شك.
مع سفر أبي لخارج البلاد، اختفى بشندي من الدكان. كانا صنوان، من عمر واحد تقريبا، ينظر جدي إلى بشندي و حاله التي لا تسر احد، و يحمد الله على نعمه الممثلة في أبي النابه. أبي كان رفيق لعب بشندي، أدرك أن بشندي مختلف قليلا، شرح له جدي الموقف بهدوء. صار أبي مذبذبا بين العطف على بشندي و بين الكره له. بدا لجدي أن سفر أبي كان سببا رئيسيا لهروب بشندي. في أحد النهارات خرج ليقضي حاجته و لم يعد، بحث العاملون عنه، بحث جدي عنه، و لكنه تبخر، لم يعثر له أحد على أثر. كان جدي في أواخر أيامه، شغله المرض و حال عياله عن بشندي، اقتنع جدي أخيرا أن بشندي لم يكن عاقلا قط كما ظن هو. أخذ المحيطون بالدكان يتذكرون بشندي، نوادر بشندي أكثر من أن تحصى، صدقه و إخلاصه كانا نادرين، و نكاته و تصرفاته الطفولية مثيرة للضحكات، بعد أسابيع قليلة، فقد الجميع الأمل في العثور على بشندي أو عودته.
ورث عمي إدارة الدكان، بحكم مرافقة جدي و معرفته بأسرار التجارة. عاد أبي مسرعا إلى البلاد لحضور جنازة جدي، ثم سافر مرة أخرى إلى الخارج، لم يهتم أبي بأمر تجارة الحبوب، لم يشارك عمي في تعلم تلك التجارة، هناك اتفاق بينهما على ترك الدكان لعمي في المستقبل، و ها قد أتى المستقبل. لم يشعر أبي بالظلم، اعتدنا ذلك في العائلة، أحد الذكور يتولى إدارة الدكان وحيدا، يرث التجارة بمخاطرها و مكاسبها، بينما يرث الآخرين مالا أو عقارا، تجارةا لحبوب لا تحتمل الشراكة. عاد أبي الى البلاد بعد عدة سنوات، بعد استقراره زار الدكان ليقابل معارفه من العاملين، و لما علم أن بشندي اختفى منذ مدة حزن كثيرا، ألقى باللائمة على عمي لأنه لم يخبره. كانوا يقولون دائما أن تقارب عمري أبي و بشندي هو ما حنن قلب جدي على الفتى. اعتبره إبنا ثالثا له، لذلك حزن أبي كثيرا على اختفاء بشندي، و أخذ كما فعل العمال من قبل يتذكر نكاته و ضحكاته، بل أنه فكر في التقصي و السؤال عن بشندي، تسائل عن بلده في الصعيد، لكنهم أقنعوه بأن يتفرغ لحياته. مر على اختفاء بشندي ثلاث سنوات، و لا أمل في عودته أبدا.
بعد عدة سنوات وصل خطاب الى الدكان. كان مرسلا إلى جدي، انتظر عمي حتى عاد إلى المنزل، و فض الخطاب في وجود أبي. كان بشندي هو من أرسل الخطاب.
قرأ عمي أن بشندي في الحقيقة مسلم ، و أن اسمه بيومي عبد اللاه، قامت أمه بتهريبه من ديروط خوفا من ثأر ما يلاحق رجال العائلة، عاش طوال الوقت و هو خائف من فكرة الثأر، أمرته أمه بتغييراسمه و دينه و الاستقرار في دكان جدي، قالت له أن كشف سرك في الصلاة، ما أن يراك احدهم تصلي حتى ينكشف سرك، احذر ذلك. ادعى هو الغباء و توقف نمو العقل حتى لا يلفت الأنظار، و لما تكورت وجنتاه و برزتا، و أوشتا بفرع عائلته المشهور رجالها بالوجنات المكورة، قرر ترك الدكان و الهجرة إلى محافظة أخرى بعيدة.
خلال تلك السنوات، تعلم بشندي تجارة الحبوب شيئا فشيئا، لم يمارس المهنة قط، لكنه تابع كل ما يحدث في الدكان و هو جالس في الزاوية، متعللا بغباءه و توقف نمو عقله. علم الصواب و الخطأ، بل علم كيف يحول الصواب إلى خطأ، فشل في تعلم الكتابة لكنه كان يجمع و يطرح الأرقام بسرعة كبيرة. علم فائدة القرش فادخره، كان جدي يتفاخر فيقول " الفلوس في جيبي و الحمير في السوق" ، لم يقصد أنه غني و يستطيع ابتياع الحمير، بل قصد أنه يدخر ماله و ينميه، بينما "الحمير" يمرحون في الأسواق يبتاعون كل ما تقع عليه أعينهم، مبذرين، صارفين قروشهم القليلة، التي لو ادخروها لزادت و استطاعوا شراء السوق بما فيه. ترك بشندي المحافظة و انتقل إلى أخرى. فتح دكانا خاصا به، بدأ في تجارة الحبوب التي وفقه الله فيها، فأصبح تاجرا ذا مهابه و شأن. ابتعد تماما عن التجارة في محافظة جدي، هناك عرف سائد بين التجار، إذا تعلمت الحرفة مني، فكافئني و اترك مكاني و مارس الحرفة بعيدا عني، فلا تضرني. لم يقم جدي بتعليم بشندي، لكنه كان يعلم العرف و يحترمه تماما، لم يجرؤ على منافسة جدي في رزقه. احتفظ بشندي بمكانه سرا، فلم يخبر جدي بمكانه في الخطاب. كان واضحا أنه لم يعلم بوفاته.
في أحد الأيام، نشرت جريدة الأخبار تقريرا ملأ نصف صفحة، متضمنا صورة ضخمة لبشندي بعمة صعيدية و سنوات تربو على الخمسين. كان واقفا أمام دكان جدي، مبتسما مكورا وجنتيه أكثر فأكثر، حتى يظن الناظر أنهما مستقلتان عن وجهه تماما. بينما كان جدي جالسا على كرسيه و قد انحنى ظهره و اتكأ على عصاه "العويجه" الصفراء، تبدو على وجهه سنوات عمره التسعين. بشندي يحيط كتفي جدى بذراعه في حنو محدقا في الكاميرا، و جدي ينظر الى زاوية الصورة متأملا شيئا ما. كان ذلك زمن الوحدة الوطنية. أفطار الوحدة الوطنية، عناق الهلال و الصليب، سلام شيخ الازهر على البابا، و احتضانهما المفتعل بعد ذلك بسنوات قليلة.
أظهر كاتب التقرير كيف أن جدي يستأمن بشندي على دكانه و رزقه و ماله، منذ أن عمل معه في عام 49 و حتى اليوم. في كل يوم يرافق بشندي جدي صباحا، من بيته للدكان و من دكانه للبيت، متابعا الحسابات، مطمئنا على راحة جدي في كل ساعة، سائلا إياه عما يريد او يشتهي، ملقيا نكاتا ظريفة في كل وقت ليضحك العاملون بالدكان بينما يبتسم جدي في هدوء، يرافقه إلى الجامع القريب، منتظرا إياه حتى إتمامه لصلاته ليرافقه مرة أخرى إلى الدكان. بينما يستأذن بشندي جدي في إجازة يوم الأحد ليصلي في الكنيسة، لم يستطع جدي ادارة الدكان وحده بدون وجود بشندي، و هكذا صارت إجازة الدكان يومي الأحد و الجمعة، و كأن بشندي شريك جدي في الدكان و رأيه يحترم مثل رأي جدي. و في آخر اليوم، بعد صلاة العشاء، يعودان معا الى البيت، فينتظر بشندي جدي أمام باب البيت، حتى يصعد جدي الى الشقة، يفتح الشباك و يطل منه مشيرا بيده إلى بشندي، فيطمئن و يمضي إلى بيته. مثال صادق للوحدة الوطنية.
و هكذا، ابتاع أبي عدة نسخ من جريدة الأخبار، احتفظ بها في أماكن متفرقة، و قطع من إحداها التقرير ووضعه تحت زجاج مكتبه، كان عمي قد مات منذ سنوات طويلة، و بيع الدكان بعد وفاته مباشرة. كان أبي ينظر إلى الصورة و يقول: أنظر إلى طربوش جدك، أنظر إلى عصاه، كان حنونا فلم تلمس جلدي قط. أنظر إلى صحته و نور وجهه على الرغم من سنوات عمره الخمسة و تسعين. شف عمك بشندي، مسيحي أصيل و الله، ليس متشددا كما هم اليوم، أخي اللذي لم تنجبه أمي.
اعتبر أبي أن صورة بشندي الخمسيني مع جدي التسعيني هي أفضل ذكرى قد يحصل عليها. فبشندي اختفى من حياته في الثلاثين من عمريهما ، و مات جدي و هو في السادسة و الستين.
بعد أيام طويلة من التأمل، أدرك أبي الشبه اللافت للنظر بين بشندي و عبد الحفيظ التطاوي.
قهوة الخرس
أمسك بمرفقي من الخلف، فاجأني تماما. واقف أنا على الرصيف أنتظر، ليأتي هذا فيضغط مرفقي و يطلب مساعدتي.
ألتفت لأجد رجلا سمينا أبيض البشرة، تغطي عينيه نظارة سوداء ستينية و وجهه متطلع إلى السماء. أعمى، كفيف، هذا أول انطباع، ثم أكتشف أنه سمين لدرجة التكور، كرة حية تتدحرج على قدمين، و لولا بياض بشرته المنير لظننت أني برفقة علاء و لي الدين.
طلب مني أن أعبر معه الشارع الواسع إلى خليفة اللبان، لما وصلنا إليه سلم هو على من بالمحل، فلوح احدهم بذراعيه علامة الملل، و لسان حال زميله يقول: فارقنا، أما الثالث فناوله كيسا من اللبن، لا يزيد ما فيه عن نصف كيلو، فاحتواه السمين بكفه و اختبر حجمه، ثم قلب شفتيه و قال"ماشي". و أخذني من ذراعي و خرج.
طلب أن يمر على عدد من بيوت الشارع، يقف أمام البيت قليلا و أنا معه، يستجدي الخارج و الداخل، و حارس البيت أو العمارة ينظر إليه بعين الغضب المكتوم. الناس يعطونه ما يطلب رحمة بي، أنا الذي تورط معه و استغل هو فراغي ليجعلني مطية له.
أمام آخر بيت، عنفه الحارس بصوت مرتفع، فرفع هذا صوته، رفيعا مهزوزا، كأنه صوت فتاة، يقول في غضب " أنا هاروح للناس الطيبين، أنا ماليش دعوة بيك، أنت واحد بواب حكير، إنما للبيت صاحب أشتكيك ليه"، صاحب هذا ظهور أحدهم خارجا من باب البيت، بصمت مد قبضته فلامس يد الأعمى نصف الممدودة أمامه، فورا سألني الأعمى بصوت عال مسموع للجميع " كام دول؟"، فأجبته" عشرين". فورا سرسع مرة أخرى، "أنا ليا كلام تاني مع صحاب البيت الطيبين، أنت راجل بواب على قد حالك، إيش فهمك انت في الكرم و الجود". و جمل أخرى بذات المعنى. تفاجئني ضربة مكتومة خفية في صدر الرجل، و صوته يقول "أي"، ثم أنظر الى شيء كرة ما تتدحرج بعيدا عنا على الأرض، بصلة حمراء.
جذبني من ذراعي و هو يقول " إجري يا عم دول عالم وسخة، مالقوش أرخص من البصلة يرموني بيها". كنت سأجيبه أن الحجر أرخص كثيرا، لكن قضاء الله كان خفيفا هذه المرة.
مشينا كثيرا، تارة يسألني عن عملي، أخرى عن اسمي و سكني. أجيبه بتحفظ فيحاول هو أن يقلب الجدية إلى مزاح. يرتجف هو من البرد، تصطك أسنانه على الرغم من الشحم المحيط به، يقول لي أنه يتمنى أن يجد "بالطو" على مقاسه، كل "البلاطي" ضيقة عليه، أو أنها خفيفه لا تحميه برد الشتاء.
يقول لي أن الله يرفع عنا العذاب بهذا البرد، يكفر عن بعض سيئاتنا، يعذبنا بالبرد في الدنيا حتى لا يعذبنا بالنار في الآخرة. أما هناك في روسيا، فالله خلق لهم الفودكا ليتدفؤا بشربها، إذا شرب الرجل كأسين من الفودكا ظل دافئا طوال الليل، لا يشعر بالبرد الروسي. أنظر إلى حكمة الله، يجعل من الخمر دواء للبرد، يعالج الروس برد دنياهم بالفودكا، لكنهم سيذوقون لهيب النار في الآخرة جزاء شربهم للفودكا.
أسمع أذان الفجر، هل مر كل هذا الوقت منذ أن رافقت الأعمى؟. يسألني، هل وصلنا لمحل خريستو؟ اقتربنا منه كثيرا، عشرة أمتار و نصل. حالما نصل يقف هو، يقول لي أرشدني إلى باب المحل المغلق، يخطو خطوتين إلى اليمين، يأمرني هو بالدخول. إلي أين؟ لا أرى شيئا، يأمرني بالتقدم قليلا لأرى ما يقصده، أتقدم فعلا و هو يمسك بذراعي، ألحظ فرجة مظلمة بين المبنيين، ضيقة جدا، مجرد فرجة بعرض شبرين، أضطر لدفعه أمامي، فالفرجة لا تتسع لكلينا.
يجلس هو مستندا بظهره إلى الحائط، يأمرني بالجلوس، أمر و ليس طلب. يقول أني تعبت كثيرا و لا بد من كوب ليمون ليرد جميلي. يخرج نقودا من جيبه و يعدها بحرص، عيناه تتجهان إلى حيث النقود، تتجهان إلي حين يخاطبني، و ليس كسائر أعين العُمي، تتيه و لا تستقر على مشهد. يقول لي أن المكان هنا هو قهوته المفضلة.
القهوة مجرد ممر بين مبنيين، في العمق و على يمين و يسار الممر أرى اتساعا في عرض الممر، فراغ على شكل نصف دائرة ضخمة، هذا هو المدخل الثانوي للمبنى، مدخلين متقابلين يكونان دائرة ضخمة، هذه هي القهوة. في الأعلى بقايا لأسياخ حديد تخرج من المبنى، تتلاقى بعشوائة لتكون سقفا حديديا فوق القهوة. يبدأ ضوء النهار في ملأ المكان.
يطلب هو شايا له و ليمونا لي، يبدأ هو بالترحيب بي في مقره، قهوة الخرس. حيث كل الزبائن صم بكم، القهوجي نفسه أصم أبكم، صاحب القهوة كذلك. أتسائل كيف عرف القهوجي ما طلبه "الأعمى"؟، ربما هو ليس بأصم، أبكم فقط. على أي حال، صممه لن يقف حائلا بينه و بين التخديم على زبائن بكم.
يقول "الأعمى" أنه زار كل مقاهي البلد، من الشرق الى الغرب، و من بحري إلى قبلي، لم يجد أفضل من هذا المقهى. الخصوصية المتمثلة في صمت المكان على الرغم من امتلائه نادره، لن تجدها إلا في "قهوة الخرس". يقول لي أنه جمع معلومات عن مقاهي البلد كلها، كتبها في أوراق لكي لا ينساها، بعض المقاهي يصفها في سطر أو اثنين، مقاهي أخرى يصفها في عدة صفحات. كان الأعمى قديما رجلا شهيرا بجولاته بحثا عن مقاهي البلاد، معاينا المقهى من الداخل، متذوقا ما يقدمه من مشروبات و دخان، متعرفا على العاملين بالمقهى و مصادقا صاحب المكان.
أتعرف نجيب محفوظ؟، سرق الرجل مني فكرة أحد كتبه، كنت قد حدثته عن مقاه مررت بها في العشرينييات و الثلاثينييات، مقاه شهيرة و أخرى مغمورة، غرز تقدم الحشيش، بوظات تنتشر في شبرا و روض الفرج، استخدمها هو بعد ذلك، أظهر البوظة مكانا يعج بالمخمورين و الفاسدين، كأنها ماخور لا يدخلها إلا من غضب عليه من شخصياته. بينما الحقيقة أنها كانت مكانا يجتمع فيه علية القوم، البوظة تقدم في أوان على شكل نصف دائرة، و ذلك لكي تستمتع برائحتها الخفيفة قبل أن يلمس السائل لسانك. بيضاء ذات قوام كثيف، لكي يظهر فيها أي قذى أو عيب، كذلك لكي تتحكم في السائل إذا ما أصابك سكر.
حدثته عن مقاهي الأكابر، و مقاهي القوادين، و مقاهي المشخصاتيه، و مقاهي السياسيين، و الوفديين، و الطلبة، و الصنايعية، و مروجي الحشيش، لكل طائفة مقهى. لكني لم أحدثه قط عن هذا المقهى، لذلك لم يذكره في أي من رواياته.
ثم وجدت كتابا يصف فيه المؤلف ما جمعته خلال ثمانين عاما من التجوال بين المقاهى، الرجل ظلمني ظلم بين. هو نجيب محفوظ لا شك في ذلك، لكنه تحايل على ما فعل فكتب على غلاف الكتاب "أحمد محفوظ"، لا أستطيع أن أقاضي نجيب أو أن أتهمه بالسرقة. كذلك ، لا وجود لشخص باسم أحمد محفوظ، و بالتالي لا أستطيع مقاضاة أي شخص. حتى الآن جهدي مسروق و منسوب للغير، لكني لا أستطيع عمل أي شيء. حرام و الله.
أدار القهوجي التلفزيون، مباراة بين منتخبنا و منتخب آخر. صيحات اعتراض تتصاعد من بين الجالسين المنتبهين للتلفزيون. يظلون هكذا حتى يغير إلى محطة فضائية أخرى، تعرض نفس المباراة. يتطوع الأعمى بالتفسير، هم لا يريدون مشاهدة تلك القناة، معلق تلك القناة تونسي ثرثار و صاحب صوت غاية في الإزعاج. بينما معلق هذه القناة مصري صميم، لهجته مفهومة مقبولة. هو ممل أيضا، لكن نصف العمى أفضل من كل العمى.
هدف يتبعه آخر، ثم تنتهي المباراة، ليقوم الخرس من على مقاعدهم، ضوضاء و صياح و كلام غير مفهوم، بعضهم يمسك بالطقاطيق الصغيرة الخاصة بالقهوة و يبدأ في التطبيل عليها بحماسة. مجرد ضربات و أصوات لا تحمل إيقاعا معينا، نشاز و صخب تطبيلي من أشخاص لا يسمعون، منفعلون من فرط الفرحة.
ينظر إليهم الأعمى و هو يضحك، يقول لي أنه يري هذا المشهد لأول مرة، مستمتع هو بالفوضى السارحة بينهم. يظهر القهوجي فجأة، بهدوء يمسك طقطوقة من يد أحدهم، يضعها على الأرض، يضع كفه على كتف الواقف، ثم يجلسه على الكرسي، يستجيب الأخرس و يجلس في هدوء. يكرر القهوجي فعله مع اثنين آخرين، فيجلس الجميع بشكل آلي. يغلق القهوجي التلفزيون، يبدأ الجميع في حوار بالأيدي و حركات الشفاة.
هناك في الزاوية، تجلس مجموعة تتحاور بالأيدي أيضا، خمسة يتكلمون سويا، لا أعرف من يسمع و من يتكلم، الجمل المشروحة بالأيدي قصيرة جدا، ستظن أنهم يتكلمون بلا انقطاع، لكنهم يتوقفون لفترة قصيرة بين كل جملة و الثانية، تانيتين أو ثلاث فقط. يقوم الأعمى قائلا أن المغرب أذن و يجب عليه السعي. يلبس نظارته السوداء و يمسك عصاه ثم يتحرك باتجاه الفرجة الضيقة. يظلم المكان، يبدو أنهم لا يستخدمون مصابيح هنا، نور الشارع يصل إلي من الفرجة الضيقة، و أنوار أخرى من الشبابيك حولنا، يبقى الظلام متغلبا على النور. في الركن ما زال الخمسة يتكلمون، ركنهم مظلم تماما، أرى التماعة ساعة أحدهم، بياض قميص الآخر، و أسمع ضحكات قصيرة تنبعث من بينهم، لكني لم أعد أرى أيا منهم.
يدخل رجل و امرأة محجبة، زوجان في الخمسينييات، يجلسان صامتين، يأتي القهوجي و بلا كلمات يضع أمامهما كوبين من الشاي، تشبك المرأة أصابع يديها و تنظر إلى الأرض، تتأمل تراب أرضية القهوة، بينما يعقد الرجل ساعديه ملتفتا إلى الناحية الأخرى، ينظر في الركن المظلم حيث الخمسة ما زالوا يتحدثون. تشير المرأه بسببابتها أن لا، ترفض ما حدث، تدير رأسها نافية، أو أنها رافضة. ما زالت تنظر إلى الأرض، تنفي الأمر بهز رأسها ، و تشير بإصبعها : لا، كأنها تشير إلى طفل صغير يجلس على الأرض، تمنعه من فعل شيء ما، أو أنها تشير إلى قطة جالسة. يزداد الأمر سوء، تضم شفتيها و تخرج صوتا: تؤ تؤ تؤ تؤ. عندها يلتفت الرجل إليها، يحتوي يدها في راحته، يضعها على الطقطوقة بينهما. و ينظر إلى الركن المظلم.
هناك يجلس سائح، يبدو ذلك من نوع ملابسه و لون عينيه. يقف القهوجي أمامه مشيرا بيده، سائلا ماذا سيشرب؟ يخبره أنه لا يريد شرابا، يبدو ان مشروباتنا لم تعجبه، لكنه يشير بيده، يريد شيشة، يضحك القهوجي و يشير بسبابته إلى الأرض، الآن؟ يومئ الأجنبي موافقا، يرفعان إبهاميهما علامة الاتفاق. يشعل الأجنبي سيجاره، دقيقة ثم يغادر القهوة.
يدخل الأعمى مرة أخرى، يقول لي أن اليوم كان منحوسا، جمع عشرة جنيهات فقط، فكة، فضة، مل هو القروش ذات الأصوات في جيبه، لكنه لا يستطيع الرفض. بعدما ظن أن الحكومة طبعت ربع الجنيه الورقي خصيصا لترفع من شأن الشحاذين، فهم أنها صكت الجنيه المعدني لتذل الناس جميعا. قلت له أن المعدن أفضل، لن يتقطع و لن يتآكل من العرق، ثقيل و يشعرك بقيمته بعكس الورقي، نظر إلي، سألني هل أقبل استبدال مائة جنيه معدني بورقة واحدة. طبعا أقبل، لكني لا املك ورقة واحدة الآن.
يدخل الأجنبي مرة أخرى، يحمل حقيبة بلاستيكية، مطبوع عليها ظل رجل انجليزي طويل، يمشي متباهيا، مباعدا ما بين ساقيه. أسمع صوت ارتطام الزجاج حينما يمر بجانبي، يجلس و يضع الحقيبة على الأرض. يقترب القهوجي منه و يسقط في جيب قميصه شيئا ما. يقوم الأجنبي فورا تاركا الحقيبة على الأرض.
يضربني الأعمى بمرفقه، "بص دي!". يشير إلى القهوجي، طالبا زجاجة عناب كاملة. يشير النادل لعينيه، هذه قهوة و ليست محلا للعصير، و لكن الأعمى عليه الإشارة فقط. يتجه القهوجي إلى النصبة المختفية بالداخل، يتبعه الأعمى برشاقة و هدوء بالغين. يتجه إلى الحقيبة البلاستيكية، يحملها بهدوء، يخرج بها مسرعا.
أفهم ما حدث أخيرا، أنا في موقف سيء جدا، فأنا الوحيد الذي دخلت مع الأعمى و حادثته، و حتما سيعود القهوجي بزجاجة العناب للأعمى، ليكتشف هروبه و اختفاء الحقيبة البلاستيكية. حتما سأكون محل شبهات، شريك الأعمى أنا في سرقته. يجب أن أرحل فورا، أحاول أن أقوم من مكاني لكني لا أستطيع، كسل لا مبرر له يصيبني، رغبة في أن أعرف ما سيحدث بعد دقائق، مغامرة جديدة. يقترب القهوجي مني و هو يحمل الزجاجة.