مناورات مكشوفة

لا نعرف متى بدأ في صمته هذا. في أحد الأيام، قرر أن يصمت تماماً، لم يرد على من خاطبه طوال اليوم، فقط ينظر إلينا حينما نحادثه، ولما يظهر القلق على وجه من يخاطبه، يرفع كفه مطمئناً، يعلمنا أنه بخير، ثم يحدق في الأرض.


بالطبع أصابنا القلق. منذ مدة وهو مريض، نسمع صوته وهو يتألم طوال الليل، لكننا لا نستطيع فعل شيء، فقط نسمع ونصمت. بينما هو يقاوم الألم. بالأمس فقط بدا أنه ألمه قد زال. لم يعد يئن كما في الأيام السابقة، انتظم تنفسه ونام بعمق.


المرض ليس خطيراً كما ظننا، لكنه بلا علاج فعّال. العلاج يتمثل في تعديل العادات الغذائية والحياتية، لا شيء آخر قد يفيد. أي تغيير ولو كان ضئيلاً يضايقه ويؤرقه، ولما كف عن الأنين ظننا أن كل شيء على ما يرام.


ثم قل حديثه كثيراً، حتى صمت تماماً، لا نعرف متى بدأ في صمته هذا. تأقلمنا بسرعة على الوضع، كانت صدمات المرض السابقة كافية للتأقلم على أي وضعٍ تالٍ، اعتدنا على صمته الدائم وكأنه لم ينطق قط.


ثم قرر أن يزور الطبيب، وجدناه يشرع في ارتداء ملابسه، ولما سألناه ماذا يفعل، أشار إلى الوصفات الطبية الموضوعة على المنضدة، تذكرنا أن عليه زيارة الطبيب اليوم. لم يقل شيئاً ولم يطلب منا الحضور، ذهبت هي معه إلى الطبيب.


لم أجد سبباً لزيارة الطبيب، كان قد تحسن كثيراً، ولم يبد أنه يحتاج إلى زيارة الطبيب. ربما أراد أن يخرج للشارع، أن يرى الناس. لما عاد وهي معه، أسرّت لي أنه تكلم!. كنا نعلم أنه يستطيع الكلام، لكننا لم نتوقع أن يعود فيتكلم أبداً، قالت إنه وصف لها الأعراض وتطور حالته قبل دخولهما للطبيب، على أن تقوم هي بعد ذلك بنقل كلامه للطبيب. في الداخل حدق الطبيب في وجهه قليلاً، سأله إن كان يستطيع الكلام، فأومأ بالإيجاب. صمت الطبيب متفهماً، ثم كتب له وصفة جديدة.


غمرتنا الراحة، زالت أسباب الشك تماماً، هو يستطيع الكلام فعلاً، لكنه لا يرغبه. أصبحت هي الصلة بيننا وبينه مع الوقت، كل ساعة تقترب منه، قد يشير لها فتقرب أذنها من فمه، يهمس همساً لا نسمعه، تذهب لتأتيه بكوب من الشاي، أو جريدة اليوم، أو الراديو.


وهكذا لازمته طوال الوقت. كنا نفهم إشاراته ولا نحتاج إلى كلام، مطالبه أصبحت قليلة ولا تحتاج الكلام لوصفها، مجرد إشارات بسيطة ونفهم. ملازمتها له لم تكن ضرورية، كلما فكرت في الأمر وجدت أن ذلك مضيعة لوقتها. لكنه لم يكن ليهمس لأحد غيرها.


كان يهمس لها فتبتسم هي، ثم نسألها ماذا قال، فتخبرنا بمضمون الكلام فقط، لم تكن تحكي لنا تفاصيل الحديث، في الحقيقة لم تكن التفاصيل مهمة ابداً.


في يوم ما غابت هي عن البيت، خرجتْ صباحاً، أراد هو أن يخرج ليرى الشمس ويتنشق الهواء في الخارج، خرجتُ معه لنمشي في الشارع. أثناء النزول رافقتنا في المصعد جارتنا القاطنة في الشقة المقابلة، حكى لي سابقاً أنها جاءت إلى العمارة بعده بأيام قليلة، تعاملا بود في البداية، ولما علم بأنها تعمل راقصة بدأ في وضع الحواجز بينه وبينها، تعامل معها بحرص، قلت الابتسامات المتبادلة بينهما كثيراً، حتى اختفت بعد سنوات من الفتور.


ابتسم لها على غير العادة، ابتسمت هي أيضاً على غير عادتها. كانت قد اعتزلت الناس تماماً لكنها حافظت على مظهرها ولم تغير فيه شيئاً، لم ترتد حجاباً أو غطاءً للرأس، فقط تلك التغيرات القسرية المصاحبة للتقدم في العمر، هذه التغيرات التي ربحت في النهاية لتشكل جسداً مشوهاً، لا يشبه أبداً ذلك الجسد الممشوق الذي رأيته في الصور القديمة. ابتسامتها متوقعة رغم كل ذلك، يعلم كل الجيران بمرضه وصمته، مازالت العمارة صغيرة والجيران قليلون، وكل الاخبار تنتشر بينهم. ومرض أحدهم أو صمته المفاجيء خبرٌ هامٌ للجميع. أجزم أن هذا سبب ابتسامها له، ابتسامةٌ مجانيةٌ من النجمة السابقة.


وهكذا، وصلنا للأسفل، مشي ثلاثتنا في الممر أمام العمارة، توقف هو فجأة، لنتوقف بجانبه بتلقائية، فتح فمه وهو يواجهها، ثم ضم أصابع يمناه رافعاً أنامله إلى اعلى، وظل يومئ بكفه المضمومة هكذا، كأنه يقول لها اصبري، أو كأنه يتوعدها، أو يعلم الله ما يقصد من فعله هذا. لم أتوقع شراً، لكن ابتسامته اتسعت، وانحنى رأسه إلى الأمام، بينما بقيت عيناه مثبتتان على وجهها، تلك النظرة "آلية الدقة" التي تشير إلى كارثة قادمة، قال لها: يا شرموطة!


مشينا في الشارع وأنا أحاول التفكير في كيفية نقل ما حدث إليهم في البيت، لا مقدمات يمكن أن ُتحكى، كل ما سأحكيه ما حدث، الأمر كله لا يعدو كلمة قيلت في لحظة من شخص كبير في السن. تصرف جارتنا كان حكيماً، مشت وكأنها لم تسمع ما قاله، لم تلتفت ولم تخطو بعصبية. أنا وقفت منذهلاً، بحثت في عقلي عن معنى آخر لكلمة "شرموطة"، ربما معنى آخر نسيته أو غاب عن ذهني، لكن الكلمة لا تحمل إلا معنىً واحداً معروفاً، لا جدال أنه قصد أن يشتمها. صدمةٌ سيتلقاها كل من يسمع هذا الكلام، لا أظن أن المباشرة ستكون صالحة، قد أُجمّل الحادث قليلاً، لكن كيف أُجمل كلمة شرموطة؟


أخبرني هو سابقاً، وكجزءٍ من حديثٍ عن كبار السن وعصبيتهم الزائدة، وغضبهم السريع وقلة صبرهم. أخبرني أنهم يبتزون من حولهم عاطفياً، يعتمدون على أن كل من حولهم سيتحمل كل أفعالهم، كنوع من رد الجميل لهؤلاء الكبار، أو كنوع من إظهار القدرة على التحمل. يعلم الكبار كل ذلك ويستغلون كل هذا لصالحهم، فيعمدون لفعل ما لا يخطر على بال أحد، ما لا يخطر على بالهم في الأحوال العادية.


أيضاً يتراوحون بين إبداء الغضب، وادعاء الانفعال، وإظهار الضعف، في مناورات تحكمها الخبرة الحياتية الطويلة، وكل هذا لا سبب له إلا التسلية. وقت كبار السن الطويل الفارغ من أي نشاط يجب ملؤه بأي طريقة.


أتذكر هذا ونحن نصعد السلم، فضل هو أن يصعد الدرجات ببطء بدلاً من استقلال المصعد. نصف ساعة مضت شاهدت فيها كل المناورات التي حدثني هو عنها سابقاً، هو يعلم تماماً أني ما زلت أتذكر قوله هذا، هو يعلم تماماً أني أفهم مناوراته هذه. مع ذلك يستمر في المناورة ليتسلى، وأستمر أنا في التلقي لأظهر مقدار جلدي.


أفكر في مناوراتي المستقبلية البعيدة، بالتأكيد لن تكون مكشوفة هكذا.


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 30, 2010 12:20
No comments have been added yet.