إنها آلية عبر السجود نفسه ، السجود نفسه يجعلنا أقرب إلى حقيقتنا ، يجعلنا أقرب إلى الحقيقة الأهم في هذا الكون ، يجعلنا أقرب إليه ، وأقرب إلينا ، وأقرب إلى ما يجب أن نكونه ..
كيف لم نتنبه لهذا؟ كيف لم ندرك أن السجود لله يتضمن أيضا ذلك العناق المليء بالود للأرض، موضع الخلافة، مناط التكليف؟ الأرض التي خلقها الله لنا وخلقنا بهذا الشكل والسوية لنكون لها؟
يجب ألا يكون بناؤك نسخة أخرى من بنيانهم الفرعوني، مهما كان مبهرا ومبهرجا وناطحا للسحاب. لأن من هو "أعلى"، بقدرته وسننه وقوانينه، جعل الهاوية موضعا لكل من يستعلي.
من أجل ذلك سبق الركوع السجود. ذلك أن السجود هو خضوع "كلي" لله. إنه كناية عن خضوع بكامل الجسد والروح لله عز وجل. وهذا الخضوع - إسلاميا وقرآنيا - يجب أن يمر أولا عبر العقل، عبر إعلان هذا العقل خضوعه لخالقه. والخضوع العقلي يتطلب رفضا لأي عقيدة أو إيديولوجية أو نمط حياة مخالفة أو متناقضة مع ما أمر به الله. عبر خضوع حقيقي للعقل - ممثلا في ركوع حقيقي - يمكن الوصول إلى ذلك الخضوع الشامل، الممثل في السجود.
لكن ما في يمين موسى سيكون له مآرب أخرى فعلا. مآرب أكبر بكثير من تفاصيل الحياة الصغيرة. ما في يمينك يا موسى سيكون له دور في تغيير العالم من حولك. ما في يمينك يا موسى سيقود الثورة ضد فرعون وسيقود عملية الإصلاح الاجتماعي لقومك.
السجود، كهيئة، يترك أثرا كالندبة على الجبهة. أما السجود، كقضية تعيش من أجلها، تتنفسها بكل أعماقها، بكل أعماقك، فهو يترك أثرا أعمق وأوضح من الندبة على الجبين. إنه أثر على الوجه كله. وليس على الجبين فقط.
والذي أخرج المرعى: تشير إلى كل ما وضعه الله عز وجل في باطن الأرض مما يمكن إخراجه ورعايته واستثماره من أجل إنماء العالم وتحسينه وصياغته بشكل أفضل. إنها تشير إلى كل الثروات التي أودعها الله في الأرض التي وضع فيها الإنسان خليفة. وكل ما قامت عليه كل الحضارات - حضارات العلو كما حضارات الاستخلاف - كلها قامت على الاستثمار في وديعة الثروات هذه، ورعايتها، بفارق أن حضارات العلو ستستخدم في علوها واستعلائها، ويتحول الاستخدام هنا مع الوقت، من "مرعى" إلى استنفاد إلى غثاء أحوى.
لكن حالة اللابناء واللاحضارة التي نعيشها يجب ألا تجعلنا ننبهر بمحض التطاول، بل علينا أن نتنبه إلى الأسس، لكي لا يكون بناؤنا محض استيراد، نسخة مقلدة من علو متهاو، لكي نفرق بين التمكين والاستخلاف، وبين العلو والتطاول، الذين قد يكون فيهما بعض التشابه في بعض المظاهر. لكن جبهة الأول، ستكون في الأرض، علامة السجود الذي هو رمز الاستخلاف. أما الثاني فجبهته تتصور أنها تناطح السحاب، علامة العلو الذي مصيره الانهيار.
هذه الرؤية التي ترى أن الأرض هي "مرعى" يجب المحافظة عليه بقدر ما يجب استثمار كنوزه، هي رؤية معاكسة ومضادة تماما لرؤية الحضارة السائدة الآن، التي هي رؤية تعتمد على مبدأ "قهر الطبيعة"، "غزو الفضاء"، ناطحة السحاب". وكلها تعبيرات تحتوي في داخلها على رؤية هذه الحضارة للطبيعة وتعاملها معها، تعامل قائم على أن هذه الأرض تضم موردا للربح يجب اغتنامه بأقصى وأقسى طريقة، ولو باستنفادها، ولو بنهب ما للآخر وسلبه، ولو بتدمير وتخريب توازنها ومنظومتها عبر استنفاد جزء وتخريب آخر. إنها الرؤية التي تنطلق من مفهوم أنهم "قادرون عليها"، والتي تتصرف على هذا الأساس، حتى لو انتهت بدمار لاحق بموعد آجل.
والحقيقة هي أن هذا القرآن هو الذي أخرجنا من البدو، كما حدث مع أبوي يوسف آنفا، لكن بفارق أن "البداوة" ليست مرحلة تاريخية أو موضعا جغرافيا. إنها خيار نفسي واجتماعي وحضاري. خيار ألا تفعل شيئا، وألا تنتج شيئا. أن تكون محض مستهلك، أو تاجر ترانزيت في أحسن الأحوال. وعندها لن تكون البداوة مرتبطة بخيمة متنقلة في الصحراء، بل قد تكون في منزل فاره مليء بالأدوات الحديثة، وقد يكون "البدوي" هنا يتقن عدة لغات، أو على الأقل يستعمل كلمة من هذه أو تلك هنا أو هناك، من أجل الظهور بمظهر الحضارة، لكن ذلك لن يغير من حقيقة البداوة في أعماقه، ما دام على الهامش، ما دام لم يدخل في طور الحضارة حقا.
لقد سوَّانا، أي أبلغنا الذروة، منحنا العقل، وأدواته كافة، ونفخ فينا من روحه: وبعد ذلك يجب أن يكون كل شيء واضحا؟ لا! أن نكتشف بعض الأشياء، بما منحنا إياه من أدوات، بما أعطانا من معلومات، بذلك التوق الذي يسكننا، لن يكون أمرا سيئا على الإطلاق. لقد وضع لنا الأزرار، ومنحنا الأنامل لنتلمس الدرب، والحدس لنميز الاتجاهات، والرغبة في النور.