“كانت الحياة لتصبح أبسط لو أن كل الأشياء المرفوضة أخلاقيا كالفساد هي في الوقت نفسه ذات عواقب اقتصادية سلبية واضحة لا لبس فيها. لكن الواقع أكثر تشوشا من هذا. ولو أننا نظرنا فقط إلى نصف القرن الماضي لرأينا أن هناك ولا شك دولا دمَّر الفساد العنيف اقتصادها -مثل زائير في ظل موبوتو أو هاييتي في ظل دوفليير. وفي الطرف المقابل، لدينا دول مثل فنلندا والسويد وسنغافورة المعروفة بنظافتها وبجودة اقتصادها أيضا. ثم إن لدينا دولا مثل إندونيسيا كانت شديدة الفساد وذات أداء اقتصادي جيد. ودول أخرى -يخطر منها على البال إيطاليا واليابان وكوريا وتايوان والصين- كان أداؤها في تلك الفترة الأخيرة من أداء أندونيسيا برغم فساد عميق ومنتشر وغالبا ما كان واسع النطاق (وإن لم يكن في جسامة الفساد في إندونيسيا).
والفساد ليس ظاهرة من ظواهر القرن العشرين وحده، فأغلب دول العالم الثرية اليوم نجحت في التحول إلى الصناعة برغم أن الحياة العامة فيها كانت على قدر مبهر من الفساد *. في بريطانيا وفرنسا، كانت إقامة المزادات العلنية على المناصب العامة (ناهيكم على المناصب الفخرية) مسلكا شائعا حتى القرن الثامن عشر على أقل تقدير. وفي بريطانيا، حتى القرن التاسع عشر، كان من قبيل السلوك الطبيعي للغاية أن "يستعير" الوزراء ميزانيات وزاراتهم لتحقيق أرباح شخصية. [...] وانتشر تزوير الانتخابات وشراء أصوات الناخبين، كما تضمنت الانتخابات في الولايات المتحدة، وهي بلد فيه كثير من المهاجرين، توطينا فوريا للغرباء غير القابلين قانونيا للتوطين، فتصبح لهم أصوات، وكان ذلك يتم "دونما قداسة، وفي عجلة، لا تضاهيها إلا عجلة تحويل الخنازير في مجزر إلى لحوم معبأة" بحسب ما كتبت نيويورك تربيون في 1868.
ـــــــ
* كان لهم فسادهم وإن اختلف عن التعريف السائد اليوم للفساد. فحينما وجه البرلمان اتهام الفساد سنة 1730 لروبرت وولبول، اعترف الأخير بأريحية بأن لديه ضياعا كبرى وتساءل: "ما الذي يتوقعه أيكم ممن شغل أحد أعلى المناصب ربحا لقرابة عشرين عاما؟ إلا لو كانت جريمةً أن يجني المرء ضياعا عظيمة من منصب عظيم". وقلب المائدة على رؤوس متهميه إذ سألهم: "ألا تكون الجريمة أعظم حينما يحصل امرؤ على ضيعة من منصب أدنى؟" انظر [...]”