(?)
Quotes are added by the Goodreads community and are not verified by Goodreads. (Learn more)
Mikhail Naimy

“وأبصر في المباني و المساكن , والمتاجر , والمصانع , والمعابد , والمستشفيات , والثكنات , والمقاهي , والملاهي , والمحاكم , والسجون , ودور العلم والفنّ وغيرها وغيرها من أصناف المباني التي يشيدها الناس لشتى الغايات والمناسبات .

ففي المساكن أبصر أرحاماً تمتلئ وأرحاماً تفرغ . وأبصر طفولة تحبو إلى الصبا , وصبا يندفع نحو الشباب , وشباباً يعدو إلى الكهولة , وكهولة تهرول إلى الشيخوخة , وشيخوخة تدبّ إلى القبر . أبصر عيوناً تدمع , وعيوناً تضحك , وعضلات يفتّتها الوجع والهلع , وأوداجاً يفجّرها الحقد والغضب . أبصر هموماً تتلبّد غيوماً , وغيوماً تنقشع عن نجوم .أبصر حياة الناس في جدّها وهزلها , وفي مدّها وجزرها .

وفي المتاجر أبصر باعة يترصّدون الشاري ترصّد العنكبوت للذبابة . والكلّ قد علقوا في شباك لا براح لهم منها . إنّها شباك الإله الساحر الماكر القهّار الذي اسمه الدينار .وفي المصانع أرى بشراً يعالجون ماكينات لا لحم فيها ولا دم , ولا فكر لها ولا قلب . ولكنها تستعبد الذين يعالجونها , فتمتصّ لحومهم ودماءهم , وتستبدّ بأفكارهم وقلوبهم بإسم التقدّم وإسم الدينار .

وفي المعابد أرى بخوراً وشموعاً تحترق , وجباهاً تنطح الأرض , وأكفّاً ترتفع إلى فوق , وأيدياً تقرع الصدور , وشفاهاً تتمتم ابتهالات وتسابيح وتضرعات . فلا أرى الجباه تشرق بالنور , ولا الأكفّ تمتلئ بالخيرات , ولا الصدور تتطهّر بالبخور , ولا الشفاه تسيل بالبركات .

وفي المستشفيات أرى المباضع تعمل في اللحم والعظم , وفي الأحشاء والأمعاء . وأرى الجراثيم في سباق مع العقاقير , والأسرّة تترنّح بالأوجاع , والذين تجنّدوا للدفاع عن العافية ضدّ السقم أرى بعضهم يطعن العافية في الظهر .ولا عجَب , فلو أنتصرت العافية على السقَم لما كان لهم ما يعملون . فمن سقم الناس رزقهم ورضا الدينار الذي بإسمه يسبّحون .

وفي الثكنات أرى أقواماً جعلَت منهم شرائع الناس دمى وآلاعيب وذبائح تقدمها لطاغوت يدعى الدولة أو الأمّة .وهذه الدمى لا تملك من أمرها غير واجب الطاعة العمياء والخرساء . فلا حق لها في الصياح , أو النباح , أو الشكوى مهما تكن المهام المنوطة بها . إنّها هناك لتزرع الموت ولتحصد الموت عند الحاجة . وأكرِم بزارع الموت وحاصده من بطل !

وفي المقاهي والملاهي أرى الناس يتدافعون بالمناكب هرباً من فراغ هائل في نفوسهم , تزحف فيه الثواني بأرجل من رصاص فتضيّق عليهم أنفاسهم وتكاد تُزهق منهم الروح .إنّهم يستجيرون من الرمضاء بالنار , ويهربون من الدبّ إلى الجبّ , ويطفئون عطشهم إلى الماء القراح بالماء الأجاج .إنهم يملأون الفراغ بالفراغ , ويطردون السأم بالسأم , وتبقى الدقائق . أمّا هم فيتهرّمون .

وفي المحاكم أرى رجالاً تجلببوا بسلطان القانون . ورجالاً ونساءً يستجدون منهم العدل والرحمة بإسم القانون . وأرى الرحمة والعدل يقرعان أبواب المحاكم قرعاً موصولاً , فلا تُفتح لهما الأبواب , ولا يُسمح لهما بالدخول .

وفي السجون أبصر الآلاف المؤلفة من الذين قضى عليهم القانون بالعيش ضمن جدارن كالحة , قاسية , عابسة بينها وبين الشمس المحيية والهواء الطلق والنظافة المنعشة جفاء مقيم . مثلما قضى عليهم بالحرمان من كلمة لطيفة , وبسمة عذبة , ولمسة مؤنسة , وبضروب من التعذيب والتهشيم والتحقير يقشعّر لها حتى الشيطان الرجيم . أولئك هم الذين في طبائعهم ما ليس يأتلف وطبيعة القانون . ولذلك يطيعون طبائعهم ويعصون طبيعة القانون . فيقتلون لا حيث يأمر القانون بالقتل بل حيث تأمرهم طبائعهم وينهاهم القانون . ويحبّون حيث الحبّ جريمة , ويتزوّجون حيث الزواج زنا في عرف القانون .ويأكلون من طيّبات ما رزقهم ربّهم عندما تكون تلك الطيّبات في حوزةٍ غير حوزتهم . فهم لذلك جَرَب وطاعون ونفايات كريهة في مجتمع سليم الروح والبدن , وطاهر النفس والأنفاس . والقانون الساهر أبداً على سلامة المجتمع وطهارته يرى الخير كلّ الخير في نبذهم وحصرهم ضمن السجون ريثما من رجاساتهم يتطهّرون .

وفي دور العلم والفن أبصر حشوداً من الطلّاب والطالبات وقد أقبلوا ينهلون المعرفة . وها أنا منهل من تلك المناهل . فأي المعرفة هي معرفتي ؟ وماذا نهلت من غيري لينهله غيري مني ؟ ولو أنّ ما نهلته كان يطفئ عطشاً لأطفأت عطشي . فكيف أروي غيري وأنا عطشان ؟ كيف أنير لغيري السبيل وأنا أسير في ظلمة دامسة ؟ كيف أكحّل أجفان غيري بمرود الجمال وأجفاني يتآكلَها الصديد والرمَد ؟ كيف أحرّر غيري من ربقة الأرض والسماء وطواغيت الهموم والشهوات , وأنا رقيق السماء والأرض , والشهوة والهمّ ؟”

ميخائيل نعيمة, اليوم الأخير
Read more quotes from Mikhail Naimy


Share this quote:
Share on Twitter

Friends Who Liked This Quote

To see what your friends thought of this quote, please sign up!


This Quote Is From

اليوم الأخير اليوم الأخير by Mikhail Naimy
573 ratings, average rating, 70 reviews

Browse By Tag