“تعنى الكهانة إضفاء صفات القداسة على ما هو غير مقدس، والتعقيد على ما هو غير معقد، بغرض خلق مساحة ظل بين الإنسان والحقيقة، يسكنها أوصياء على الحقيقة وعلى الإنسان معا، تنبت فيها مصالحهم المادية فى الثراء، ومطامحهم المعنوية فى السيطرة، تحت غطاء إلهى يستمدون منه شرعيتهم الزائفة، ويبررون به وجودهم الطفيلي.
ففى كل أشكال الكهانة يكمن الطمع الإنساني، إنسان له قدرات معينة لكنه لا يقنع بما توفره له من عوائد مادية ومعنوية، يطمع فيما هو أكثر دائما، وإزاء محدودية الطاقة لا يكون أمامه سوى الإدعاء بأنه: يعرف أكثر عن الحقيقة التى لا يعرفها أحد. يدرك الطرق التى تصل إليها ولا يمكن لأحد بلوغها. وهنا تصبح الحقائق الفطرية محض كاذبة، والطرق الواضحة محض زائفة، فوراء الحقائق البينة أسرار غامضة، وخلف الطرق الواضحة مسالك متعرجة، لا يعلمها سوى الكاهن، صاحب الصنعة، كهف الأسرار. سمسار الروح، آية الله فى الأرض.
تكمن الكهانة إذن فى كل محاولة للقضاء على تلقائية الحياة وبساطة الأشياء، بتعطيل مجرى حركتها الطبيعية، وتدفقها السلس، وفى كل سعى للتوسط بين طرفى علاقة يمكن لها أن تقوم على نحو مباشر سواء بين الإنسان والإنسان كما تتبدى فى عديد الصور والأشكال، أو بين الله والإنسان، وهى أعلى صور الكهانة.
فلنضرب نموذجا لكهانة دنيوية: عندما تحاول، مثلا، أن تقوم بركن سيارتك بجوار رصيف شاغر. أمر بسيط، غير أن شخصا يقفز أمامك فجأة، ويطالبك بالرجوع للخلف، من دون أن تدرك سر إصراره على ذلك، فما أن تتزحزح ولو بعض سنتيمترات قليلة، حتى لو كان إلى الأمام، تجده يشعر بالرضا. لماذا؟. لأنه ومن خلال هذه السنتيمترات القليلة التى لا معنى لها قد أثبت لك أمرين: أولهما كونه المسئول عن المكان ضمانا للأجر المستهدف. وثانيهما إنه يعلم سراً قد خفى عليك، كان سيؤدى إلى فساد عملية الركن لو لم يسعفك هو بالتوجيه السليم، وهو أمر يثبت جدارته فى موضع هو بطبيعته بسيط، وهذا هو جوهر الكهانة.
غير أن الشكل الأخطر لها يظل هو الكهانه الدينية، ففيها يكون السر مقدسا، والمصلحة سماوية، والحديث باسم الله، فالكاهن هنا مؤتمن على الملكوت السماوي! فهو المسئول عن طقوس الدين، العارف بأسراره، المنظم لشعائره، سواء فى أديان ما قبل التوحيد، أو الديانات التوحيدية.”