“إن الكتابةَ أشبهُ في فلسفتها بميلاد الإنسان وولادته، حين تولد الكلمة، وتولد الفكرة مِن رحمِ أحرفٍ تعبّرُ عنها، تكون هي الأداة التي يطوّعها هؤلاءِ ممن فقدوا المقدرةَ في التعبيرِ اللفظِيّ عمّا بداخلهم، وإحداث كلِّ تغييرٍ ومحاربةَ كلِّ فسادٍ لا يستطيعون معه صبرًا، فَعِنْدَئِذٍ تكون الكلمة أقوى من ألفِ سلاحٍ ورصاصةٍ، فإن اخترقت العقولَ، فالعقولُ و الأفكارُ تظلُّ حيةً رغم موتِ الجسدِ.
إنّها المرآة التي نرى من خلالِها الآخر، ويرانا، والولوج الذي يسمح به الكاتب لعقله مشاركا بذلك الإنسان أفكاره، أحلامه و وجدانه.
أمام هذه المرآة تندثر الأوهام، ينقشع الجهل، يسقط الخداعُ ويرى كلُّ إنسانٍ حقيقته، فإن كان صادقًا تقبلها، وعلى النقيض قد يهشمها لتصير حطاما وتسقط معها نفسه.
الكتابة هي عملية التواصل الروحي مع الإنسان و ذاته بشكل أوضح وأصدق، فيكون فاهمًا بذلك أفكاره ومشاعره، قادرًا على تحديدها، وبالتالي يستطيع التعامل معها واحتواءها، فلا يصير بها أهوجَ حارقًا الأخضر و اليابس.
إنّها الطريقُ الذي يرسمه الإنسانُ لذاته محددًا به خطواته ومحاولاته المستمرة، فلا يضيع خلاله و لا يتوه في زحامِ صعودِه المستمرّ، أين يقف وأين يمضي وأين قد يتجه، إنْ كانت نهايةُ الطريقِ سرابًا.
الكتابةُ توثيقُ أحداثِ الحاضرِ، فبها لا ننسى الماضي و لا ننخدع بالمستقبل، فيا حسرةَ لمجتمعاتٍ أضاعتْ توثيقَ حاضرِها، فأضاعتْ بذلك مستقبلَها غير مهتدية بدروس مستفادة، اختارت أن ترى الوهم بديلا عن ضوء الحقيقة، وإن كان ضوءًا يحرق قصورَ الوهمِ ليشيّد بدلًا منه جنانَ الحق.
الكتابة هي الوجدان الجمعي للبشر أجمعين، تشاركوا من خلالها كلّ الأفكارِ التي توارثتها الإنسانيةُ منذ الأزل، هي حصاد الفكر البشري ومكنون العقل، فليست الفكرة من عدم إنما هي حصادُ جميعِ أفكارِ كلِّ كاتبٍ شاركناه الإحساسَ يومًا ما.
‏تُلهِمنا الكتابةُ الإحساسَ بإنسانيتنا، وتردّ لنا فطرتنا البشريةَ الربانيةَ، فيما عدا الذي استخدم حروفه للحرق والهدم، فما خلُدت كلمتُه ولا ظلّ حيًا في قلوبِ الآخرين.”