‫طبيب أرياف‬

by محمد المنسي قنديل

وتحوَّلت «الرتينة» إلى لون أصفر قاتم، كأنها على وشك الاحتراق، أسرع بإطفائها. أنوار الفجر تكشف تفاصيل المكان، أخرج للشرفة، يتسلل النور الرمادي برقة من خلال الضباب الذي ينام على الحقول ويغلّف النخيل العالي، رغم السكون السائد ألمح أجساد أهل القرية وهم يسيرون خارجين من بيوتهم الواطئة متجهين للحقول، يسيرون في مجموعات متلاحقة؛ رجال ونساء وخلفهم الأطفال والحيوانات، يحمل الرجال الفئوس والمعاول وتحمل النساء صرر الطعام، وتسير الحيوانات محنية الرءوس، تدرك أن هناك يوما من الشقاء الطويل في انتظارها، العجائز في آخر الصف؛ بعضهم يتوكأ على العصي ويجاهدون في السير، كأنهم موتى تمَّ بعثهم للتو، يسعون عند مولد الضوء كما فعلوا من آلاف السنين، طقس أسطوري يتمّ بجلال يليق بلحظة الخلق الأولى، أتأملهم مبهورا عاجزا عن الحركة، يسيرون مجموعة إثر أخرى، في توافق مع حركة العالم، دورة مكملة لدورانه عبر تاريخ بعيد، لا أحد منهم يلتفت نحوي، لا أحد يراني، من خبرتي الحياتية أعرف نوعية الطعام الموجود في هذه الصرر، ليس أكثر من أرغفة الخبز ورءوس اللفت المخلل، حتى قطع الجبن تبدو باهظة الثمن بالنسبة إليهم، كيف واصلوا الحياة عبر كل السنوات بهذا