More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
September 22 - October 22, 2022
البحث عن الزمن المفقود
يا لروعة پروست حين يشير إلى أنّ «المرء يعجز عن قراءة رواية دون أن ينسب إلى البطلة مزايا الشخص الذي يحبّ».
في الواقع، كلُّ قارئٍ، حين يقرأ، يقرأ ذاته. وتقتصر مهمّة الكاتب على كونها نوعًا من الأداة البصريّة التي يقدّمها إلى القارئ ليمكّنه من تبيُّن ما لم يكن ليعايشه بنفسه ربّما لولا هذا الكتاب. وإنّ إدراك القارئ لما هو موجود في ذاته من مقولات الكتاب هو البرهان على صلاحيته.
يقول پروست: «ذلك الفنّ الحسيُّ والمقيت الذي يُسمّى قراءة الجرائد، الذي بفضله تصلنا جميع التّعاسات والجوائح في الكون خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية، والمعارك التي استنزفت أرواح خمسين ألف شخص، وجرائم القتل، والإضرابات، والإفلاسات، والحرائق، وحالات التسمّم، والانتحارات، والمشاعر القاسية لرجال السياسة والممثّلين، تصل إلينا نحن الذين لا نكترث أصلًا، في وجبة صباحيّة، لتمتزج بسلاسة، على نحو مثير ومتوتّر، مع البلع الموصى به لعدة رشفات من القهوة بحليب».
ولد بليز پاسكال عام 1623، وتميّز منذ سنّ صغيرة – على نطاقٍ تجاوزَ عائلتَه الفخورة – بكونه عبقريًا. في سن الثانية عشرة، كان قد أنهى أطروحات إقليدس الاثنتين والثلاثين الأولى؛ ثم مضى ليبتكر رياضيات الاحتمالات؛ قاس الضغط الجويّ، واخترع آلة حاسبة، وصمّم مركبة للنقل الجماعيّ، وأُصيب بالسل، وكتب سلسلة الحِكم التشاؤميّة الرائعة دفاعًا عن المُعتقَد المسيحيّ بعنوان أفكار.
«لا نختار أعرق الأشخاص نَسَبًا على متن السفينة ليكون قبطانًا»، تقول إحدى الحِكم، وبوسعنا احترام السخرية الجافة لهذا الاحتجاج ضد الامتيازات الموروثة التي لا بد أنّها كانت تثير الكثير من النّقمة في المجتمع الذي لم يكن محكومًا على أساس الجدارة أيام پاسكال. كما كانت عادة تسليم أشخاص مناصب مهمّة لمجرّد أنّهم أبناء عائلات بارزة، موضع سخرية هادئة في مقارنة بين حرفة السياسة والإبحار: لا بدّ أنّ قرّاء پاسكال كانوا قد أُكرهوا وكُبتوا بفعل محاججة الأرستقراطيّ الواضحة التي تقول إنّه يمتلك حقًا إلهيًا في تحديد السياسة الاقتصاديّة، مع أنّه يخفق في حفظ نتائج جدول ضرب الرقم سبعة، ولكنّهم لم يكونوا ليبتلعوا
...more
لم يكن الجدول منبع إرشادٍ عمليّ؛ إذ لم يكن موعد وصول قطار سان-لازار يشكّل أهميّة مباشرة لرجلٍ لم يجد سببًا لمغادرة پاريس في الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته. ولكن كان هذا الجدول يُقرأ بمتعة كما لو كان رواية آسرة عن الحياة الريفيّة، لأنّ أسماء محطات القطار أمدَّتْ خيال پروست بما يكفي من مواد خام لتشييد عوالم بأسرها، لتصوير قصص دراميّة منزليّة في القرى، وألاعيب الحكومات المحليّة، والحياة خارجًا في الحقول.
تصلح العبارة كشعار پروستيّ: n’allez pas trop vite [لا تكنْ عجولًا]. وإحدى مزايا أن لا تكون عجولًا هي أنّ العالم سيمتلك فرصة ليصبح أكثر إثارة للاهتمام في هذه العمليّة.
إلا أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ الإحساس بالأشياء (الذي يعني عادةً الإحساس بها ألمًا) مرتبطٌ في لحظةٍ ما باكتساب المعرفة. فسرعان ما يعلّمنا الكاحل عن توزّع وزن الجسم؛ وتُرغمنا الحازوقة على ملاحظة مظاهر كانت مجهولة في الجهاز التنفّسيّ والتأقلم معها؛ هجران الحبيب مقدّمة مثاليّة إلى آليات التبعيّة العاطفيّة.
ينام مباشرةً كلّ ليلة، ويغيب عن الوعي كليًا حتى موعد استيقاظه، لن يحلم – بكل تأكيد – بتسجيل الاكتشافات العظيمة بالضرورة، بل حتى تلك الملاحظات الصغيرة عن النوم. إذ هو بالكاد يعلم أنّه نائم. ثمة فائدة لشيءٍ من الأرق في جعلنا نُقدّر النوم، وفي تسليط شعاع من الضوء على تلك الظلمة. والذاكرة التي لا تخيب ليست أداة شديدة الفعاليّة لدراسة ظاهرة الذاكرة. ومع أنّ بإمكاننا طبعًا تشغيل أذهاننا من دون أن نكون متألّمين، يُلمِح پروست إلى أنّنا لن نصبح توّاقين للمعرفة على نحو أمثل إلا حين يصيبنا اليأس. نحن نعاني، إذًا نحن نفكّر، ونقوم بهذا لأنّ التفكير يساعدنا على وضع الألم ضمن سياقه. إنّه يساعدنا على فهم
...more
وهذا يستتبع أنّ الأفكار التي تنبع من دون ألم تفتقر إلى مصدر مهم من مصادر التحفيز. بحسب پروست، يبدو النشاط العقليّ مقسَّمًا إلى تصنيفين؛ هناك ما يمكن أن نسمّيها أفكارًا من دون ألم، لا يحفّزها أيّ اضطراب محدَّد، ولا تتولّد بفعل أيّ شيء باستثناء رغبة عابرة باكتشاف آليّة عمل النوم أو بسبب نسيان البشر، وأفكار ألم، تتولّد من عجزٍ موجِعٍ عن النوم أو تذكّر اسم – ومن الواضح أنّ پروست يعطي الأفضليّة لهذا التصنيف الثاني.
ليس ثمة إنسان، أيًا يكن مقدار حكمته، لم يقل أشياء، في مرحلة ما من شبابه، أو حتى عاش على نحوٍ بدا كريهًا له لاحقًا بحيث يقوم بمحوه من ذاكرته بكل سرور، لو استطاع. ولكن لا ينبغي له النّدم على هذا كليًا، إذ لا يمكن له أن يكون واثقًا بأنّه قد أصبح حكيمًا – بافتراض أنّ بوسع أيٍّ منا أن يكون حكيمًا – إلا في حال كان قد عايش جميع التجسّدات الحمقاء أو الفاسدة التي لا بدّ من قَطْعِها لبلوغ تلك المرحلة الأسمى. أعلم أنّ هناك شبابًا... كان معلّموهم قد غرسوا فيهم نبل التفكيرٍ وتهذيبًا أخلاقيًا منذ بداية تعليمهم المدرسيّ. وربما ليس ثمة ما يتراجعون عنه لو استرجعوا حياتهم؛ بوسعهم، لو أرادوا، نشر توصيف لكلّ ما
...more
ويخبرنا پروست أنّ «السعادة جيّدة للجسد، ولكنّ الأسى هو ما ينمّي الذهن».
فنّ العيش بأسره يعني الانتفاع من الأفراد الذين نعاني بسببهم.
تفقد البلايا، إثر تحوّلها إلى أفكار، بعضًا من سلطتها على إيذاء قلوبنا.
تنقل لنا أدبيّات التحليل النفسيّ قصة امرأة كانت تُصاب بالإغماء كلّما جلست في مكتبة عامة. فحين تكون محاطةً بالكتب، كانت تحسّ بالغثيان ولا ترتاح إلا عندما تبتعد عنها. لم يكن الأمر، كما قد يُظنّ، بأنّها كارهةٌ للكتب، بل كانت تريدها وتسعى بشدّة إلى المعرفة التي تضمّها تلك الكتب، بحيث أنّها كانت تُدرك افتقارها للمعرفة كثيرًا وتريد قراءة كلّ شيء على الرفوف دفعةً واحدة – وبسبب عجزها عن هذا، كانت بحاجة إلى التهرّب من جهلها الذي لا يُحتمَل عبر إحاطة نفسها ببيئة ذات معرفةٍ أقل.
المغزى؟ إدراك أنّ أفضل فرصنا في الرضا تكمن في تلقُّف الحكمة التي تُقدَّم لنا بصيغةٍ مُرمَّزة عبر سعالنا، وحساسيّاتنا، وزلّاتنا الاجتماعيّة، والخيانات العاطفيّة، وتجنُّب جحود الأشخاص الذين يلقون باللوم على البازلاء، وثقل الظل، والوقت، والطقس.
ينقل إلينا لوسيان دوديه أنّ لپروست صديقًا كان يظنّ أنّ من الأناقة استخدام تعابير بالإنكليزيّة وهو يتحدث الفرنسيّة، ولذا فهو عادةً ما يقول «غُود باي»، أو – على نحو أكثر تحررًا – «باي باي» كلّما غادر الغرفة. ويشير دوديه: «كان هذا يُزعج پروست. إذ كان يُظهر ذلك التّعبير المؤلم المشمئزّ الذي يلي أزيز سحب قطعة طبشور على سبّورة. ‹هذا يسبّب ألمًا لأسناني حقًا، هذا الفعل! يصيح بحزن». وكان پروست يُبدي الخيبة ذاتها مع الناس الذين يشيرون إلى البحر المتوسّط على أنه «الأزرق الكبير»، وإلى إنكلترا «ألبيون»، وإلى الجيش الفرنسيّ «أولادنا».
لمَ كانت هذه العبارات مصدر إزعاج لپروست؟ مع أنّ طريقة كلام الناس قد تغيّرت على نحوٍ ما منذ عصره، ليس من الصعب تمييز أنّ هذه العبارات أمثلة على تعابير بائسة، ولكنّ إجفال پروست وانزعاجه هو بدافعٍ سيكولوجيّ أكثر من كونه نحويًا («ليس ثمّة من هو أقل منّي معرفةً بالنحو»، كان يتباهى). وكان مزج الفرنسيّة بشيءٍ من الإنكليزيّة، والإشارة إلى ألبيون بدلًا من إنكلترا والأزرق الكبير بدلًا من البحر المتوسّط، دلالاتٍ على الرغبة بإبداء سيماء الذكاء والمعرفة الكليّة حوالى العام 1900، والاستناد إلى عباراتٍ متشاوفة غير دقيقة في فعل هذا. ليس ثمة سببٌ لقول «باي باي»، عند المغادرة، أكثر من كونها حاجةً إلى الإبهار
...more
وينقل لنا لوسيان دوديه المرة الأولى التي انتبه فيها لما حدث: في أحد الأيام، عندما كنا خارجَيْن من حفلة حيث كنّا نسمع سمفونيّة الكورال لبيتهوڤن، كنتُ أدندن بعض النوتات الغريبة التي ظننتُ أنّها تعبّر عن العاطفة التي عشتها، ثم عبّرتُ بانبهار لم أدركْ مدى سخافته إلا لاحقًا: «تلك قطعة رائعة!» غرق پروست في الضحك وقال: «ولكن يا عزيزي لوسيان، ليست پوم پوم پوم التي دندنتها هي التي ستعبّر عن تلك الروعة! سيكون من الأفضل لو حاولت تفسيرها!» انزعجتُ حينذاك، ولكنّني تلقّيتُ درسًا لن أنساه. كان درسًا في محاولة إيجاد الكلمات التي تعبّر أفضل تعبيرٍ عن الأشياء. ويمكن أن تمضي العمليّة على نحو غريب. نشعر بشيء،
...more
كان لوي غاندرو أديبًا بارزًا في بدايات القرن العشرين، والمحرّر الأدبيّ لمجلّة روڤ دو پاري. عام 1906، طُلب منه تحرير مراسلات جورج بيزيه، وكتابة تصدير للمجموعة التي ستضمّ تلك المراسلات. كان هذا شرفًا عظيمًا، ومسؤوليّة كبيرة. كان بيزيه، الذي توفّي قبل ثلاثين عامًا، مؤلّفًا موسيقيًا بارزًا على مستوى العالم، ستترسّخ مكانته عبر الأجيال من خلال أوپرا كارمن وسمفونيّته على سلّم دو ماجور. كان ثمة ضغط على غاندرو يمكن تفهّمه حيال كتابة تصدير يستحق مكانة أن يفتتح مراسلات أحد العباقرة.
عام 1872، العام الذي تلا عام ولادة پروست، عرض كلود مونيه لوحةً بعنوان انطباع، شروق.
تبدأ الإجابة الپروستيّة بفكرة أنّنا جميعًا لدينا عادة «إسباغ صيغةً من التعبير تختلف كثيرًا عن الواقع على ما نحسّ به، ولكنّنا سنعتبرها – بعد فترة وجيزة – هي الواقع بذاته».
ما الذي يفسّر تلك الحدود؟ لمَ يكون المرء عاجزًا عن الحديث عن البحث عن الزمن المفقود، على عكس كتابتها؟ جزئيًا، بسبب آليّة عمل الذهن، ووضعه كعضوٍ متقطّع العمل، وعرضةٍ دومًا لفقدان خيط الكلام أو السّهو، ولا يولّد أفكارًا مهمّة إلا بين فُسح الخمول أو التفكّر، فُسح لا نكون فيها «أنفسنا» حقًا، وخلالها قد لا يبدو من المبالغة القول إنّنا لسنا موجودين كليًا فيما نحن نحدّق بالسُّحب العابرة بنظراتٍ طفوليّة خاوية. وبما أنّ إيقاع المحادثة لا يسمح بوجود لحظاتٍ ميتة، لأنّ حضور الآخرين يستوجب الردود المستمرة، نُترَك فريسةً للندم على تفاهة ما قلناه، والفرصة التي أضعناها في عدم قول أمورٍ أخرى.
بالمقارنة، يقدّم الكتاب عُصارة ذهننا المُشتَّت، تسجيلًا لتجسّداته الأكثر جوهريّة، خُلاصةً للّحظات المُلهَمة التي كانت قد تولّدتْ أصلًا خلال سنوات طويلة وفصلتْ بينها فُسحات طويلة من التّحديق البليد. وسيكون لقاء كاتب كانت كتبه قد أمتعتنا جدًا، في هذه الحالة، خيبة أملٍ بالضرورة («صحيحٌ أنّ ثمة أناسًا أرقى من كتبهم، ولكنّ هذا لأنّ كتبهم ليست كتبًا»)، لأنّ لقاءً كهذا لن يكشف عن الشخّص إلا كما يكون عليه داخل تقييدات الوقت، ويكون خاضعًا لها.
وعلاوةً على ذلك، لا تترك لنا المحادثة إلا مجالًا صغيرًا لتنقيح أقوالنا الأصليّة، ما يتلاءم على نحو سيء مع نزعتنا إلى عدم معرفة ما نحاول قوله إلى أن نكون قد جرّبنا قول ما نريد مرةً على الأقل، بينما تتوافق الكتابة مع هذا، وتُصاغ بقدرٍ كبير عبر إعادة الكتابة حيث تغتني خلالها الأفكار الأصليّة – الخيوط الأوّليّة غير المُحدَّدة – وتتمايز عبر الزمن. وبذا قد تظهر على الصفحة تبعًا للمنطق والنظام الجماليّ الذي تستلزمه، بخلاف المعاناة من التّشويه التي تتسبّب بها المحادثة،...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
اشتُهر پروست بعدم إدراكه لما كان يحاول كتابته إلى أنْ بدأ الكتابة الفعليّة. عندما صدر المجلّد الأول من البحث عن الزمن المفقود عام 1913، لم يكن ثمة أدنى فكرة عن العمل الذي سينتج في نهاية الأمر، بالتّناسب مع الإضافات الهائلة التي كانت هي النتيجة الفعليّة. كان پروست قد خطَّطَ لأن يكون العمل ثلاثيّة: (جانب منزل سوان، جانب منازل غرمانت، الزمن المستعاد)، بل كان يأمل حتّى أن يكون بإمكانه جعل المجلّدين الأخيرين كتابًا واحدًا. على أيّ حال، غيّرتْ الحرب العالميّة الأولى خططه على نحو جذريٍّ عبر تأجيل طباعة المجلّد الثاني أربع سنوات اكتشف پروست خلالها مجموعةً من الأشياء الجديدة التي أر...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
فبدايةً، كانت لديه أفكار صحيحةٌ تمامًا عن الناس، وإنْ كانت قاسية. عندما التقى بقارئة كفٍّ عام 1918، قيل إنّ المرأة ألقت نظرةً على كفّه، ثم نظرت إلى وجهه للحظة، وقالت ببساطة: «ما الذي تريده منّي يا سيّدي؟ يجدر بكَ أنت أن تقرأ شخصيّتي». ولكنّ هذا الفهم المذهل للآخرين لم يُفْضِ إلى نهايات سعيدة. «أشعر بحزن لانهائيّ لرؤية الكمّ الضئيل من الناس الذين هم طيّبون بالفطرة»، قال مرةً، وأكّد أنّ معظم الناس يعانون من خلل ما. لدى أكثر الناس اكتمالًا في العالم عيبٌ معيّن سيتسبّب لنا بالصدمة أو الغضب. رجلٌ بذكاء نادر، يدرك الأشياء بدقائقها، ولا ينطق بسوءٍ عن الآخرين، ولكنّه سيضع في جيبه رسائل شديدة الأهميّة
...more
أدرك پروست، الأقلّ تفاؤلًا من هذه الناحية، أرجحيّة التّعارض، وخَلُصَ إلى أنّ عليه دومًا أن يكون أول مَنْ يطرح الأسئلة ليتوافق مع ما يدور في ذهنك بدلًا من المجازفة ببثّ السّأم لديك بما يجول في خاطره هو. وفعل أيّ شيءٍ آخر سيكون تصرّفًا مُعيبًا في المحادثات: «ثمة افتقار للّباقة لدى الناس الذين لا يبحثون عن إسعاد الاخرين في حديثهم، بل عن توضيح نقاطٍ لا همّ لهم غيرها بكل أنانيّة». تستلزم المحادثة تخلّيًا عن الذات لصالح الرفاقيّة المُبهجة: «عندما ندردش، لن يعود الأمر متعلّقًا بنا، نحن مَنْ نتحدّث... إذ سنُكيّف أنفسنا مع ما يحبّه الآخرون، لا مع ذاتٍ تختلف عنهم».
مارسيل پلانتڤينيه، وهو أيضًا مؤلّف كتاب عن استعادات الذاكرة، ولكنْ بعنوان مع مارسيل پروست، علَّقَ على لباقة پروست الثقافيّة، إذ لم يكن حديثه مُرهِقًا، أو صعب المتابعة، أو شديد التخصّص. وغالبًا ما كان پروست يُطعّم جمله بـ «ربما» أو «لعلّ» أو «ألا تعتقد؟» وفقًا لپلانتڤينيه، وكان هذا يعكس رغبة پروست في الإسعاد. «ربما سأكون مخطئًا حين أتحدّث إليهم بما لا يحبّون»، كذا كانت فكرته الضمنيّة. پلانتڤينيه لا يتذمّر هنا؛ إذ إنّ هذه اللباقة مُرحَّبٌ بها، بخاصة في عصر پروست السيء. كانت هذه الرُّبّمات شديدة الطَّمْأَنة في الحوارات في ضوء تصريحات مُفاجئة أخرى كان پروست قد أبداها حيال عصره المشؤوم، ومن دونها،
...more
بصرف النّظر عن مدى روعة لباقة پروست، ربّما كانت ستُوصَف على نحوٍ مُجحِفٍ بكونها مبالغة في التهذيب، بحيث كانت شديدة إلى درجة أنّ أصدقاء پروست السينيكيّين قد ابتكروا لقبًا ساخرًا لتوصيف غرائب عاداته الاجتماعيّة. وكما نقل لنا فرنان غريغ: تناقلنا بيننا فعل يُپَرْسِتْ للتّعبير عن الموقف اللطيف شديد الوعي، الممزوج بما يمكن تسميته بسوقيّةٍ تصنُّعات مفرطة ومُحبَّبة.
شبَّهَ پروست الصداقة بالقراءة، لأنّ كلا النّشاطين يستلزمان الاجتماع مع الآخرين، ولكنّه أضاف أنّ للقراءة ميزة جوهريّة: في القراءة، تعود الصداقة فجأةً إلى نقائها الأصليّ. ليس ثمة ودّ زائف حيال الكتب. حين نقضي المساء مع هؤلاء الأصدقاء، فهذا لأنّنا نرغب بذلك حقًا. ولكن في الحياة، غالبًا ما نُلزَم بتناول العشاء مخافةَ أن تنهار صداقةٌ نحرص عليها لو رفضنا الدعوة، وجبة منافقة مفروضة علينا بفعل إدراك حساسيّة أصدقائنا التي لا مبرّر لها، والحتميّة برغم هذا. يا لمقدار الصّدق الذي نكون فيه مع الكتب. هناك، على الأقل، يمكننا أن نتجاهلها عندما نشاء، أو أن نُبدي الملل، أو نختصر حوارًا كلّما دعت الضرورة. ولو
...more
كيف نستجيب إلى المشروعين المتعارضين عادةً اللذين يقعان على عاتقنا تحت مظلةٍ واحدة اسمها الصداقة: مشروع ضمان المحبّة، ومشروع التّعبير عمّا في أنفسنا بصدق؟ ولأنّ پروست كان صادقًا بشدّة ومُحبًّا بشدّة، فقد قاد المشروعين المتلازمين إلى نقطة الانهيار وعبَّر عن مقاربته الخاصة للصداقة، والتي كانت تقول إنّ السعي إلى المحبّة والسعي إلى الحقيقة متعارضان جوهريًا، لا أحيانًا فحسب. وهذا يعني اعتناق مفهوم أضيق لمعنى الصداقة، كان يعني: تبادل مراسلات عابثة مع لور، وعدم القول لموليير أنّه ممل، وإخبار آنّا دو نويّ أنّ شِعْرها ركيك.
وبعد أن وصفت الفنّانين بكونهم «الكائنات التي تتحدّث بالتّحديد عن الأمور التي لا ينبغي للمرء أن يذكرها»، منحت الرواية پروست الفرصة لذكرها كلّها.
قراءة عمله كـ roman à clef.(8) «ليس ثمة مفاتيح في هذا الكتاب»،
بل ويمكن كذلك الدفاع عن هذا باسم الصداقة. طرح پروست أنّ «من يزدرون الصداقة... ربما كانوا أفضل الأصدقاء في العالم»، ربما لأنّ هؤلاء المُزدرين يقاربون العلاقة بتوقّعات أكثر واقعيّة. إذ يتجنّبون التحدّث مطوّلًا عن أنفسهم، لا لأنّهم يعتبرون الموضوع نافلًا، بل لأنّهم يُدركون أنّه شديد الأهميّة بحيث لا ينبغي وضعه تحت رحمة الوسيلة العابرة، والزائلة، والزّائفة كليًا، التي هي المحادثة.
«رواية بمفتاح»، مصطلح فرنسيّ يُشير إلى الرواية التي تصوّر حياة أشخاص حقيقيّين أو أحداث فعليّة ضمن قالبِ تخييليّ. بالفرنسيّة في الأصل.
كتب پروست مرةً مقالةً كان يريد منها رسم ابتسامةٍ على وجه شاب مكتئب حسود ساخط. تخيَّلَ هذا الشابَّ جالسًا إلى طاولة بعد الغداء في أحد الأيام في شقّة والديه، محدّقًا باكتئاب في ما يحيط به: سكّين مرميّة على مفرش الطاولة، بجانب بقايا شريحة لحم قليلة النّضج كريهة الطعم، عند زاويةٍ منثنية من المفرش. كان بإمكانه رؤية أمه في نهاية غرفة الطعام منهمكةً في الحياكة، وقطّة العائلة متكوّرةً فوق خزانة قرب زجاجة براندي تُستبقى لمناسبة خاصة. كان المشهد الاعتياديّ يتعارض مع ميل الشاب للأشياء الباهظة الجميلة، التي كان يفتقر إلى المال لشرائها. تخيَّلَ پروست النفور الذي سيشعر به الشاب الذوّاقة بفعل بؤس هذا المشهد،
...more
متوجّهًا إلى اللوڤر، حيث يكون بإمكانه على الأقل إشباع عينيه بالأشياء الرائعة، والقصور الكبيرة التي رسمها ڤيرونيس، ومشاهد الموانئ التي رسمها كلود، وحياة الأمراء كما رسمها ڤان ديك.
متأثّرًا بقَدَره التّعس، قرّر پروست إحداث تغيير جذريٍّ في حياة الشاب عبر تعديلٍ بسيطٍ في خطّ تجواله في المتاحف. بدلًا من تركه يهرع إلى الغاليريهات الملأى بلوحات كلود وڤيرونيس، عرض پروست دفعه إلى قسمٍ مختلفٍ كليًا من المتحف، إلى تلك الغاليريهات التي تضمّ أعمال جان-باتيست شاردان.
وكذلك، لم يكن مغزى المقالة يبتعد كثيرًا عن الشيء المُبتَذَل. لم تكن سوى خطوة أبعد من الإشارة إلى أنّ كلّ شيءٍ حتى آخر ليمونة جميلٌ، وأنّه ليس ثمّة سببٌ موجبٌ كي نكون حسودين حيال أيّ وضعٍ غير وضعنا، وأنّ الكوخ بمثل روعة الڤيلا وأنّ الزمرّد ليس أفضل من صحنٍ مكسور.
على أيّة حال، بدلًا من حثّنا على إسباغ القيمة ذاتها على جميع الأشياء، ربّما كان پروست – على نحو أشدّ إثارة – يشجّعنا على إسباغ قيمتها الصحيحة، وبالتالي مراجعة أفكارٍ بعينها عن الحياة الجيّدة كانت تُجازف بالتسبّب بإهمالٍ مُجحِفٍ لبعض المشاهد وحماسة موجَّهة على نحو خاطئ إلى أخرى.
فنحن نعلم ببساطة أنّنا ننجذب إلى القصور لا المطابخ، إلى الپورسلان لا الخزف، إلى الغوافا لا التفّاح.
قد نتصوّر تاريخ الفنّ بوصفه تعاقبًا من العباقرة المنهمكين في اكتشاف عناصر مختلفة تستحق انتباهنا، تعاقبًا من الرسّامين الذين يستثمرون براعتهم التقنيّة الهائلة لقول عبارةٍ قد تماثل «أليست تلك الشوارع الخلفيّة في دِلْفْت جميلةً؟» أو «أليس السّين رائعًا خارج پاريس؟» وفي حالة شاردان، القول للعالم، ولبعض الشبّان الساخطين فيه، «لا تكتفِ بالنّظر إلى كاتدرائيّة كامپانيا في روما، وبهرجات ڤينيسيا، والملامح الفخورة لتشارلز الأول على صهوة جواده، بل ألقِ نظرةً أيضًا على الزّبديّة التي على الرّف، والسمكة الميتة في مطبخك، وأرغفة الخبز اليابسة في الصالة».
الذاكرة الطوعيّة، ذاكرة العقل والعينين، لا [تمنحنا] إلا رسائل غائمةٍ عن الماضي الذي لن يعود يشبهها أكثر من اللوحات التي يحاول عبرها الرسّامون الفاشلون تصوير الربيع.... إذًا، نحن لا نؤمن أنّ الحياة جميلة لأنّنا لا نتذكّرها، ولكنْ لو احتلّتنا نسمةٌ من رائحةٍ منسيّة منذ زمن سنُسحَر فورًا، وكذلك نظنّ أنّنا لا نحبّ الموتى لأنّنا لا نتذكّرهم، ولكنْ لو لمحنا قفّازًا قديمًا صُدفةً سننفجر باكين.
قبل وفاته بعدة سنوات، تلقّى پروست استبيانًا يطلب منه تعداد لوحاته الثماني الفرنسيّة المفضّلة في اللوڤر (الذي لم يكن قد دخله منذ خمسة عشر عامًا). كانت إجابته المتردّدة: لوحة واتو الصعود أو ربما اللامبالي؛ ثلاث لوحات لشاردان: پورتريه شخصيّ، پورتريه لزوجته، طبيعة صامتة؛ أولمپيا لمانيه؛ لوحة لرينوار أو ربّما لوحة كورو قارب دانتي، أو ربما لوحته كاتدرائيّة شارتر؛ وأخيرًا لوحة ميليه الربيع.(9)
وتكون واضحةً في ما المدى الذي يميّز قدرة اللوحات السيئة على استحضار الربيع، برغم بعدها عن قدرة اللوحات الجيّدة على هذا. قد يكون الرسّامون السيّئون أصحاب مسوّدات ممتازة، بارعين في رسم الغيوم، أذكياء في رسم الأوراق المتبرعمة، عظيمين في رسم الجذوع، ويفتقرون برغم هذا إلى مهارة التحكّم بتلك العناصر المُوحية التي يتجلّى فيها جوهر سحر الربيع. إذ يعجزون، على سبيل المثال، عن تصوير، وبالتالي عن جعلنا نلاحظ، الخطّ الورديّ عند نقطة التقاء الزهرة بالشّجرة، أو التّباين بين العاصفة وضوء الشّمس في الضوء الذي يغمر الحقل، أو التفاف العقدة على لحاء الشّجرة، أو أجساد الأزهار الهشّة المرتعدة على جانب طريقٍ ريفيّة
...more
حين لا تمتدّ معرفتنا الفنيّة أبعد من كارپاتشيو (1450-1525) وڤيرونيس (1528-1588)، ونرى يختًا من طراز صَنْسيكر يشقّ البحر بسرعة 200 حصان. قد يكون مثالًا غير جذّابٍ من حيث الجوهر عن النّقل البحريّ؛ من ثمّ مجددًا، قد لا يكون اعتراضنا على القارب البحريّ الآليّ نابعًا إلا من تمسّكٍ عنيدٍ بصور الجمال العتيقة ومقاومةً لعمليّةٍ من التّقدير الفعّال التي كان حتى ڤيرونيس وكارپاتشيو سيخوضان غمارها لو كانوا معنا.
غالبًا قد لا تكون الصور المحيطة بنا عتيقةً فحسب، بل يمكن أن تكون كذلك متفاخرةً من دون أدنى نفع. حين يحثّنا پروست على تقدير العالم على نحو أمثل، فهو يذكّرنا مرارًا وتكرارًا بقيمة المشاهد المتواضعة. شاردان فتح أعيننا على جمال الممالح والأباريق؛ أبهجت كعكة الماديلين الراوي عبر استحضارها لذكريات طفولةٍ بورجوازيّة اعتياديّة؛ لم يرسم إلستير ما هو أعظم من فساتين قطنيّة وموانئ. ووفقًا لرؤية پروست، هذا التّواضع سمةٌ مميّزةٌ للجمال.
الجمال الحقيقيّ هو فعليًا الأمر الوحيد العاجز عن إجابة توقّعات خيالٍ مفرطٍ في الرومانتيكيّة.... ما الخيبات التي لم يتسبّب بها مُذْ ظهر أول مرة أمام حشود البشر! تذهب امرأة لرؤية رائعةٍ فنيّةٍ بإثارةٍ شديدةٍ كما لو أنّها تُنهي قصّةً متسلسلةً، أو تستشير عرّافةً أو تنتظر حبيبها. ولكنّها ترى رجلًا جالسًا يتأمّل قرب النافذة، في غرفةٍ لا ضوء ساطع فيها. تنتظر للحظة كي يظهر أمرٌ آخر، كما في شارعٍ تحفّه الأشجار. ومع أنّ الرّياء قد يُقفل شفتيها، إلا أنّها تقول في أعمق أعماقها: «ماذا، هل هذا كلّ شيء لدى فيلسوف رامبرانت؟» الفيلسوف الذي يكون شاغله مُضمَرًا، ساكنًا، هادئًا بالطبع... هذا كلّه يعادل رؤيةً
...more