More on this book
Kindle Notes & Highlights
وإني لأشعر أحياناً أن تحت أقدامنا فتيل قنبلة دينية زمنية، وأن النار تسرح في الفتيل، وأن القنبلة وشيكة الانفجار .. وأننا في أشد الحاجة إلى طلائع لترشيد هذا الحماس الديني وتنويره حتى يأتي التحول بإصلاح وليس بموجات جديدة من الجرائم. والخيط دائما رفيع جداً بين أهل الله وأهل الشيطان، خاصة إذا تلثم أهل الشيطان باللثام الديني واتخذوا المصاحف والأناجيل شعاراً ودعوا إلى الله وإلى الفضيلة والتقوى، والفارق دائماً هو تلك النبرة الحادة وذلك الميل إلى التعصب.
وتلك سمة رجل الدين الحقيقي .. حبه للعدو ونصحه للخصم قبل الصديق وكراهيته للعنف إلا في الضرورة القصوى.
إن احترام حرية الرأي والسماحة مع وجهة النظر المخالفة وسعة الصدر مع الخصوم وحب الحياة والخير والدعوة إلى البناء وكراهة الهدم، هي علامات أهل الله، وهي التي تميزهم عن الشياطين الملثمين مهما قالوا ومهما إدعوا. فخذوا حذركم من هذه الموجات التي تأتي تباعاً وأنصتوا إلى القلوب وليس إلى زخارف الأقوال، فإن النار تسرح في الفتيل والعالم قد بلغ ذروة تناقضه
وقد نجح الزعماء العدوانيون العظام أمثال هتلر وستالين وماركس ومن قبلهم زعماء الفرق المتطرفة أمثال الخوارج والقرامطة وجماعة التكفير والهجرة وجماعة القس جونز .. كل هؤلاء نجحوا مع أتباعهم، لأنهم قدموا لهم همزة وصل مزيفة، وقدموا محراباً بديلاً عن المسجد والكنيسة، وإيماناً مريضاً بديلاً عن الإيمان السليم، وهدفاً يصلح لإمتصاص الطاقة الشبابية وشغل الوقت الضائع.
ولم يضر الإسلام شيء مثلما ضرته الانقسامات والاختلافات حول الشكليات والمظاهر، والاستغراق في هذه التفاصيل إلى درجة نسيان لب الموضوع.
إن الدعوة المطلوبة إذن هي دعوة توقظ النفوس على جوهر القضية وروح الأمر .. دعوة تتكلم بلغة العصر وتخاطب الكل دون تعصب ودون تطرف، وتحاول أن تمس في قلب المواطن ذلك الفراغ والخواء والهمزة المفقودة بينه وبين أصله، وتحاول أن تعيده في رفق إلى أيام وصله بأسلوب سوي لا عدوانية فيه ولا تشنج ولا احتفال فيه بالتفاصيل والأمور الثانوية .. الدين كما هو وكما أنزله الله، الدين الذي يحب العلم والفن ويدعو إلى التقدم والتطور ويشجع التكنولوجيا والإبداع الخصب.
أما هذه الدعوات الفجة المصحوبة بالتشنجات الهاتفة بحكم اسلامي يأتي غداً أو بعد غد دون هذه التهيئة الإلهية .. فحكمها حكم الانقلابات، التي تأتي فتغير الجالسين على الكراسي وتغير المنتفعين دون أن تغير قلباً واحداً أو تنور ضميراً واحداً.
ويكذب من يصور لنفسه أنه فهم النفس البشرية وأحاط بها، بل يكاد الواحد منا لايفهم نفسه وهو أقرب الناس إليها، وأن نفسه لتراوغه وتدلس عليه وتمثل عليه وتتنكر أمامه، وتغلف شهواتها بالدواعي والمبررات والذرائع والنظريات .. فلا يعرف الواحد منا ماذا يريد وماذا يبطن، ولا يعرف من يكون ولا من هو على وجه التحقيق ؟
ولكن بلوغ شاطيء الاعتدال أمر إيجابي يتم من خلال صراع ومجاهدة للنفس وللغرائز، ومغالبة للنوازع بين شد اليمين وشد اليسار، وهو ليس أمراً سلبياً يأتي بالهروب والإغماء والاغتراب وعدم المبالاة .. وهو أيضاً ليس ثمرة ضعف بل ثمرة قوة، وليس ثمرة غيبوبة بل ثمرة وعي.
وشاطيء الاعتدال هو الصراط المستقيم بعينه، وهو الحق بنفسه، وهو لا يأتي نتيجة قراءة عفوية لمقال، وإنما يأتي ثمرة لإيمان يمازج القلب والجوارح ومعاناة تثُمر الصحو.
وما اختلفت منازل الناس الخلقية بسبب تفاوتهم في العلم .. بل سبب تفاوتهم في شيء آخر .. هو الهمة والعزم .. فعلمك بضرر التدخين لا يكفي لأن تتجنبه، وإنما الأمر يحتاج إلى شيء آخر هو الهمة والعزم .. وهذا أمر لا يتحقق إلا اذا تحول العلم في داخلك إلى شعور ومازج القلب، فأثمر النفور والكراهية للأمر الضار واستنهض الهمة إلى رفضه.
فالحقيقة أنه لا أحد يستطيع أن يرزق أو يعطي أو يمنع أو يبني أو يعمر أو يمنح حرية أو يرفع ظلماً إلا الله، وأن كل ما يفعله الإنسان من هذه الصالحات هو فعل بالوكالة والاستخلاف والإذن والمشيئة الإلهية، وأن الحاكم طول الوقت مجرد أداة لمشيئة الخالق، والأسباب الطيعة في يده مظهر من مظاهر التيسير والتمكين الإلهي.
والذي يخرق السفينة أو يحاول أن يسرق منها لوحاً أو مسماراً سيكون نصيبه الغرق مع الباقين. لن يقول أَفلت بنصيبي من مجتمع المغفلين .. فحقيقة الأمر أنه أول هؤلاء المغفلين وأكثرهم غباءاً .. وأنه لن يفلت. وإنما أذكى الكل هو الصادق المستقيم الفاضل الأمين.
وليس العارفون هم حملة الشهادات وإنما هم أهل السلوك والخشوع والتقوى، وهؤلاء قلة لا زامر لهم ولا طبال .. وليس لهم في الدنيا راية ولا موكب .. وسلوكك هو شاهد على علمك، وليس الدبلوم أو البكالوريوس أو الجائزة التقديرية أو نيشان الكمال من طبقة فارس الذي يلمع على صدرك .. إنما كل هذه مواهب إبليسية تنفع في دنيا الشطار ثم لا يكون لها وزن ساعة الحق.
وأنا أذكر أني أجريت في حياتي العديد من الجراحات ارتبطت آلامها المضينة بنمو خاصية التأمل والتفكر فيما أقول وفيما أكتب.
وطرائق الله في إصلاح عباده ليس لها حصر. ولا أحد يستطيع أن يحدد رحمته أو يحصر فضله ولكن من عجائب ما يثمر التأمل .. أن الفقر والمرض والألم والمكابدة والمعاناة .. غالباً ما تكون هي وسائل رحمته وعين فضله. ومن يدرك هذا يتعلم التفويض والتسليم وإسقاط التدبير والتزام الأدب مع العطاء .. بل ربما خاف العطاء وخَشِيَ منه الفتنة واستراح إلى المنع ورأى فيه المنة.
وتلك بعض أسرار المكر الإلهي الذي يخشاه العارفون، جعلنا الله منهم وأخرجنا من ظلمتنا إلى نورنا بالألم والمكابدة لنشكر له الألم ولنشكر له المكابدة ولنشكر له النور .. فلا شيء كالنور ولو خرج من النار. ألا يخرج النور دائماً من النار.

