More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
الاكتئاب هو اضطراب في المزاج يصاحبه ألمٌ بالغُ الغموض وشديد المراوغة في طريقة ظهوره للذات ـ وللعقل الوسيط ـ ويكاد يستعصي على الوصف. وبالتالي، فإنه يظل مستغلقًا تقريبًا على فهم أولئك الذين لم يختبروه في أقسى أشكاله،
ولذلك فقد أصابتني الدهشة حينما اكتشفت أنني أكاد أكون جاهلًا تمامًا بمرض الاكتئاب، والذي قد لا يقل خطورة عن مرض السكر أو السرطان.
فإن الاكتئاب في مراحله الخطيرة ليس له علاج سريع المفعول، ولذلك فإن العجز عن تخفيف حدة المرض هو أشد عوامل المرض فجاعة
ولكن الكتب الأكثر رصانة من بينها تؤكد حقيقة مُرة مفادها أن حالات الاكتئاب الشديدة لا تختفي بين عشية وضحاها.
وحسبما أخبرني طبيبٌ مختص بشكل صريح، وأظن أيضًا، ببراعة لافتة في القياس: «إذا قارنت معرفتنا بالاكتئاب باكتشاف «كولومبس» لأمريكا، فإن أمريكا لا تزال مجهولة حتى الآن؛ ونحن لا نزال على جزيرة صغيرة من جُزر البهاما ».
كنت أشعر بهذه الأعراض مع انتصاف فترة ما بعد الظهيرة أو بعد ذلك بقليل، حيث يدهمني الشعور بالكآبة، ويتملكني إحساس بالرهبة والاغتراب، وفوق كل ذلك، ينتابني قلقٌ خانق.
ولا يُعزى انعدام الفهم هذا إلى انعدام التعاطف في العادة، ولكن إلى عجز الأصحاء أساسًا عن تخيل معاناة يجهلونها تمامًا في حياتهم اليومية.
وفي حالتي كان الألم يشبه غالبًا الشعور بالغرق أو الاختناق، ولكن حتى هذه التشبيهات لا تفي بالمعنى. وقد توقف «وليام جيمس»، الذي صارع الاكتئاب على مدى سنوات عديدة، عن البحث عن صورة معبرة، ملمحًا إلى أن ذلك شبه مستحيل حينما قال في كتابه «تنوُّع التجربة الدينية » ، (Varieties of Religious Experience ): «إنه ألمٌ خالصٌ ومحسوس، وأشبه بألم عصبي نفسي غير معروف البتة في الحياة العادية ».
كراهية الذات (وهي أولى علامات الاكتئاب) التي جعلتني أقتنع بأنني لم أكن جديرًا بالجائزة، ولم أكن في الحقيقة أستحق أيًّا من أشكال التقدير التي نلتها خلال السنوات القليلة الماضية.
مع غياب الأمل يجب أن نصارع حتى ننجو ولو بشق الأنفس، وهذا ما نفعله.
ولأن الاكتئاب يساوي بوضوح بين الناس كافة وكأنه إحدى لوحات «نورمان روكويل»، فإنه يصيب من دون تفرقة جميع الأعمار والأعراق والمذاهب والطبقات، وإن بقيت النساء أكثر عرضة للإصابة به من الرجال. وتطول قائمة أصحاب المهن من مرضاه (بداية من صانعي الأحذية وقباطنة السفن وطهاة السوشي والوزراء) حتى إنه يصعب سردها هنا؛ ولذلك يكفي أن نقول إن قلة قليلة من الناس هم من يُفلتون من براثن المرض ولا يكونون من ضحاياه،
وحينما يُفكر المرء في هؤلاء الرجال والنساء ممن قَضوا منتحرين وكانوا من كبار المبدعين، يجد نفسه مشدودًا نحو تأمل سنوات الطفولة التي عاشها هؤلاء المنتحرون، والتي ربما تمد خلالها بذور المرض جذورها القوية.
أن هذا الجنون يتم تحفيزه كيميائيًّا بين الناقلات العصبية للدماغ، وربما كنتيجة للضغوط التي تتعرض لها جميع أجهزة الجسم، والتي لعلةٍ مجهولة تتسبب في استنفاد مادتين كيميائيتين: هما «نورأبينفرين» و«سيروتونين»، وكذلك في زيادة مستويات هرمون يُسمى «كورتيزول». وفي ظل هذا الاضطراب في أنسجة الدماغ، وفي ظل الإشباع والحرمان المتبادلين، لا غرو أن ينتاب العقل شعور بأنه مهموم ومصاب، وأن تسجل عمليات التفكير المشوَّشة معاناة عضو تعتريه نوبة تشنج. وأحيانًا، ولكن ليس غالبًا، قد تراود هذا العقل المضطرب أفكارٌ عنيفة إزاء الآخرين.
فإن الأشخاص المصابين بالاكتئاب عادة ما تقتصر خطورتهم على أنفسهم. وعمومًا، فإن جنون الاكتئاب هو نقيض العنف. إنه عاصفة فعلًا، ولكنها عاصفة ضبابية كثيفة. وسرعان ما يظهر لدى الشخص تباطؤٌ في ردَّات فعله وتعتريه حالة شلل شبه تام، وتتدنى مستويات الطاقة النفسية لديه حتى تقارب الصفر. وفي النهاية، يتأثر الجسم بكل ذلك ويتملكه شعور بالإنهاك والاستنزاف .
فاستخدام دواء «الليثيوم » في تهدئة اضطرابات المزاج في الهوس الاكتئابي يُعد إنجازًا طبيًّا عظيمًا؛ وهذا الدواء نفسه يُستخدم أيضًا على نحو فعال كعلاج وقائي في كثير من حالات الاكتئاب أحادي القطب.
فالفقدان في جميع مظاهره هو علامة من علامات الاكتئاب، في تطوره، وغالبًا، في أسبابه. ولاحقًا سوف أقتنع شيئًا فشيئًا أن الفقدان الذي تصحبه الصدمة في مرحلة الطفولة كان سببًا محتملًا وراء نشأة الاضطراب الذي أعانيه . وأثناء ذلك وفيما كنت أراقب حالتي المتدهورة، كنت أشعر بالفقدان يحيط بي من كل جانب. ويعتبر فُقدان تقدير الذات عَرَضًا مشهورًا، وقد تلاشى إحساسي بذاتي تمامًا، وتلاشت معه أي قدرة للاعتماد على الذات.
وقد تراكمت أدلة كثيرة مؤخرًا تدين دواء «هالسيون» (واسمه الكيميائي «تريازولام») باعتباره عاملًا مسببًا لهوس الانتحار وغيره من اضطرابات التفكير لدى الأفراد المعرضين للإصابة. وبسبب هذه التفاعلات، تم حظره تمامًا في هولندا، ولذلك يجب أن يخضع هنا على الأقل لمراقبة أكثر دقة.
وقد ظل موضوع الاكتئاب يَسري في صفحات الأدب ولوحات الفن كخيط دائم من التعاسة ـ بداية من مناجاة «هاملت» إلى كلمات «إميلي ديكنسون » و«جيرارد مانلي هوبكنز»، ومن «جون دون » إلى «نثانيال هوثورن » و«دوستويفسكي» و«ألان بو» و«كامو» و«كونراد» و «فيرجينيا وولف». وتتضمن العديد من نقوش «آلبريخت دورر» صورًا مروِّعة تعكس حالة «الملانخوليا» التي عاناها، كما أن لوحة «ليلة النجوم» لـ«فان جوخ» تمثل إرهاصًا لسقوط الفنان في هوة الخرف والانتحار. إنها المعاناة التي غالبًا ما يظهر أثرها في موسيقى «بيتهوفن» و«شومان» و«مولر» وتَسري في مقطوعات «باخ» الأشد قتامة.
وبالنسبة لأولئك الذين عاشوا في غابة الاكتئاب المظلمة، وخبروا معاناته التي يتعذر عليهم تفسيرها، فإن خروجهم من الهاوية يشبه صعود الشاعر وهو يخوض طريق الصعود من الدرك الأسفل للجحيم، حتى يبلغ أخيرًا ما يعتبره «عالم الضياء ». إن كل مَن يستعيد صحته هناك غالبًا ما يستعيد القدرة على الفرح والسكينة، وربما يكون ذلك خير تعويض عن احتماله ذلك اليأس الذي ما بعده يأس . «وهكذا خرجنا، ومرة أخرى أبصرنا النجوم ».