More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
هناك بلا شك مدارس أكثر قدرة على إدخال البهجة فى نفوس تلاميذها وأقل تعذيبًا.
أن أثر الأسرة والمناخ السائد فى البيت فى التربية العقلية والخلقية أهم من أثر المدرسة، ولكن الأهم بكثير من هذا وذاك هو الاستعداد الفطرى الذى يولد به الطفل. فإذا توفر هذا الاستعداد الفطرى فما أسهل أن يعوض الجهد الشخصى عما فشلت المدرسة فى تحقيقه.
ومن يدرينا أن الذى اختاره جدى لتعليم أبى لم يكن هو، على العكس، أفضل حلّ، لولا ما فيه من إرهاق مبالغ فيه؟
فإن تجربتى ومشاهداتى، ليست فقط المستمدة من أسرتى بل ومن خارجها أيضًا، تكاد تجعلنى أقطع بأن الحس الخلقى للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة، مثلما يولد معه أنف بحجم معين وصوت ذو نغمة خاصة.
ولكن ظل كل منهم على حاله الذى بدأ به، عقليا وخلقيا.
ولكن التفاوت العقلى والخلقى لم يطرأ عليه أى تغير، إذ يبدو أنه لا المدرسة النموذجية، ولا المدارس الأقل نموذجية، استطاعت أن تقضى على هذا التفاوت.
كان حبه الشديد للمال إذن سببًا فى عجزه عن تحقيق قدر كبير منه، على الأقل بالمعايير الشائعة فى هذه الأيام. أى أن الدنيا قد عاملته، من الناحية المادية، بنفس المعاملة التى عاملها به: «ما دمت تتصور أن هذا المبلغ التافه كبيرًا، فلن نعطيك إذن أكثر منه».
والمدهش أكثر من هذا أنه لم يكن يدور بخاطرنا حينئذ أننا نتعرض لأى حرمان بالمرة، إذ لم نكن ندرى شيئًا عما كان يجب أو يمكن أن يكون.
كان إذا كتب، نادرا ما يكتب كتبا مدرسية، وهى كتب كبيرة العائد المادى وإن كانت لا تحوى إلا ترديدا لما كتبه الآخرون،
تكتب لتنسى بمجرد أن يتوقف الأستاذ عن تدريسها.
وإنما يطرق موضوعات جديدة لا تكاد تدر دخلا ولكنها تعيش...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
بل كان السبب الحقيقى قلة حظه من الحنكة السياسية ومن الفهم لطبيعة المرحلة التى كان يقدم نفسه لخدمتها. لقد منعته إغراءات بسيطة للغاية، كالحصول
مثلا على فيللا فخمة فى الصف الأول من الفيللات المقامة على شاطئ مارينا، من أن يرى الأمور على حقيقتها.
وقد كانت هذه، فيما أعتقد، شيمته دائما منذ عرفته، ومن ثم كان رأيى أنه عومل فى حياته المعاملة التى يستحقها: أخذ من الحياة ما كان يطمح فيه بالضبط، وانتهت حياته نهاية فيها بعض سمات المأساة وبعض سمات المهزلة، مما يذكرنى بمنظره وهو يخطب فينا فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، عندما كان يتظاهر بالبكاء وهو يحاول...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
أقصد بذلك عادات التفكير العلمى والتعبير عن الأفكار بأقصر وأوضح طريق، دون الاعتماد على المبالغة،
بل لتعودى خلال هذه الفترة على قراءة الرأى ونقيضه، ومن ثم اكتشافى أن المسألة لا يمكن أن تكون بالبساطة التى كنت أظنها فى البداية، وأن الأمر يحتاج إلى تأمل وروية أكبر.
بل إنى لا أعتقد أننى أبتعد كثيرا عن الحقيقة إذا قلت إن أغلب قراءاتى فى تلك السنوات الخمس كانت قراءات «عقيمة»، اللهم إلا من حيث إنها أدت إلى الحصول على هاتين الشهادتين.
وأن أدرك أن هناك بعض الكُتاب الذين يمكن أن يشعر معهم القارئ بالأمان، فيستطيع أن يطمئن إلى أن أى شىء يصدر عنهم سوف يكون على الأرجح جديرا بالقراءة،
بدأت أتبين بالتدريج أن هذا الذى أدرسه فى لندن ليس هو فى الواقع ما كنت أريد دراسته، ولكنى، لحسن الحظ، لم أكن حينئذ قد بلغت السن أو حققت من النضج ما يجعلنى أبتئس كثيرًا لهذا الاكتشاف.
«إنهم فى إنجلترا يفضلون ألا ينتقل الطالب من الماجستير إلى الدكتوراه مباشرة بل أن يقضى فترة بعد الماجستير يقوم فيها بعمل ما غير الدراسة، ولو كان هذا العمل هو التدريس، إذ إن هذا يتيح له فرصة أن يكتشف ما الذى يريد أن يعرفه بالضبط، فلا يختار أى موضوع للدكتوراه لمجرد الحصول على الشهادة، بل يختار موضوعا يشوقه بالفعل ويهمه أن يدرسه».
لم تكن تعبر عما فى نفسى، بأى شكل من الأشكال: لا عن أفكار أعتبرها أفكارى، ولا عن مشاعر ملكت علىّ نفسى فجلست أعبّر عنها.
وسيظل هذا الكتاب فى نظرى رمزا باقيا لثلاث سنوات من عمرى كان من الأجدى بلا شك أن تنفق على شىء آخر.
ولكن من الممكن جدّا أيضًا أن يكون هذا التعاطف مع المظلومين سببه شعورى المستمر بأنى واحد منهم.
معروفا بعلاقته الطيبة مع الأمريكيين، قال له عبد الناصر ساخرا: «طيب، روح اسأل أصحابك الأمريكان»!
ففى تلك السنة بدأ عبد الناصر يشير إلى تهديدات الولايات المتحدة له بقطع المعونة إن لم يكف عن استخدام مواقف معينة فى سياسته الخارجية لا ترضى عنها الولايات المتحدة. وبدأ يستخدم عبارات عنيفة فى مهاجمة الولايات المتحدة مثل قوله المشهور فى إحدى الخطب: «إذا لم يعجب الولايات المتحدة ما نفعله فلتذهب لتشرب من البحر، فإذا لم يكفها البحر الأبيض فلتشرب من البحر الأحمر». لابد أن سقوط نيكروما وسوكارنو وبن بللا وغيرهم من القادة الذين كانوا يتبعون سياسة مشابهة لسياسة عبد الناصر، قد أصاب عبد الناصر بالقلق، وخاصة عندما أخبرته الولايات المتحدة بالفعل فى ١٩٦٥ بأنها ستوقف معوناتها الغذائية له بسبب عدم رضاها عن
...more
كان من بين ما خطر لعبد الناصر من أفكار لتجنب المصير الذى تعدّه له أمريكا تكوين قاعدة جديدة له من المثقفين، ينظّمون فيما يشبه الحزب السرى خارج نطاق الحزب الحاكم، أى خارج نطاق الاتحاد الاشتراكى، بحيث يسهل الاتصال بهم وتكليفهم بأعمال لحماية النظام ودعمه، بدلا من الاعتماد على أشخاص قد يكونون أسهل قيادا، ولكنهم لا يؤمنون حقا بمبادئ النظام، وإنما يخدمونه مدفوعين بمصالح شخصية بحتة، ومن ثم لا يمكن الاعتماد عليهم إذا واجه النظام أزمة حقيقية مع قوة خارجية.
كان النظام يضيّق الخناق على الناس أكثر فأكثر كل يوم،
وأظن الآن أن السبب الأساسى لذلك ربما كان ازدياد شعور عبد الناصر بأن الولايات المتحدة تعمل على الإيقاع به وتدبر له فخا للوقوع فيه، فاشتد شعوره بالشك فى الناس وازدادت إجراءات الأمن قسوة.
حدث
كنت قد قرأت فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧ الرواية الشهيرة (١٩٨٤) للكاتب الإنجليزى جورج أورويل، التى يصف فيها عالما مخيفا يعامل فيه الناس كقطيع من الأغنام، ويساقون إلى مصير مجهول، تحقيقا لمآرب مجهولة لحكام مجهولين، ويتعرضون أثناء ذلك وفى كل يوم لأخبار مزيفة عن حروب لم تنشب، ويسمعون فيها عن انتصارات لم تحرز، تذيعها وزارة تسمى وزارة الحقيقة مع أن موظفيها لا عمل لهم إلا تزييف التاريخ والحاضر والمستقبل. كان ما حدث لمصر منذ الهجوم الإسرائيلى فى١٩٦٧، وحتى بدأ كلام السادات عن السلام مع إسرائيل، يبدو لى غير مفهوم بالمرة، ولكنه يكاد يقطع بوجود مؤامرة ضد مصر والعرب مرسومة بكل دقة من قبل أن يبدأ تنفيذها،
دفعنى ذلك إلى أن أقرأ
رواية أورويل من جديد فوجدتها ملائمة جدّا لحالتى النفسية ولنوع ما كان يدور بذهنى من خواطر.
بدا عبد الناصر رجلا محترما للغاية بالمقارنة بخليفته،
كان من المطلوب بالطبع، فى تلك الفترة، تشويه سمعة عبد الناصر، تمهيدا لنقض سياساته المختلفة فى الاقتصاد والعلاقات الخارجية والعربية وعلاقة مصر بإسرائيل.
وكان هذا التشويه لسمعة عبد الناصر وعهده يتطلب إتاحة درجة من حرية النقد التى يسهل الرجوع عنها متى تمت المهمة التى جاء السادات من أجلها.
منذ منتصف السبعينات إذن أصبحت على استعداد لنسيان كل ما ارتكبه عبد الناصر من أخطاء، فإذا ذكرت أمامى اعترفت بها على مضض لشعورى بأن القضية الآن أصبحت أخطر بكثير، وأن التضحية ببعض الحريات السياسية والشخصية أهون من كل هذه التضحيات التى يطلبها منا السادات.
بدا لى هذا الذى حدث للسادات وكأنه عقاب لائق لما ارتكبه فى حق مصر والعرب من أخطاء.
الدولة «الخانقة» فى عهد عبد الناصر، والدولة «الرخوة» فى عهد السادات،
وهنا لابد أن أعترف بأن واحدًا من تحّيزاتى القوية والثابتة فى ذهنى منذ زمن طويل وتأبى أن تفارقنى، هو هذه الفكرة: أن الحرمان المادى فى الصغر أمر خطير للغاية إذ يترتب عليه فى الغالب مادية مفرطة فى الكبر.
كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المال، إلى البحث عن سبب ذلك فى ظروف نشأته، وكلما وجدت شخصا كريما سخيا ومستعدا للتضحية بالكسب المادى من أجل فكرة أو مبدأ افترضت على الفور أنه لم يصادف حرمانا فى صباه.
محمد الأنصاري liked this
أستطيع أن أتصور شعور رجل وصل إلى أعلى المناصب وأصبح بهذه الدرجة من القرب من مركز اتخاذ القرارات ثم يتبين عجزه عن القيام بأى إصلاح.
أن يبحث الرجل المصاب بخيبة الأمل عن وظيفة مربحة عالية الدخل وقليلة المسئوليات. هكذا قبل إسماعيل غانم وظيفة مستشار قانونى بالكويت، وهو آخر من كنت أتصور أن يقبل مثل هذه الوظيفة. ولكنى فوجئت يوما وأنا أعمل مستشارا اقتصاديا بالصندوق الكويتى بإسماعيل غانم، يأتى لينضم إلينا فى عمل لا يتطلب جهدًا كبيرًا ولا ألمعية زائدة، ولكنه مجز ماديا.
ما أكثر المصريين الذين ذهبوا إلى الكويت بدافع «تكوين النفس» هذا، ولكنهم لم يستطيعوا الخروج بعد أن التهموا قطعة الجبن، إذ زاد وزنهم وترهلت نفوسهم وانفتحت شهيتهم للمزيد، وما كان يبدو كافيا فى البداية لم يعد كافيا، وما كان كماليا يسهل الاستغناء عنه أصبح ضروريا لا يمكن العيش بدونه.
محمد الأنصاري liked this
إذ لابد أن كان لديه من الفراغ فى الوقت والذهن، ما يجعله يهتم بشىء كهذا، بل وأن يترك مكتبه ويأتى إلىّ لكى يقول لى ذلك. ولكن الأستاذ كان قد انقضى على مجيئه إلى الكويت أربع أو خمس سنوات، فخطر لى أننا جميعا لابد أن نصبح مثله، دون أن نشعر، بعد انقضاء بضعة
شهور أخرى.
إذ ما هى المشكلة التى تريد أن تجد لها حلا فى الكتب؟
أتاحت
جدية الباكستانيين وحماسهم،
وحكمة الهنود ورصانتهم
، وروح ماليزيا الشابة وحيويتها، وسلبية الإندونيسيين ويأسهم من الإصلاح، وصرامة أهل سنغافورة وانضباطهم، وبؤس بنجلاديش وقلة...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.

