More on this book
Kindle Notes & Highlights
تشي غيفارا لديه جملةٌ رائعة: «الشرف هو أن تقول دائمًا ما تعتقده، وأن تفعل دائمًا ما تقوله».
هذا الولاء الأُسريّ العميق، الذي يشبه عقيدة دينيَّة، انتقل من مدني إلى أفراد عائلته، فجعل كلَّ واحد فيهم يعتبر نفسه مسؤولًا عن الآخرين...
شكوى إيه يا حاجّ مدني. إحنا في مصر... الظلم هو القاعدة.
- يا بْني إنت زعلان ليه، البلد بلدهم يعملوا فيها زيّ ما همَّ عاوزين. ركِّز في مذاكّرتك وأوَّل ما تتخرَّج تسافر بإذن الله.
- يا ولاد أنتم بدأتم... كمِّلوا للآخر... إيَّاكم تتراجعوا. كان كلامه لا يتَّسق مع مظهره وعمله. ظللنا صامتين، فصاح بصوت أعلى: - إيَّاكم تجرحوا الثعبان وتسيبوه. لازم تخلَّصوا عليه. لو ما قتلتوش الثعبان حيقتلكم...
أنا اسمي حسن، من الإسماعيليَّة... خرِّيج علوم وبقى لي عشر سنوات عاطل. ما عنديش أمل في أيِّ حاجة.. لا زواج ولا عمل ولا سفر. أنا جيت الليلة وقدّامي اختيارين: أشيل حسني مبارك أو أموت... أنا مش خايف من الموت. أنا ميّت فعلًا...
التمرُّد والمظاهرات شيء غريب على طبيعة المصريِّين. إحنا شعب مُطيع طول عمره يحترم قيادته حتى لو غضب منها. اللي بيحصل في ميدان التحرير شيء شاذّ عن العقليَّة المصريَّة. هدفنا نبعث رسالة للمصريِّين بأنَّ المظاهرات نتيجتها الوحيدة الفوضى. هدفنا نقول للمواطن العادي: إمَّا تقف مع المظاهرات وتفقد الأمان وإما تقف مع الدولة وهي تحميك.
- طبقًا للخطَّة ممكن تفتح السجون؟! - دَه حيحصل فقط في حالة فشلنا في السيطرة على المظاهرات، لا قدَّر الله. - مفهوم... حتفتح كمّ سجن، وكم عدد الهاربين؟ - حنفتح حوالى خمسة سجون وعدد الهاربين حيكون بين 25 لـ 30 ألف مسجون. طبعًا زيّ ما كتبت في الخطَّة. الهدف إحداث حالة هلع بين المصريِّين، بحيث إنَّهم يقفون مع الدولة ضدَّ المخرِّبين.
عندما وصل إلى ميدان التحرير وجده مزدحمًا عن آخره. كانوا مصريِّين عاديِّين، من مختلف الطبقات. نساء محجَّبات وسافرات. شباب من الطبقة المتوسِّطة وأناس شعبيُّون وريفيُّون يرتدون جلابيب. وقفوا في حلقات يتناقشون بحماسة.
تطلَّعت إلى وجوه المتظاهرين. كانوا أُناسًا عاديّين مثل الذين تعالجهم في القصر العيني... أين هي المؤامرة الكبرى التي تحدَّث عنها أبوها؟! هل كلّ هؤلاء قبضوا أموالًا من الخارج؟! هل النساء اللاتي يزغردن في الشرفات عميلاتٌ للمخابرات الأميركيَّة؟! وهل يُجيز الشرع قتلَ هؤلاء المتظاهرين، كما أفتى الشيخ شامل؟! هل يُجيز الإسلام قتلَ من يطالب بالعدل؟
كانوا نحو أربعين عسكريًّا مرُّوا، واحدًا بعد الآخر، إلى الشارع المجاور لمبنى كايرو سنتر. هناك كانت تنتظرهم سيَّارة شرطة كبيرة يُفترض أن يصعدوا إليها. لكنَّهم بمجرَّد وصولهم إلى السيَّارة، حدث ما لم نتوقَّعه. ظهر ضابط شرطة برتبة رائد لن أنسى وجهه أبدًا. كان نحيفًا وعصبيًّا. وزَّع ذخيرة على الجنود وأمرهم، فبدأوا يضربوننا بالرصاص الحيّ. حاولنا أن نهرب فاكتشفنا أنَّهم وضعونا في كمَّاشة. الجيش أغلق ميدان التحرير حتى يتيح الفرصة للشرطة لقتلنا.
رأيت زملائي يموتون بالرصاص. رأيت الشهداء جثثهم تتناثر على الأسفلت، ورأيت زميلًا وهو يحتضر، شهق ثم ارتجف جسده ومات. رأيت عسكريًّا يتقدَّم نحو شهيد ويسرق ما في جيوبه، ثم يفكّ الساعة من معصمه ويأخذها.
كيف يحتفي بكلِّ ما يقوله ويعتبره خلاصة الحكمة ومنهاج العمل. في حضرة رئيسه، يتحوَّل زناتي إلى شخص آخر: يتحوَّر، ينكمش، يتضاءل، يقوِّس ظهره، ويتحدَّث بنبرة خاضعة مستكينة لأنَّه يعتبر الثقة بالنفس أمام الرؤساء وقاحةً. ومهما يكن السياق أو الموضوع، فسيقترب زناتي من رئيسه وينحني،
منذ اليوم الأوَّل للثورة، جاء إلى التليفزيون عقيد من أمن الدولة، واتَّخذ له مكتبًا في إدارة الأمن واجتمع بالمذيعين والمعدِّين، وأخبرهم بأنَّه من الآن فصاعدًا، ونتيجة للظروف الدقيقة التي يمرُّ بها البلد، سيعطيهم تعليمات يوميَّة
اتَّصلت نورهان بالشيخ شامل لتسأله عن الرأي الشرعيّ في إذاعة معلومات غير صحيحة في التليفزيون. سكت الشيخ شامل لحظات، ثم قال لها إنَّنا نُعتبر الآن في حالة حرب مع المخرِّبين الذين يريدون إسقاط الدولة، والشرع الحنيف
- أقول لهم هذه مؤامرة ماسونيَّة دبَّرها اليهود حتى يفتنوا المسلمين عن دينهم. أناشد أبنائي الشباب في ميدان التحرير: أنتم قد غرَّر بكم أبناء صهيون. توبوا إلى الله وادرأوا فتنة ستُغرق بلادنا بالدماء. أيّها الشباب عودوا إلى بيوتكم، فليس هذا سبيل التغيير، إنَّما تدمِّرون مصر بأيديكم. عودوا إلى الله.
رصاصة واحدة، قاطعة، فاصلة، تُنهي ذكريات الطفولة ورعاية الأهل وتعب المذاكرة وفرحة النجاح الدراسيّ وأحلام الحبّ والزواج. كلّ شيء ينتهي بضغطة واحدة على الزناد.
فعلت شيئًا غريبًا. تصوَّر أنَّني احتضنتها؟! ألقت برأسها على كتفي، وقالت: - ارحمينا يا أسماء. إحنا كبرنا وتعبنا. كم آلمتني هذه العبارة، يا مازن. مواجهاتي مع أمِّي أسوأ شيء في حياتي. أنا وهي نظلّ وحدنا في شقَّة مغلقة نتصادم مرَّة بعد أخرى بلا نهاية، كأنَّنا ننفِّذ عقابًا إلهيًّا. تصرخ وتبكي فأشفق عليها وأواسيها، ثم في لحظة ما تستفزّني فأردّ عليها، فنبدأ من جديد. مشاحنات وصراخ ونحيب. تصوَّرْ أنَّني في أعماقي أتعاطف تمامًا مع أمِّي... لا أستطيع أن أكمل مواجهتها حتى النهاية. دائمًا أصل إلى نقطة أبحث فيها عن حلٍّ وسط لأُرضيها، لكنَّني أعود فأتمسَّك بموقفي فيتضاعف غضبها عليَّ...
تحوَّل ميدان التحرير إلى جمهوريَّة صغيرة مستقلَّة؛ أوَّلِ أرض مصريَّة يتمّ تحريرها من حكم الديكتاتور.
قبل أن يتحدَّث أيّ خطيب في الميكروفون، كان المنظِّمون يطلبون منه مصافحةَ أمَّهات الشهداء. لفتة، ربَّما كان الغرض منها أن يفهم المتحدِّث أنَّ الثورة لن تفرِّط في حقوق الشهداء.
كان المعتصمون من كلِّ الطبقات. أرستقراطيُّون من نادي الجزيرة والزمالك وغاردن سيتي، وقاهريُّون شعبيُّون وريفيُّون وصعايدة ونساء سافرات ومحجَّبات ومنقَّبات وروابط الشباب من ألتراس، مشجِّعي كرة القدم، وهؤلاء كان دورهم حاسمًا في الدفاع عن الثورة. كانوا منظَّمين ويتمتَّعون بلياقة بدنية عالية، ولديهم خبرة طويلة في مقاومة اعتداءات الأمن.
- تفتكر يا أشرف بك ربِّنا يقبل صلاة المسلمين والأقباط مع بعض؟ توقَّف عن السير، وتطلَّع إليها وقال: - صَلاتنا هنا مع بعض أحسن عند ربِّنا من أيّ صلاة يعملها الشيوخ والقساوسة اللِّي بياخذوا تعليمات من ضبَّاط أمن الدولة.
رأيت بعينَيَّ فرق البلطجيَّة على الجِمال، وهي تمرّ بين قوَّات الجيش، فيفسح لها الضبَّاط... وعندما ذهبنا إلى العقيد المسؤول نطلب منه منع البلطجيَّة، قال لنا: - أنتم ضدّ مبارك وهم يحبُّون مبارك. أليسوا مواطنين مصريِّين مثلكم، ومن حقِّهم أن يعبِّروا عن رأيهم... أين حرِّيَّة الرأي التي تطالبون بها؟ قلت له: - الموضوع لا علاقة له بحرِّيَّة الرأي. هؤلاء بلطجيَّة مسلَّحون جاؤوا ليقتلونا... ونحن متظاهرون سلميُّون، وواجب الجيش أن يحمينا. بان الغضب على العقيد، وقال: - ما عنديش أوامر بالتدخُّل.
الضابط الوحيد الذي خالف الأوامر اسمه النقيب ماجد بولس، أطلق النار في الهواء ليحمي المتظاهرين، لكنَّه لم يستطع منع مئات البلطجيَّة...
معتصمون معرَّضون للقتل بالرصاص في أيّ لحظة، انقطعوا عن أعمالهم ولا يجدون قُوْتهم، لكنَّهم، مع ذلك، يرفضون أيّ مساعدة ماليَّة من زملائهم. هذا الموقف النبيل لم يتَّخذه شخص أو اثنان، وإنَّما آلاف المعتصمين الفقراء. كيف نُهزَم يا أسماء، وفينا هؤلاء النبلاء؟! كيف نُهزَم ومليون رجل وامرأة يعيشون جميعًا في ميدان التحرير، فلا تحدث بينهم حالةُ تحرُّش واحدة، ولا حالةُ سرقة واحدة، ويشتركون في كلِّ شيء كأنَّهم أفراد أسرة واحدة، يقتسمون الأكل والشرب ويواجهون معًا طلقات الرصاص والخرطوش وقنابل الغاز وطعنات البلطجيَّة.
يودّ لو يكتب مقالًا يقول فيه: «أيّها المصريُّون، اقرأوا تاريخ بلادكم وتاريخ الثورات في العالم، قبل أن تدفعوا بشبابكم إلى الموت بلا طائل. هناك شعوب طبيعتها ثوريَّة، أمَّا أنتم، أيُّها المصريُّون، فلم تُخلَقوا للثورة ولم تُخلَق لكم. في تاريخكم الحديث لم تنجح ثورة واحدة... كلّ تمرُّد قمتم به ضدّ السلطة، فشل وزادت الأوضاع سوءًا».
سمعت عن ؟يرا زاسوليتش؟! - لا. - كانت ؟يرا شابَّة اشتراكيَّة في روسيا عام 1879. وعندما سمعت أنَّ الحاكم العام لمدينة بطرسبرغ، الجنرال تريبوف، قام يتعذيب سجناء، ذهبت إلى مكتبه وأطلقت عليه الرصاص، لكنَّها أصابته ولم تقتله. قبضوا عليها. وعندما سألوها في التحقيق إن كانت ثمة عداوة بينها وبين تريبوف، قالت: - أنا لا أعرف تريبوف، لكنَّني أعرف أنَّه يعذِّب السجناء، وأنا قرَّرت أن أقتله لأنَّه لا يجوز لأحد أن يهين إنسانًا بمثل هذا الإيمان العميق بالإفلات من العقاب...
لن أنسى مشهد ملايين الناس وهم يصيحون ويغنُّون ويبكون من الفرح، في كلِّ مكان في مصر. لن أنسى الشباب والبنات في اليوم التالي لسقوط مبارك وهم يكنِّسون الشوارع. ويُعيدون طلاء الأرصفة... انظرْ كم هي راقية ومتحضِّرة ثورتنا. هل حدث في التاريخ أن ثار الناس وخلعوا الديكتاتور ثم كنَّسوا الشوارع؟!
ما إن دخلت الفصل، حتى قالت أكثر من تلميذة: - مبروك يا أبلة أسماء. قمت بالشرح كالمعتاد، لكنَّني أحسست بحالة جديدة بين التلميذات، كأنَّهنَّ يستقبلنَ ما أقوله بطريقة مختلفة؛ كأنَّهنَّ كنَّ مثقلات بقيود وتحرَّرن؛ كأنَّهنَّ يُردن الحديث عمَّا حدث، لكنَّهنَّ ينتظرن أن أبدأ. وجدتني أقول لهنَّ: - إيه رأيكم في الثورة؟! تعالت صيحاتهنّ وتسابقن ليحكين لي كم أنَّهنَّ سعيدات بسقوط مبارك. عندئذ سألت: - مَن اشتركت في الثورة؟! رُبع البنات رفعن أيديهنَّ. نسبة الثوار من الشعب نفسُها. قلت لهنَّ: - كلّ واحدة اشتركت في الثورة لازم تبقى فخورة وتحكي لأولادها أنَّها ساهمت في بناء مصر جديدة نظيفة ومحترمة.
- لولا أنَّ ذلك حرام شرعًا لكنت قبَّلتك يا أسماء. أنا فخور بك وبكلِّ الشباب من أبناء جيلك. كان ردّ فعلي بطيئًا من أثر المفاجأة. الأستاذ عبد الظاهر، الذي أحالني على التحقيق وأهانني وظلمني، كيف تغيَّر بهذه السرعة. قلت له: - شكرًا، أنا لم أعمل شيئًا. الشعب المصري هو صاحب الفضل.
كلّ شيء يتغيَّر فعلًا. كأنَّ الديكتاتور كان جاثمًا على أنفاس مصر، فلمَّا انخلع تحرَّر المصريُّون جميعًا.
«ربّنا بيحبّني يا دانية، أعطاني أبّ فقير ومحترم بدل ما كان يبتليني بأب غنيّ وفاسد».
لقيتها بتقولي اقلعي هدومك كلّها. قلت لها طبّ أستأذن حضرتك تقفلي الشبّاك واقفلي الباب وأنا مع حضرتك. قالت لي لا، ودخّلت حد يقعد يضربني. اضطرِّيت اقلع غصب عنِّي. طبعًا العساكر واقفين عند الشبَّاك بيضحكوا وبيغمزوا لبعض كده وأنا عريانة، واللي على الباب شايفني رايح جاي عساكر وضبّاط، يعني رايحين جايِّين يتفرَّجوا عليّ وأنا عريانة... بجدّ أنا في اليوم ده اتمنِّيت الموت، وانا والله قعدت أقول لنفسي هي الناس بتجيلها سكتة قلبيَّة... أنا ليه ميجليش
الواحد كان بيتمنَّى الموت، يعني الواحد بقى يقول كلّ الناس دي ماتت اشمعنا أنا مجاش دوري في الموت، اشمعنا أنا ما موتش...
وكيل النيابة جه عليّا شتمني وهزَّأني وخلَّى حدّ يكهربني قدامه... أنا والله ما كنت متوقّعة منهم ده خالص... ماكنتش متوقَّعة خالص ده يحصل... أنا كنت عشمانة في وكيل النيابة يجيبلي حقِّي، لقيته زيُّهم بيقولي دي ورقة جاية من المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة بتتّهمكم بكده...
أحسَّ أشرف بحزن بعد هذه المكالمة. لماذا لا يقتنع بطرس وسارة بمنطقه أبدًا. لماذا تستطيع أمّهما أن تزرع في ذهنيهما أيّ فكرة تريدها؟ هل لأنَّ الأمّ كانت النموذج الناجح، وهو الفاشل. هذه الفكرة كانت تؤلمه. يلتمس أحيانًا لهما العذر لأنَّها أمُّهما، لكنَّه يعود فيقول لنفسه: حتى لو كان تأثير الأمّ فيهما طاغيًا، ألا يُفترض أن يكون رأيهما مستقلًّا بعد أن صارا شابَّين ناضجين؟
سميرة، قالت إنَّ أباها شجَّعها على أن ترفع قضيَّة لاسترداد حقّها.
الثورة يجب أن تأخذ من كلّ شخص بحسب طاقته. هذه كلمات أبي، رحمه الله، التي ردَّدها أمامي كثيرًا، وها أنا أعيش لأعرف قيمتها... يلازمني أبي دائمًا. كنت أتمنَّى أن يعيش حتى يرى انتصار الثورة، ليتأكَّد من أنَّ التضحيات التي قام بها في حياته لم تضع عبثًا.
وبعدين المدرَّعات ابتدت تجري بسرعة مجنونة، رايح جاي في الشارع. تجري في «زيغ زاغ». تشوف مجموعة بتحاول تهرب فتجري وراهم. تطلع فوق الرصيف وتدهس ناس، تشوف ناس الناحية التانية فتحوّد تدوس عليهم. ما كنتش مصدَّقة نفسي. كنت مرعوبة. وبعدين المدرَّعتين بدّلوا مع مدرَّعتين تانيين، عملوا الحاجة نفسها: جري جنوني، دهس للناس، الناس بتجري في كلِّ اتِّجاه علشان تفادي محاولات الدهس.
وقعدوا يهتفوا للعسكري علشان ما يخافش «اطلع اطلع اطلع». كانوا خايفين أنَّه يتحرق جوَّاها. العسكريّ أخيرًا طلع ونطّ، ناس قعدت تضربه، وناس أكتر قعدت تخلَّص فيه. العسكري ده كان لسَّه قاتل أخواتنا، كان لسَّه طايح فينا كلّنا بقلب ميِّت، لكنَّ الناس قرَّرت ما توسَّخش إيديها بدم، شفته بيجري في حماية اتنين رجالة كبار في السنِّ.
لقيت ستّ بتصوَّت وبتقول «يا ربّ، مالناش مكان في بلدنا يا ربّ، يا ربّ، بتعرّفنا أنَّ دينهم إلِّي صحّ يا ربّ؟ ارحمنا يا ربّ».
أنا دلوقتِ مش قادرة أكمِّل حكي. اللي حصل يوم الحد ما كنش له أيّ علاقة بمواجهات بين مسلمين ومسيحيِّين، ما كنش فتنة، كان ببساطة عنف السلطة ضدَّ متظاهرين سلميِّين، إلِّي كان بيحصل أيَّام مبارك نفسه. مش بس كده، لكنَّ السلطة مستعدَّة تستخدم الإعلام علشان تخلِّي مصريِّين يضربوا بعض بالكدب، مستعدِّين يولَّعوا في البلد.
يومها سقط شهداء من المتظاهرين لسّه مش عارفين عددهم، أقلّ عدد قالته وزارة الصحَّة كان 25، أنا شخصيًّا شفت 17 جثمان. واحد من الجثامين دول كان شابّ أعرفه، اسمه مينا دانيال، مينا كان معرفة من التحرير، ما كنَّاش أصحاب بس كنت أعرفه. مينا كان شابّ جدع، يوم معركة الجَمَل كان اتصاب برصاصة ونجي منها، لكن المرَّة دي الرصاصة إلِّي جت في صدره وعدِّت من ضهره قتلته.
ولقيت التليفزيون المصري، اللِّي مش لاقيله وصف قذر كفاية أوصفه بيه، بيحكي في هَذْي غريب جدًّا، زيّ مثلًا استشهاد جنديين على أيدي متظاهرين أقباط. وإزّايّ المتظاهرين الأقباط يحاولوا اقتحام ماسبيرو ويطلقوا الأعيرة الناريَّة على قوَّات الجيش.
لدرجة أنَّنا بعد ما رفعنا الواد فوق الأرض كلّنا ومن دون تفكير سبناه يقع تاني وجرينا. شفتوا مهانة أكتر من كده؟!! عارفين يعني إيه إحساس راجل لمَّا يجري ويسيب واحد ميِّت أو مصاب؟ يجري بحياته لأنَّه خايف على روحه... هي دي المهانة والرجّالة سيتفهَّمون.
جريت أنا ناحية النيل وقنابل الغاز مَلِتِ الجوّ، وأنا بعيَّط مش عارف من الغاز، ولَّا من الواد اللِّي مات، ولَّا على نفسي، ولَّا على كلّه. وأنا بتراجع شفت بعيني كمِّيَّة أشلاء سايباهم المدرَّعة وراها أمعاء وأمخاخ ورجلين ونصّ بني آدم. كلّ ده شفته. بس الأقذر بقى أنِّي شفت ناس بتجري ومن الهلع بتدوس على هذه الأشلاء.
- قبل ما أقول لكم الغرض من الاجتماع. أحبّ أكلِّمكم على الجهاز اللِّي أُشَرَّف برئاسته. ضبَّاط الجهاز ليسوا فقط رجال أمن. كلّنا درسنا علم نفس واجتماع، وفيه ضبَّاط كثير معهم شهادات من جامعات كبيرة. إحنا كلّنا من المصريِّين الوطنيِّين وأنا هنا أتكلَّم بصراحة... شعبنا جاهل وتفكيره متخلِّف. معظم المصريِّين لا يعرفون كيف يفكِّرون لأنفسهم.
مهمَّتكم كإعلاميِّين هي التفكير بدل الشعب... مهمَّتكم صناعة دماغ الإنسان المصري وتكوين آرائه. بعد فترة من التأثير الإعلامي الفعَّال، الناس تعتبر أنَّ ما يقوله الإعلام هو الحقيقة. إذا قلتم إنَّ فلان حرامي يبقى حرامي. إذا قلتم إنَّ فلان بطل الناس تؤمن بأنَّه بطل. أنا مش باهين الشعب. أنا ابن الشعب ده. أنا باكلِّمك على تكوين الشخصيَّة المصريَّة.
كيف يصل الإجرام بالمجلس العسكريّ إلى أن يُصدر الأوامر بدهس الأقباط بالمدرَّعات؟! لماذا لم يكتفوا بقتلهم بالرصاص؟ هل تعمَّدوا ذلك من أجل ترويع الأقباط؟ أسئلة كثيرة ألحَّت على ذهني وسط الجحيم الذي عشته بالأمس. وحتى تكتمل المأساة، كان هناك مواطنون مسلمون متجمهرون أمام المستشفى يهتفون ضدَّ الأقباط ويتوعَّدونهم بالموت. هؤلاء صدَّقوا أنَّ الأقباط هم الذين اعتدوا على الجيش، كما كان التليفزيون يردِّد (المذيعة الحقيرة نورهان وأشباهها)...
لقد رأيت أمس مصر القبيحة التي ثرنا ضدَّها: التعصُّب الديني؛ الظلم؛ إجرام السلطة؛ قتل الأبرياء؛ تزوير الطبِّ الشرعي؛ خضوع النيابة لإرادة الأمن. كلّ شيء حقير في هذا البلد رأيته بالأمس.

