Kindle Notes & Highlights
فتقدم إلى الخليفة المعز وقال له: «إلى من ينتسب مولانا؟». فقال له: «سنعقد مجلساً نجمعكم فيه ونسرد عليكم نسبنا». ولما استقر المعز في القصر جمع الناس في مجلس عام، وجلس لهم وقال: «هل بقي من رؤسائكم أحداً؟» قالوا: «لم يبق معتبر». فسل سيفه وقال لهم: «هذا نسبي». ونثر عليهم ذهباً كثيراً وقال: «هذا (حبسي)». فقالوا جميعاً: «سمعنا وأطعنا»! وقد توالى على مصر الفاطميين أحد عشر خليفة، حكموا مائتي عام ونيفاً (من سنة ٣٥٨ حتى ٥٦٧هـ). أولهم المعز لدين الله، وآخرهم العاضد لدين الله. ومرت الدولة في أثنائها بثلاثة أدوار: كانت في أول أمرها قائمة بالعرب والبربر وهم الذين فتحوا مصر مع جوهر فكان النفوذ مشتركاً بين
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
فابتسم الخليفة ابتسامة مصطنعة وقال: «أهلاً وسهلاً بكم قد نزلتم على الرحب والسعة. وقد أمرت أن تعد لمقامكم منظرة اللؤلؤة وهي أجمل قصورنا بل أحد متنزهات الدنيا فعسى أن تجدوا فيها راحة». فتأدب نجم الدين في مجلسه وأبدى الاحترام وأثنى على الخليفة ثناءً كثيراً. ثم قال صلاح الدين: «إن تنازل مولانا بالخروج للقاء والدي نعمة لا أنساها له، نحن حينما كنا فإننا ندعو له بطول البقاء». فحك الخليفة عثنوته بسبابته وتناول قضيب الخلافة من فوق الوسادة التي إلى جانبه (وهو قصير مغشى بالذهب) وتشاغل بالنظر إليه. ثم سعل والتفت إلى نجم الدين وقال: «كيف فارقت صديقنا الأتابك نور الدين؟» فأجاب وهو يتلطف قائلا: «فارقته في
...more
قال: «لابد من إعلان الدعوة العباسية، هل ذلك صعب عليك؟» قال: «كلا. ولكنني أراك تتجاهل أمراً آخر أضمره». قال: «فهمت مرادك إنك تفكر في أمر نور الدين، وهل إذا أعلنت الدعوة في المساجد للعباسيين تكون مصر ملحقة بالشام تابعة لنور الدين أم …» فأبرقت أسرة صلاح الدين ولمعت عيناه وأتم كلام أبيه قائلاً: «أم لصلاح الدين وحده؟» فابتسم أبوه وقال: «إنك تتعجل أمراً لا بد من التؤدة فيه، إنما يهمنا الآن الدعوة». قال: «أما الدعوة فسننظر في أمرها ولكنك لم توضح لي رأيك من الوجه الآخر». قال: «وما هو؟». قال: «أنت تعلمه ولكنك تريد أن تسمعه من فمي فاسمع. إني قد دبرت أمر مصر وضبطت شؤونها بسيفي وتدبيري وبسيف عمي من قبلي.
...more
فضحك نجم الدين ضحك استخفاف، وعبث بلحيته يمشطها بأصابعه ثم قال: «إن الحق يا بني للقوة، تلك هي قاعدة أصحاب السياسة، وإلا لوجب علينا أن نخرج من هذا البلد ونتركه لأهله لأن صاحبه إنما استنجد الأتابك نور الدين على رجل من خاصته تمرد عليه، فأنجده بعمك أسد الدين وأنت معه، وكان ينبغي لكما أن تخرجا من مصر بعد الفراغ من تلك المهمة وقبض ما تستحقانه من الأجر على نصركما. فبقاؤك هنا سواء أكان باسم نور الدين أم باسمك إنما هو جشع. وإنما تعده حقاً إذا كنت قادراً على تنفيذه فالحق هو القوة يا بني. تلك هي شريعة الفاتحين».
وقال: «تمهل يا أبتاه. إن هذا الخليفة دعانا إلى نصرته على الإفرنج، وأهل القاهرة أنفسهم راسلوا نور الدين وبذلوا له ثلث بلاد مصر إقطاعاً وأن يقيم عمي أسد الدين عندهم وله الإقطاع هو ورجاله أيضاً. لا أن يقضي مهمته وينصرف كما تقول. ثم نكث وزيره شاور ولم يف بما وعد فقتلته أن بيدي فصفا لنا الجو. ولو لم أقتله لم يكن لنور الدين إقطاع ولا …» فقطع نجم الدين كلامه وهو يمشي نحوه وقال بلهجة الشيخ الوقور: «إنك تخاصم نور الدين على غنيمة لا تزال في حوزة أصحابها، ولا يحق التنازع بينكما عليها إلا بعد إخراجها من قبضتهم. وهذا لا يكون إلا بنقل الدعوة من الفاطميين إلى العباسيين ثم نرى بعد ذلك، وهذا يكفي الآن».
فقال: «إلى متى الصبر يا أبا الحسن. كأنك لم تعلم بما فعلوه معي. ولم تسمع إلا مجاملتهم لي بالكلام ومخاطبتي بالإمارة. إنهم لم يتركوا لي من هذه الإمارة إلا لفظها. إن يوسف صلاح الدين هذا قد منع المؤذنين من الأذان بجملة (حي على خير العمل) كما كانوا يفعلون في دولتنا. وعزل قضاة مصر لأنهم من شيعتنا وولى قضاة شافعية على مذهبه، وقبض على مرافق البلاد بيد من حديد، وتقول لي اصبر! أين الصبر؟». قال ذلك وغص بريقه. وكان
رجل يقال له ضياء الدين عيسى الهكاري من الأمراء الصلاحية كبير القدر كان صلاح الدين يعول عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين عم صلاح الدين وصار أمامه يصلي به. فلما توجه أسد الدين إلى مصر مع بهاء الدين قراقوش صحبهما عيسى هذا وكان مخلصاً لصلاح الدين. فلما توفي أسد الدين اتخذ عيسى وقراقوش على تنصيب صلاح الدين موضعه في الوزارة ودققا الحلية حتى بلغا المقصود. فلذلك كان لعيسى دالة على صلاح الدين يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره وكان من الجهة الأخرى علوي النسب فكان له مع أبي الحسن صداقة. وكان عيسى يحاسن أبا الحسن وفي نيته انه سيحتاج إلى استخدامه في
...more
«اعلم يا بني أن الإسماعيلية أو الباطنية أو الحشيشية طائفة من الشيعة لها بالدولة العبيدية علاقة قل من يعرفها، ولذلك أحببت أن أفصلها لك. إن مذهب الإسماعيلية كان مذهب هذه الدولة عند الفتح وقد نصروه ولاسيما الحاكم بأمر الله فإنه أحياه ونشره بمساعدة رجل فارسي اسمه حمزة الدرزي». «وفي أيامه ظهر رجل فارسي اسمه حسن بن الصباح له حديث طويل مع نظام الملك وعمر الخيام لا محل له هنا، فأنشأ حسن هذا جمعية من الفدائيين وأقام في جبل (ألاموت) قرب قزوين منذ أكثر من مائة سنة. وكان يغري رجاله بالفتك بمن شاء من كبار الرجال، ومن جملة الذين قتلوهم نظام الملك وزير السلاجقة وكثيرون من القواد والملوك. كانوا يقتلون ولا
...more
وكان الهكاري جالساً بجانب قراقوش، وحدثته نفسه أن يتكلم ويقوي عزم صلاح الدين على مقاومة نور الدين فالتفت إلى قراقوش كأنه يستشيره في الأمر، وهمّ قراقوش بأن يوافقه على ذلك، فإذا بتقي الدين ابن أخي صلاح الدين قد غلبت عليه حمية الشباب فوقف وقال: «إذا كان عمي السلطان قد جمعنا ليشارونا في أمر نور الدين، فهو يعلم أننا نتفانى في نصرته. فإذا جاء نور الدين إلى مصر منعناه بحد السيف». فبان البشر في وجه صلاح الدين استحساناً لتلك الجرأة وابتسم فكان لابتسامه تأثير شديد في ضمائر الحضور فجعلوا يتسابقون إلى الموافقة على رأي ذلك الشاب بمثل قوله. وعلا الضجيج ونجم الدين ما زال مطرقاً والعيون محدقة به لترى ما يبدو
...more
فالتفت نجم الدين إلى الهكاري وقال: «أنت حكيم وصاحب تدبير. وقد أخبرني يوسف بما كان من تدبيرك مع الأستاذ قراقوش في سبيل مصلحته. لذلك فإني لا أخشى أن أقول رأيي أمامكما». والتفت إلى صلاح الدين وقال: «بأي عقل فعلت هذا يا يوسف؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا في مقدمة أعدائه، وحينئذ لا تقوى عليه. وأما إذا بلغه قولي وأننا في طاعته تركنا واشتغل بغيرنا ريثما تعمل الأقدار عملها». ثم وجه كلامه إلى الهكاري وقراقوش وقال: «والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر بمصر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل». قال ذلك وعيناه تتلألآن.
قال: «يا سيدتي إن مولاي صلاح الدين سيعمل لما لا يمس كرامة أحد. فمن كانت من الجواري ذات بعل أطلقها مع بعلها، ومن كانت حرة ولا بعل لها أطلق سراحها. وأما الجواري غير الحرائر فيهبهن لبعض رجاله. أما أهل الخليفة فإنهم سيقيمون نساءً ورجالاً في غاية الإكرام والحفاوة تحت عنايته ويفرق فيهم الأعطية والألبسة والأقوات بحيث لا ينقصهم شيء كأنهم في قصورهم في حياة الخليفة رحمه الله. ولاسيما سيدتي فإنها ستنال كل رعاية هي ومن معها». فقطعت كلامه قائلة: «وماذا تفعلون بولي العهد داوود ألم يبايعوه؟» فبلع ريقه وقال: «لا أظنهم يبايعون أحداً فإن السلطان نور الدين مولانا الأكبر قد أمر أن نبايع للمستضيء بالله العباسي،
...more
فتحول قراقوش وخرج فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك قالت لها: «الحمد لله أن صلاح الدين قائم بوعده. رأيتك تدققين في السؤال وتستغربين عدم المبايعة لسيدي داود.. أحمدي الله أنهم لم يستخدموا السيف في فناء من بقي من أهل الخلافة كما فعل غيرهم في مثل هذه الحال. ألم يأمر أبو العباس السفاح بقتل كل من بقي من بني أمية حتى لا يبقى واحد منهم يطالب بالخلافة؟ فلو أمر صلاح الدين مثل هذا الأمر من يقدر على رده؟ أم تظنين المغرور أبا الحسن يرده لعنة الله عليه».
وكانت مصر إلى ذلك اليوم خلافة مستقلة يدعي على منابرها لخليفتها الشيعي العاضد لدين الله. فأمر صلاح الدين أن تتحول الخطبة للمستضيء بالله الخليفة العباسي كما كان نور الدين قد طلب منه على يد أبيه نجم الدين. وكان قد اعتذر له في التأجيل خوف الفتنة والواقع أنه أجلها ليستعين بذلك على نور الدين إذا أراد أن يأخذ مصر منه بالقوة. فيأخذ هو جانب لعاضد ويتقوى به وبالمصريين على دفع عسكر الشام. فلما تأكد ضعف العاضد وتحقق اشتغال نور الدين عن مناهضته عزم على إقامة الخطبة العباسية مظهراً بها الطاعة لنور الدين. فلم يجسر أحد من العلماء أن يبدأ بذلك إلا رجل أعجمي اسمه الأمير العالم تصدى للخطبة. فلما كان يوم الجمعة
...more
أما سائر المقبوض عليهم من المتآمرين فحكم عليهم بالصلب وفي مقدمتهم عمارة اليمني المتقدم ذكره فصلبوه في ٢ رمضان سنة ٥٦٩هـ. وارتاح بال صلاح الدين من هؤلاء لكنه مازال يفكر في أبي الحسن سبب تلك الدسائس.