More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وهَبْ أنهم لا يألمون كما تألم، فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزةً مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خُلِق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمُرُ النفس بالنعم صنوفًا وألوانًا حتى يتنكَّر لها معنى النعمة، فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرِّهة ولكن لا تريد الكراهة، ومتسخِّطةً ولا ترغب في السخط، ومتألمةً ولا تعرف مِمَّ ألمُها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمةً لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.
ولقد أعرفُ رجلًا من أهل الفقر النظيف أعطى ابنته قطعةً فيها «عشرة غروش»، وأرسلها تبتغي بها رزقًا من الطعام، فأضاعتها فكأنما أضاعت عقلها، وضاقت عليها الدنيا، وخُيِّلَ إليها أن ليس على الأرض ما يسع طفلة، فلم تجد لها غِوَاثًا إلا في الموت يحول بينها وبين أبيها، فجَرَعت من «الفنيك» جرعةً سائغةً كانت فيها نفْسُها، وابتعدت عن أبيها ولكن بُعْد ما بين الدنيا والآخرة!
ولعمري ما الذي يجعل المرء جبانًا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من دنياه بالذي هو مُدبِر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟ أما إن ذلك ليس من فقر ولا غنى، ولكنه حرص على الحياة يخالط بعض الأنفس ويستمكن منها حالة بعد حالة، فإذا هو قد انقلب في آخِرة الأمر خوفًا من الموت، ثم لا يزال يحور وينمِي وهو في ذلك يخلع القلب من الإيمان الذي يربط عليه،١٣ واليقين الذي يُثبَّت به، حتى يبلغ بعد حين أن يكون خوفًا من الحياة نفسها، ومتى كان الحرص على الحياة قد صار خوفًا من الموت، ورجع الخوف من الموت مع ذلك البلاء خوفًا من الحياة؛ فهذه — أصلحك الله — حالةٌ من الجنون
...more
ولكن العالم والجاهل، والفقير والغنيَّ، والصحيح والمريض؛ كل هؤلاء يخافون الموت ويحرصون على الحياة إلا قليلًا منهم؛ فليتهم علموا أن النفس روحيةٌ، وأنها تألم لهذا الخوف ولا تقارُّ عليه؛ إذ هي لا تعرف الموت لأنها خالدة، ولكنها تعرف الألم لأنها في غير دار خلود، ومعنى ذلك أن الإنسان يخاف الموت، فيتصل هذا الخوف بالنفس فترده إلى حوادث الحياة، فتخيفه هذه الحوادث، فيذله هذا الخوف، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميِّت.
هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعورَ المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ
وهو من الحرص على الحياة يكاد يشمُّ ترابَ قبره في كل حادثة تُلمُّ به، ولا يزال يُصلَب على كل باب من أبواب الأيام حين يفتحها الصباح وحين يُغلقها الليل، ويُرمَى بالنبل المسموم من فُضُوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميرُه كل يوم قِتْلَة الكذب والغدر والإثم؛ لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟
وما ظنك بسعادة أولها حبُّ النفس وآخِرها بغضُ الناس؛
وما رأيتُ في أصناف البلاء كالمرأة السَّليطةِ إذا هي استكْلَبَتْ،
مَن لم يكن كفؤًا لما ينالُه هلك بما يناله؛
وإذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه، فربما سعى المرء بكل سبب فلم يفلح، ثم يقع له سبب لم يمتهِد له وسيلة قطُّ فإذا هو عند بُغيته، وإذا هو قد ملأ يديه مما كان قد يئس منه، فلا يكون عجبه كيف خاب في الأولى بأشدَّ من عجبه كيف نجح في الثانية!