More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
بجويدان خرد.
أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه، وتحري العدل وعمله، يكسب الإنسان من المزايا ما لا يقدر،
فإذا أردت أن تنتفع بتجربتي فالتزم الحق والصدق والعدل في جميع أعمالك مهما تكن النتيجة.
تقول الحق في أدب وتتحرى العدل والصدق في لباقة ولياقة. فمن غضب بعد ذلك كان الذنب ذنبه ولا ذنب عليك، ولا تتعجلن النتيجة فقد تمس من الحق نارًا، ويهب عليك من العدل لفحة جحيم، ولكن ذلك أشبه ما يكون بالامتحان، إن صبرت له انقلبت النار جنة واللفحة الحارة نسيمًا عليلًا.
ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة.
والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه المعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، ويملأ القلب رحمة وعطفًا وحبًّا لخير الإنسانية. يعجبني من الدين أن يكون سمحًا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، وأن الدين الصحيح لا يناقض العلم الصحيح، وأن لا بد منهما جميعًا للإنسانية، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب.
فإن قصرت مدارسك وجامعاتك في ذلك، فتول أنت تربية ذوقك بنفسك، ووجه إليه كل همتك. فما الحياة بلا ذوق، وما الدنيا بلا جمال؟
لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم.
ليس عندي نصيحة لك أغلى من أن تكوِّن ذوقك ثم تنميه وترقيه. فإن فعلت ذلك ضمنت لك سعادة الحياة والاستمتاع بها، وضمنت لك سمو أخلاقك ونبل عواطفك، وضمنت لك نجاحك على قدر كفايتك، والله يوفقك.
إني لأشفق عليك من زمنك الذي نشأت فيه، فقد كان زمن من قبلك هادئًا مستقرًّا، تجري شئونه على وتيرة واحدة … وأملنا في المستقبل أن يكون زمنًا هادئًا مستقرًّا كذلك. أما زمنك هذا فقلِق مضطرب حائر، كفر بالقديم، ثم لم يجد جديدًا يؤمن به.
وقد كان الدين في زمننا حرزًا منيعًا من التدهور والسقوط، فلما ضعف شأن الدين في زمنكم ولم يحل محله ما يحفظ عليكم نفوسكم وقعتم بين شرين: قوة المغريات وضعف الحصون المانعات. ولا منجاة من هذا إلا بتقوية الإرادة وتدريبها على فعل الخير، ومقاومة بواعث الشر، ومكافحة الشهوات ومحاربة الأنانية.
إن الانهماك في اللذائذ كنار القش تلتهب سريعًا
وتنطفئ سريعًا،
لعل أهم ما يتميز به جيلكم عن جيلنا هو حيرتكم واطمئناننا، واضطرابكم وسكينتنا، وقلقكم واستقرارنا، ولكن ما سر هذه الحيرة وهذا القلق والاضطراب في جيلكم؟
لعل أهم ما حيركم وطمأننا، أننا كنا نركن إلى مبادئ وعقائد نؤمن بها كل الإيمان، ونسير عليها في حياتنا من غير شك، ونشجع السير عليها كل التشجيع، ونحتقر من خرج عليها كل التحقير … فكانت أعمالنا تصدر عنا كما يصدر العمل عن عادة، ليس يحتاج الإتيان به إلى إلى روية ولا تفكير. ثم أتى جيلكم — خضوعًا للمدنية الحديثة — فطوح بهذه المبادئ والعقائد والعادات والتقاليد، ولم ينشئ مكانها ما يسد مسدها … فكان من ذلك فراغ لم يملأ، ومبادئ زالت ولم تعوَّض، وعقائد تهدمت ولم يبن مكانها؛ والطبيعة تكره الفراغ، وتكره السير على غير
هدى، وتكره الهدم من غير بنيان، فكانت الحيرة والقلق والاضطراب.
والأنس بالدين طبيعة النفس وراحة الروح، فإذا سلبت من تأنس به أحست بالوحشة وتململت من الفراق. إن الناس يعدون الحواس خمسًا، ولكني أعتقد أن هناك في كل إنسان حاسة سادسة هي حاسة الدين … من فقدها فقد عنصرًا هامًّا من عناصره، وركنًا عظيمًا من أركان حياته؛ ولذلك هدأ المؤمن واضطرب الملحد، وهذا هو الشأن في الشرق والغرب، والمدنية القديمة والمدنية الحديثة.
إن الإيمان بالله يملأ فراغ النفس، ويحوي بالطمأنينة، ويوثق الصلة بين الفرد وأهله ووطنه، كما يوثق الصلة بينهم جميعًا وبين الله. فنصيحتي لك أن تؤمن ولو ألحد الناس، وتوثِّق الصلة بينك وبين الله ولو قطعها الناس.
أي بني! إن كان لي نصيحة تذهب بحيرتك وحيرة جيلك وتعيد الطمأنينة لنفسك ولأمثالك … فالإيمان تملأون به قلوبكم ويملأ فراغكم ويتفق مع طبيعتكم، وأن تعيشوا لأنفسكم وللناس ولخيركم وخير الناس. فهذا هو الذي يساير ما طبعتم عليه، وإلا انتقمت الطبيعة منكم بمخالفتكم لقوانينها فسلطت عليكم السأم والملل والحيرة والقلق.
لست أريدك أن تكون راهبًا، فمتى خلقت إنسانًا لا ملكًا فلتكن إنسانًا له ملذاته وشهواته في حدود عقله ومنفعته ومنفعة أمته. والقرآن يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ أريدك أن تفهم معنى اللذة في حدودها الواسعة لا الضيقة
إنك خلقت إنسانًا ذا جسم وعقل وروح، وقد ربيت فنما جسمك،
وثُقِّفت فنما عقلك، وأرجو أن يكون قد صادفك في بيئتك ما نَمَّى روحك، ولكل من هذه العناصر الثلاثة غذاؤه، ولكل لذته
فالمدنية الحقة إنما تقاس بإسعاد الناس لا بكثرة الاختراع ولا بكثرة التجارب. نعم إن المدنية الغربية أكثر اختراعًا وأكثر تجارب، ولكنها ليست أكثر إسعادًا للناس، فكثرة حروبها وكثرة تكاليف الحياة عندها وكثرة مطالبها، جعلتها أشق على الحياة وأفقدتها قيمتها في السعادة.
أليس عجيبًا أن تسمع من زملائك أنهم يريدون قتل الوقت بلعب الورق، أو قتل الوقت بالحديث التافه، أو قتل الوقت بالكلام في أعراض الناس أو نحو ذلك …؟ كأن الوقت عدو يقاتل، مع أنه المادة الخامة للحياة، وهو أجدر بأن يصادق لا أن يقاتل، ولكن كم يجني الإنسان على نفسه بمعاداة أحق شيء بالصداقة!
لقد قرأتُ مرة قولًا للطفي باشا السيد: «دعوا الشباب ينعم بحريته، دعوه يجرِّب فتفيده تجاربه، ويخطئ فيعرف أسباب خطئه، أما النصح والإرشاد فهو كثير في الكتب السماوية.»
إن هذا الضعف في الشخصية، والهرب من تحمل المسئولية، نجده في الطالب الذي يقوم والداه بجميع أعبائه، ويحرمانه من كل تجربة. ونجده في الطالب الذي يقوم أساتذته بتحضير محاضراته وإملائها لها، ويحرمونه من البحث والدراسة، فيصبح هَمُّ الجميع أن ينال الطالب شهادته، ويصبح موظفًا في الحكومة، ولا يهم مطلقًا ما يصاب به من ضعف في الشخصية، وانحلال في الخلق، وغيرهما من الأخلاق التي تنتقل مع الشباب من المدارس والجامعات إلى دور أعمالهم، فيفقدون كل ثقة بأنفسهم، ويهربون من كل مسئولية تلقى على عاتقهم، في الوقت الذي يتعلم فيه الشاب الأوروبي والأمريكي كيف يعتمد على نفسه في البحث والدراسة، وفي مواجهة الحياة العملية
...more
إن إخراج الأطفال إلى العالم أمر خطير، يتطلب قوة على تحمل المسئولية، وبعدًا عن الأنانية، وعلمًا بقواعد التربية الصحيحة، وخلقًا متينًا، وتضحية عظيمة.
فالإنسان هو العادة، والعادة تكوِّن المخ تكوينًا خاصًّا، ولو أن خبرتنا بالمخ كافية لاستطعنا إذا نحن نظرنا إلى مخ إنسان لم نره من قبل أن نخبره بواسطة
وقوة العادة هي التي تجعل المسنِّين كأبيك يرفضون الآراء الجديدة برغم ما عند بعضهم من المرونة، وتجعل الشبان أمثالك يسرعون في اعتناقها؛ ولذلك قل أن تجد عندنا شيوعيًّا شيخًا؛ لأن الشيوخ ألفوا من صغرهم آراء معينة اعتادوها، وأما أمثالك من الشبان فلم يألفوا نوعًا خاصًّا من الآراء، فكانوا لذلك على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحته، ومن أجل هذا قامت النصرانية والإسلام على أكتاف الشبان، أمثال فتية أهل الكهف، وأمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأمثالهما، لأنه لهم من المرونة ما يجعلهم يقبلون الدعوة الجديدة، بينما كان أمثال دريد بن الصمة الشيخ، والأعشى الشيخ أيضًا وأمثالهما لا يألفون الإسلام لأنهم
...more
اجتهدي في أن تملئي فراغك بالقراءة النافعة من قصص ممتع وتاريخ مفيد، وإن استطعتِ أن تستمعي لبعض محاضرات في إحدى الجامعات فافعلي، فلا خير في حياة جافة فارغة ليس فيها غذاء للعقل.
ولا تحتقر شيئًا تقع عليه عينك، فقد تستفيد الكثير من الأمر الصغير.
وتقول كما قول رسول الله ﷺ في صهيب: نِعْمَ العبدُ صهيب، لو لم يَخَفْ الله لم يعصه.
وقد أعجبني ما ذكرت من أنهم في الجامعة يعلمونك العلم ويعلمونك بجانبه الصبر، فالصبر حقيقةً هو مفتاح العلم، فلا تمل منه ولا تستكبر أيَّ صبر يوصلُ إلى أية حقيقة.
عود نفسكَ النظام في العمل، والدقةَ فيه، وحسنَ الترتيب، ولأقصَّ عليك شيئًا من تجاربي في هذا الباب.
ثم لا تكن مغرورًا تعتقد أنك على حق مطلق، وأن غيرك إن خالفك على باطل مطلق، بل وسِّع صدرك فاجعل حقك يحتملُ الخطأ وباطلَ غيرك يحتمل الصواب، وقلما يعرف أحدٌ الحق كلَّ الحق وَيقع أخوه في الباطل كلِّ الباطل، فحقُكَ مشوب بباطل كثير، وباطلُ غيرك مشوب بحق
فاتقِ شر ما عمل، وأعط كل عقلك وانتباهك إلى العمل الذي تعمله، وكن جادًّا كل الجد في أوقات الجد، ولا بأس أن تكون هازلًا بعد في أوقات الهزل.

