More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة.
Ahmed Oraby and 1 other person liked this
وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسير على منهجها. هؤلاء قد فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل — فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علمًا وليدرسوا خلقًا — يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، وهو دراسة الحياة الاجتماعية في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبين مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومن الرحلات التي تنظمها الهيئات، ومن الحفلات التي تقام في المناسبات، ومما تقع عليه العين المفتوحة والقلب
...more
كل هؤلاء — يا بني — قد رأيت نماذج منهم، ولا أحب أن تكون أحدهم، إنما أحب — إذا عدت وقد اكتسبت علمًا ونفسًا وقلبًا — أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، ونقائصهم فتشفق عليهم، وتجتهد — ما أمكنك — في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، فحاول الإصلاح في بيئتك الخاصة … وفي طلبتك الذين تعلمهم والأساتذة الذين تخالطهم والبيت الذي تنشئه والصديق الذي تجالسه، وفي هذا القدر كفاية للرجل الطيب المحدود الإرادة. فإذا اتسعت إرادتك وقويت عزيمتك وشغلت بعد منصبًا رئيسيًّا استطعت أن تنشر نفوذك وتعمم إصلاحك.
أي بني! إني لأرثي لحال كثير من شبان اليوم، لا يعرفون الجمال إلا في وجه فتاة، ولا يعرفون الذوق إلا في أناقة الحديث معها، والتظرف إليها، مع أن في الدنيا جمالًا يفوق هذا بمراحل، وللذوق مجالًا يجد فيه من المتعة ما يقصر عنه الوصف؛ ولكنهم عدموا الذوق وتربيته فلم يلقفوا معانيه ونواحيه ومداه إلا في حدود ضيقة.
فعلى هذا الأساس نظم ذوقك: استشعر الجمال في مأكلك وملبسك ومسكنك، وصادق الزهور وتعشقها، ثم انشد الجمال في مجالي الطبيعة ومد بين قلبك ومناظر البساتين والحدائق — والسماء ونجومها، والشمس ومطلعها ومغيبها، والبحار وأمواجها، والجبال وجلالها — خيوطًا حريرية دقيقة تتموج بموجاتها، وتهتز بهزاتها، ثم انظر إلى الأخلاق على أن فضائلها جمال، ورذائلها قبح، لا على أن فضائلها منفعة ورذائلها متلفة، ثم غن للجمال واهتف به حيثما كان، واعبده وافن فيه، وأنا واثق أن ستسعد بذلك سعادة لا يتذوقها ذوو الشهوات، ولا أصحاب رءوس الأموال، بل ولا الفلاسفة والعلماء. بل إني أجزم لو وجدت طائفة كبيرة من أمثال هؤلاء الذين رقى ذوقهم
...more
أي بني! لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم.
للسعادة، فكثير ممن يأكلون الأكل الفاخر، ويلبسون اللباس الأنيق، ويسكنون القصور الفخمة، هم مع ذلك أشقياء … فسعادتهم إنما هي في نظر غيرهم لا في نظر أنفسهم، ولو كانت هذه اللذة هي السعادة لكان هؤلاء أسعد الناس دائمًا.
أي بني! لا تظن أنك تستطيع أن تكون مهندسًا عظيمًا بقراءتك في الهندسة وحدها، ولا أن يكون زميلك طبيبًا عظيمًا بقراءته في الطب وحده … فالعقل وحدة، وثقافته في أي موضوع آخر يفيده في الموضوع الذي تخصص فيه. فكم أتت فكرة هندسية عظيمة من قراءة كتاب في الأدب، أو في الاجتماع! وكم أتت فكرة طبية سامية من ثقافة اجتماعية أو فلسفية. ويخيل إليَّ أن كثيرًا من الأطباء ينقصهم المنطق مثلًا، فلو تعلموا شيئًا من المنطق لاستطاعوا أن يحددوا بالضبط نوع المرض ونوع العلاج، وخاصةً في الأمراض التي تتشابه أعراضها، وتتقارب أوصافها؛ فالمنطق وحده هو الذي يستطيع أن يقول — بناء على هذه الأعراض المتشابهة — إن هذا المرض كذا دون
...more
أي بني! مفتاح هذه المشكلة أن تجتهد أول أمرك أن تكون لك هواية في فرع من فروع الثقافة العامة، كنوع من دراسة التاريخ، أو نوع من الأدب، أو نوع من الدراسة النفسية أو الاجتماعية بجانب دراستك الخاصة … تبدأ فيه على مهل، وتحبب نفسك فيه رويدًا رويدًا، كما يفعل من يريد أن يمرن نفسه على هواية الزهور أو جمع أوراق البريد أو الرسم أو نحو ذلك، فإذا صبرت على هذا قليلًا قليلًا، وجدت أن لذتك تنمو شيئًا فشيئًا، ولا تزال كذلك حتى تصبح هذه الهواية «كيفًا» لا تصبر عنه ولا تستطيع العيش بدونه، ولكنه «كيف» راقٍ سامٍ نبيل نافع. فإذا وصلت إلى هذه الدرجة استسخفت من يضيعون أوقات فراغهم في الحديث التافه واللعب السخيف
...more
ليترك الآباء أبناءهم يجربون ويخطئون، فهذا مما يقوِّي شخصيتهم، ويزيدهم ثقة بأنفسهم، ويجعلهم جديرين بتحمل المسئولية الملقاة على أعناقهم. إن هذا الضعف في الشخصية، والهرب من تحمل المسئولية، نجده في الطالب الذي يقوم والداه بجميع أعبائه، ويحرمانه من كل تجربة. ونجده في الطالب الذي يقوم أساتذته بتحضير محاضراته وإملائها لها، ويحرمونه من البحث والدراسة، فيصبح هَمُّ الجميع أن ينال الطالب شهادته، ويصبح موظفًا في الحكومة، ولا يهم مطلقًا ما يصاب به من ضعف في الشخصية، وانحلال في الخلق، وغيرهما من الأخلاق التي تنتقل مع الشباب من المدارس والجامعات إلى دور أعمالهم، فيفقدون كل ثقة بأنفسهم، ويهربون من كل مسئولية
...more
وقد رأيت في إنجلترا أن القوم يعلمون أبناءهم الاستقلال، بتركهم أبناءهم يعتمدون على أنفسهم في نفقات الجامعات وفي الحياة، فيكونون بذلك مستقلين في أعمالهم، معتمدين على أنفسهم، يربُّون أنفسهم بأنفسهم، فمنهم موزعو الألبان، وموزعو البريد، وكنَّاسو المدرسة، وما إلى ذلك، فيشبُّون رجالًا يعتمد عليهم لا أطفالًا يقادون كما يقاد البعير!
أي بني! يجب أن تكون لك ميزانية كميزانية الدولة المنظمة تعرف مقدار دخلك وخرجك، ولا تصرف قرشًا أكثر من دخلك. بل لا يصح أن تصرف كل دخلك، فالليالي من الزمان حبالى، لا تدري، ماذا يحدث، وكم من المال تحتاج، وقاك الله شر السوء.
أي بني! احرص على أن يكون لك مثل أعلى تنشده، وترمي إليه في حياتك، وليكن هذا المثل الأعلى مشتقًّا من شخصية عظيمة مصلحة تتفق ونفسك ومزاجك، فإني أعرف فيك الجد، والإفراط في عزة النفس، وقلة المجاملة، فليكن مثلك مناسبًا لهذا كله، إن تحديدك للمثل الأعلى يحدد سيرك، ويعيِّن ما يقرب منها وما يبعد، فأنت إذا قصدت إلى الهرم أمكنك أن تعرف منه الطريق المقرب والطريق المبعد، أما إذا أنت سرت سبهللًا ولم تحدد لك غاية، تخبطت في السير ولم تعرف ما يحسن وما لا يحسن.

