More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
October 17, 2021 - September 17, 2022
فسررت بهذه الدعوة كثيرًا، وطَمِعْتُ أن تُفْتَحَ لها أبواب السماء، وعجبت أن يهتدي شيخ عامِّي إلى معرفة حقيقة لا يعرفها إلا القليل من الخاصة، وهي أنَّ للسعادة النفسية شأنًا غير شأن السعادة المالية، فقلت له: «يا شيخ، وهل توجد سعادة غير سعادة المال؟» فابتسم ابتسامةً هادئة مؤثرة وقال: «لو كانت السعادة سعادة المال لكنت أنا أشقى الناس؛ لأنني أفقر الناس!» قلت: «هل تَعُدُّ نفسك سعيدًا؟» قال: «نعم، لأنني قانعٌ برزقي، مغتبطٌ بعيشي، لا أحزن على فائتٍ من العيش، ولا تذهب نفسي حسرةً وراء مطمع من المطامع، فمن أيِّ باب يخلُص الشقاء إلى قلبي؟» قلت: «أيها الرجل، أين يُذْهَبُ بك وما أرى إلا أنك شيخٌ قد اختُلِس
...more
«ما العالم إلا بحرٌ زاخرٌ، وما الناس إلا أسماكه المائجة فيه، وما رَيْبُ المنون إلا صيادٌ يحمل شبكته كل يوم ويلقيها في ذلك البحر فتمسك ما تمسك، وتترك ما تترك، وما ينجو من شبكته اليوم لا ينجو منها غدًا، فكيف أغتبط بما لا أملك؟ أو أعتمد على غير معتمَد؟ إذن أنا أضَلُّ الناس عقلًا وأضعفهم إيمانًا.»
والصبر كما يعلم إخواننا الصابرون حُجَّةُ العاجز، وحيلة الضعيف،
إنه ما خَيَّبَ رجاءَك في هذا الكمال الموهوم إلَّا لِتَطْلُبَ لنفسك كمالًا معلومًا، وما صَرَفَ عنك هذه الشهادة المكتوبة في صفحات الأوراق إلَّا لِتَسْعَى وراء الشهادة المكتوبة في صفحات القلوب.
ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده، وكان نجيبًا: «أيَّ غايةٍ تطلب في حياتك يا بُنَيَّ؟ وأيَّ رجلٍ من عظماء الرجال تحب أن تكون؟» فأجابه: «أحب أن أكون مثلك.» فقال: «ويحك يا بنيَّ، لقد صغرت نفسك، وسَقَطَتْ هِمَّتُكَ، فلتبكِ على عقلك البواكي! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنيَّ في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجِدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلمُ من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرُّك — وقد طلبتَ منزلتي — أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عليٍّ؟»
جناحان عظيمان يطيرُ بهما المُتَعَلِّمُ إلى سماء المجد والشرف: علوِّ الهمة، والفهم في العلم. أما علو الهمة فقد عرفته، وأما الفهم في العلم فإليك الكلمة الآتية: العلم عِلْمَانِ: علمٌ محفوظٌ، وعلمٌ مفهومٌ؛ أمَّا العلم المحفوظ فيستوي صاحبه فيه مع الكتاب المرقوم، ولا فرق بين أن تسمع من الحافظ كلمةً، أو تقرأ في الكتاب صفحةً، فإن أَشْكَلَ عليك شيء مِمَّا تسمع فانظرْ إنْ نطق الكتاب بشرح مشكلاته، نطق الحافظ بتفسير كلماته. الحافظ يحفظ ما يسمع؛ لأنه قوي الذاكرة، وقوة الذاكرة قَدْرٌ مشترك بين الذكيِّ والغبيِّ، والنابه والأبله؛ لأن الحافظة مَلَكَةٌ مستقلة بنفسها عن بقية الملكات. وإنك لَتَرَى الشيخَ الفانيَ
...more
إنك لَتَرَى الرجل يتلألأ جبينه تلألؤ الكوكبِ في جنح ليل مبرد، ويفترُّ ثغرُه عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار، فتحسده على نعمته وسعادته، وتتمنَّى أنْ لو منحك الله ما منحه من هناءٍ ورغدٍ، وإنَّ بين جنبيه — لو تعلم — همًّا يعتلج، وقلبًا يَدِبُّ فيه اليأس دبيبَ الآجال في الأعمار، وكبدًا مقروحة لو عرضها في سوق الهموم والأحزان ما وجد من يبتاعها منه بأبخس الأثمان.
بقدميه، فأجابه الشيخ: «ليس هناك ضاربٌ ولا مضروبٌ، وإنما هي

