More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وكان هو إذ ذاك قريبًا من الأربعين فشغف بي، ومال إليَّ ميلًا شريفًا كما يقول الناس، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخم بين خُدَّامِهِ الكثيرين، فألبسني الحرير وزَيَّنَ رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة، وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة إليَّ بإعجاب واستحسان،
أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تُصيِّرَنِي السماءُ قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنتُ أشبعُ جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي، أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس، نعم كنتُ زانيةً ومجرمةً عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة، وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد ويقيسون الروح بمقاييس المادة.»
«انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التَّصَنُّعِ، انظر وتأمل جيدًا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة، هي قبورٌ مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب، هي قصور تتشامخ جدرانها تيهًا وافتخارًا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت
...more
هل جَنَتْ عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟ فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ ومن هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟»
أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر، على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي، في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته ومن طبيعته ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها … أما البشر فمحرومون من هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسَنُّوا لأجسادهم ونفوسهم قانونًا واحدًا قاسيًا، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنًا ضيقًا مخيفًا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرًا عميقًا مظلمًا، فإذا ما قام واحد من بينهم، وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا
...more
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المرآة أمام الأشباح السائرة مفكرًا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر، متأملًا بما يحسبه الناس عدلًا، متعمقًا بأسرار الحياة باحثًا عن معنى الكيان، حتى إذا ما تضعضعت أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلًا لذاتي: الأعشاب تمتص عناصر التراب، والخروف يلتهم الأعشاب، والذئب يفترس الخروف، ووحيد القرن يقتل الذئب، والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يُفني الأسد. فهل توجد قوة تتغلب على الموت، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلًا سرمديًّا؟! … أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة إلى نتائج جميلة؟! أتوجد قوة تقبض بكفِّها على جميع عناصر الحياة، وتضمها إلى ذاتها
...more
رجل فتك برجل آخر، فقال الناس: هذا قاتل ظالم، وعندما فتك به الأمير قال الناس: هذا أمير عادل. ورجل حاول أن يسلب الدير، فقال الناس: هذا لص شرير، وعندما سلبه الأمير حياته، قالوا: هذا أمير فاضل. وامرأة خانت بعلها، فقال الناس: هي زانية عاهرة، ولكن عندما سيَّرها الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد، قالوا: هذا أمير شريف. سفك الدماء محرمٌ، ولكن من حلَّله للأمير؟ سَلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟ خيانة النساء قبيحة، ولكن من صيَّر رجم الأجساد جميلًا؟ أنقابل الشرَّ بِشَرٍّ أعظم ونقول هذه هي الشريعة، ونقاتل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس، ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هو
...more
وقفت ساكتًا ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلى الآلهة منهم إلى كواسر الغاب.
أما الشاب فكان يسمع وفي داخل نفسه يتصارع الحب والشرف، ذلك الحب الذي يجعل الوعر سهلًا، والظلام نورًا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها. ذلك الحب الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ.
وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيرني له زوجة، أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب، أنت رمز هذه البلاد المستسلمة لغباوتها استسلام الأعمى إلى قائده الأعمى، أنت ممثل الرجولة الكاذبة التي تقطع الأعناق والمعاصم توصلًا إلى العقود والأساور،
«يد بشرية دفعتني إلى الهوان ويد بشرية خلصتني فما أشد قساوة الإنسان وما أكثر رأفته!»
لأن المتاعب التي نجدها بين الناس هي أجلُّ وأجمل من الراحة التي نستسلم إليها في هذا المكان، والرأفة التي نلامس بها قلب القريب هي أسمى من الفضيلة المختبئة في قراني الدير، وكلمة التعزية التي نقولها على مسامع الضعيف والمجرم والساقطة هي أشرف من الصلاة الطويلة التي نرددها في الهيكل.»
فالخبز الذي يشبع اثنين يكفي ثلاثة، والنار في هذا الموقد تظل متقدة بعد ذهابك مثلما كانت قبله، نحن فقراء يا أخي ولكننا نحيا أمام وجه الشمس مثل جميع الناس
في هذه القرية زهرة نابتة بين الأشواك يستميل جمالها نفسي ويملأ عطرها كبدي فهل أترك هذه الزهرة وأذهب مبشرًا بالمبادئ التي أبعدتني عن الدير أم أبقى بجانبها وأحفر لأفكاري وأحلامي قبرًا بين الأشواك المحيطة بها، ماذا أفعل يا مريم؟»
منذ ابتداء الدهر إلى أيامنا هذه والفئة المتمسكة بالشرف الموروث تتحالف وتتفق مع الكهان ورؤساء الأديان على الشعب، هي علة مزمنة قابضة بأظافرها على عنق الجامعة البشرية ولن تزول إلا بزوال الغباوة من هذا العالم عندما يصير عقل كل رجل ملكًا ويصبح قلب كل امرأة كاهنًا.
«إن الشعوب الجاهلة تقبض على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى قساوة العتاة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان تضطهد محبيها ومخلصيها، ولكن أيترك الابن الصالح والدته إذا كانت مريضة، وينكر الأخ الرؤوف أخاه إذا كان تعسًا!
فاسمعوا احتجاجي ولا تكونوا مشفقين بل كونوا عادلين لأن الشفقة تجوز على المجرمين الضعفاء، أما العدل فهو كل ما يطلبه الأبرياء،
قد عرفتم بأن رسل المسيح قد ماتوا قتلًا ورجمًا لكي يُحيوا فيكم الروح المقدسة فهل تعرفون بأن الرهبان والكهان يقتلون أرواحَكم لكي يَحْيَوْا متمتعين بخيراتكم متلذذين بحرتقة قيودكم، ماذا يغركم أيها المساكين في وجود مفعم بالذل والهوان ويبقيكم راكعين أمام صنم مخيف أقامه الكذب والرياء على قبور آبائكم؟ وأي كنز ثمين تحافظون عليه بخضوعكم لتبقوه إرثًا لأبنائكم؟
من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.»