More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
حوّاء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى كرامة فأدخلتْني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي،
فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر فادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامُكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى، وقفوا متهيِّبين بجانب قبر سلمى وحيُّوا عني التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدة قائلين في نفوسكم: ههنا دُفنت آمال ذلك الفتى الذي نفتْه صروف الدهر إلى ما وراء البحار، وههنا توارت أمانيه، وانزوت أفراحه، وغارت دموعه، واضْمحلَّت ابتساماته، وبين هذه المدافن الخرساء تنمو كآبته مع أشجار السَّرْو والصّفصاف، وفوق هذا القبر ترفرف روحه كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مردِّدة مع أشباح الوحشة ندبات الحزن والأسى، نائحة مع الغصون على صبيّة كانت
...more
والصبي الحساس الذي يشعر كثيرًا ويعرف قليلًا هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس؛ لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفيفة تحلق به في السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار، وتتركه ضائعًا خائفًا في ظلمة حالكة.
للكآبة أيدٍ حريرية الملامس قوية الأعصاب، تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة، كما أنها أليفة كل حركة روحية.
فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الميول، كانت الحياة أمامه كحبس ضيِّق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
ولا عن افتقاري إلى الرفاق لأنني كنت أجدهم أينما ذهبتُ، بل هي من أعراض علة طبيعية في النفس كانت تحبّب إليّ الوحدة والانفراد، وتُميت في روحي الميول إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفي أجنحة الصبا، وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان، ولكنه لا يجد ممرًّا يسير فيه جدولًا مترنمًا إلى البحر.
والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحّض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام؛ تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
وهو واحد من القليلين الذين يجيئون هذا العالم ويغادرونه قبل أن يلامسوا بالأذى نفس مخلوق، ولكن هؤلاء الرجال يكونون غالبًا تعساءَ مظلومين؛ لأنهم يجهلون سبل الاحتيال التي تنقذهم من مكر الناس وخبثهم
وعالم الحقيقة مِرْآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها ترفع النفس إلى مقام سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها.
نظرت إليّ نظرة غريب ضائع وجد رفيقًا يعرفه.
وأجلس قبالتها في تلك الحديقة متأملًا محاسنها، معجبًا بمواهبها، مصغيًا لسكينة كآبتها، شاعرًا بوجود أيدٍ خفية تجتذبني إليها.
بأية لغة نقدر أن نتكلم عن ملامح تعلن في كل دقيقة سرًّا من أسرار النفس، وتذكِّر الناظرين إليها بعالم روحي بعيد عن هذا العالم؟!
فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا.
فاستأنست بالسكوت؛ لأن الشعور العميق غير المتناهي يفقد شيئًا من خاصته المعنوية عندما يتجسَّم بالألفاظ المحدودة،
ثلاثة من الضعفاء الأبرياء يشعرون كثيرًا ويعرفون قليلًا،
ومرت دقائق، وكلانا صامت حائر مفكر يترقب الآخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابّة؟ هل هي الأصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والألسنة التي تقرب بين القلوب والعقول؟ أفلا يوجد شيء أسمى مما تلده الأفواه وأطهر مما تهتز به أوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تحمل شعاع النفس إلى النفس، وتنقل همس القلب إلى القلب؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود مقتربين من الملأ الأعلى، شاعرين بأن أجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
فِكر واحد يجيئك في سكينة الليل يسير بك إلى المجد أو إلى الجنون.
قد عرفت الآن بأنه يوجد شيء أعلى من السماء، وأعمق من البحر، وأقوى من الحياة والموت والزمن. وقد عرفت الآن ما لم أكن أعرفه بالأمس ولا أحلم به.
ما أجهل الناس الذين يتوهَّمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي، وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
عاطفة قوية مخيفة لذيذة
ولو تخيرت في تلك الدقيقة لما فضلت تيجان الملوك وأكاليل الغار على تلك اليد الحريرية المتلاعبة بشعري.
الغيبوبة اللذيذة،
خرجت من ذلك المكان خروج آدم من الفردوس، ولكن حواء هذا القلب لم تكن بجانبي لتجعل العالم كله فردوسًا.
كذا تُحيي الشمس الحقول بحرارتها، وبحرارتها تُميتها.
ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطانًا مخيفًا يعذب النفوس ويميت القلوب.
ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء،
رأيت العنق الذي كان مرفوعًا كعمود العاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادرًا على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
سأكون لك يا سلمى مثلما تريدينني أن أكون.
سيظل الحب معي يا سلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضة الله.
خائفًا من نفسي على نفسي.
أشفق يا رب وشدِّد جميع الأجنحة المتكسرة.
إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.
فالفراشة التي تظلّ مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نَفَقِهِ المظلم.
أَو يصف العليل دواءً لعليل آخر وهو أحرى بالدواء؟
فقدت أمي والدها فبقيت أنت لها، فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟
أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني أستأنس بأخيلة الذين طواهم الدهر،
الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبّآت صدرها، لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات، فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يضعونها تحت مكبرات الكره، فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام.
إن روحي لم تطلب فراقك لأنك شطرها،
الطائر المكسور الجناحين يدبّ متنقلًا بين الصخور ولكنه لا يستطيع أن يسبح محلقًا في الفضاء،
وبعد دقيقة دخلت أشعة الشمس من بين ستائر النافذة، وانسكبت على جسدين هامدين منطرحين على مضجع تخفره هيبة الأمومة وتظلِّله أجنحة الموت.