More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
هي علمتني عبادة الجمال بجمالها،
هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب،
حوّاء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى كرامة فأدخلتْني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي،
لم يبقَ لي من ذلك الحلم الجميل سوى تذكارات موجعة ترفرف كالأجنحة غير المنظورة حول رأسي،
فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر فادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامُكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى،
ههنا دُفنت آمال ذلك الفتى الذي نفتْه صروف الدهر إلى ما وراء البحار، وههنا توارت أمانيه، وانزوت أفراحه، وغارت دموعه، واضْمحلَّت ابتساماته،
فربَّ زهرة تُلقونها على ضريح منسيٍّ تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الوردة الذابلة.
فالحب قد أعتق لساني فتكلمتُ، ومزَّق أجفاني فبكيتُ، وفتح حنجرتي فتنهدتُ وشكوتُ.
يقولون إن الغباوة مهد الخلو والخلو مرقد الراحة،
للكآبة أيدٍ حريرية الملامس قوية الأعصاب، تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة، كما أنها أليفة كل حركة روحية.
والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحّض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام؛ تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
إن الشيوخ يرجعون بالفكر إلى أيام شبابهم رجوع الغريب المشتاق إلى مسقط رأسه، ويميلون إلى سرد حكايات الصبا ميل الشاعر إلى تنغيم أبلغ قصائده، فهم يعيشون بالروح في زوايا الماضي الغابر؛
ذكر المصيبة يدنيها مثلما يُقرِّب الموت الخوف من الموت.
وعالم الحقيقة مِرْآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها ترفع النفس إلى مقام سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها.
إن المرأة التي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعًا بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس.
ولكن أليس السكوت أصعب من الكلام؟
الجائع السائر في الصحراء لا يأبى أكل الخبز اليابس إذا كانت السماء لا تمطره المنَّ والسلوى.
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما، فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرِّقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا.
فدنوت منها صامتًا وجلست بقربها جلوس مجوسي متهيب أمام النار المقدسة،
ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابّة؟
إذا حجب الظلام الأشجار والرياحين عن العين، فالظلام لا يحجب الحب عن النفس.
نظرة واحدة من أطراف أجفان امرأة تجعلك أسعد الناس أو أتعسهم، كلمة واحدة تخرج من بين شفتي رجل تُصَيِّرك غنيًّا بعد الفقر أو فقيرًا بعد الغنى …
لبنان عند شعراء الغرب مكان خيالي، قد اضمحلّت حقيقته بذهاب داود وسليمان والأنبياء، مثلما انحجبت جنة عدن بسقوط آدم وحواء، هو لفظة شعرية لا اسم جبل — لفظة ترمز عن عاطفة في النفس وتستحضر إلى الفكر رسوم غابات من الأَرز يفوح منها العطر والبخور، وأبراج من النحاس والرخام تتعالى بالمجد والعظمة، وأسراب من الغزلان تتهادى بين الطلول والأودية. وأنا قد رأيت لبنان في تلك الليلة مثل فكر شعري خيالي منتصب كالحلم بين اليقظة واليقظة. كذا تتغير الأشياء أمام أعيننا بتغيُّر عواطفنا، وهكذا نتوهم الأشياء متَّشِحة بالسحر والجمال عندما لا يكون السحر والجمال إلا في نفوسنا.
ما أجهل الناس الذين يتوهَّمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي، وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
أليست هذه العاطفة التي نخافها ونرتجف لمرورها في صدورنا جزءًا من الناموس الكلي الذي يُسَيِّر القمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس وما يحيط بها حول الله؟
مثلما تلمع قطرات الندى على أطراف أوراق النرجس،
ولو تخيرت في تلك الدقيقة لما فضلت تيجان الملوك وأكاليل الغار على تلك اليد الحريرية المتلاعبة بشعري.
إن دمعة واحدة تتلمع على وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيرًا في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
كل ما يفعله الإنسان سرًّا في ظلمة الليل يظهره الإنسان علنًا في نور النهار.
إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدِّين به والمستدرّين قواه وأمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الإخوة في حياته. وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي، كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتصّ دماءها بأفواه عديدة.
أَوَ ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى؟
إن الملامح التي تُبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالًا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء.
إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلًا، ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي
يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه،
فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟
فإذا كانت المرأة قد ارْتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر؛ فلأن العقبات التي تُبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب. ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة، في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبزور الأجيال الآتية، في هذا الجبل الغريب بميوله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل.
لأن تعاسة سلمى كانت علة في داخل النفس لا يشفيها سوى الموت.
كذا تَبيد الشعوب بين اللصوص والمحتالين مثلما تفنى القطعان بين أنياب الذئاب وقواطع الجزّارين، وهكذا تستسلم الأمم إلى ذوي النفوس المعوجّة والأخلاق الفاسدة، فتتراجع إلى الوراء ثم تهبط إلى الحضيض، فيمر الدّهر ويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخّار.
ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجِّعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأُمَّة المتعذّبة بين حكامها وكهانها؟
إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلًا إذا لم يكن زيته شحيحًا؟
إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.
هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقِّين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا، فإن صُرعنا نموت كالشهداء وإن تغلَّبْنا نعشْ كالأبطال
إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة «الأم»، وأجمل مناداة هي: يا أمي، كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة
والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدرًا يسند إليه رأسه ويدًا تباركه وعينًا تحرسه …
إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة، ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن.
لأن اللسان الذي أخرسته الأوجاع لا يتكلم، والشفاه التي ختم عليها اليأس لا تتحرك،
لأن الغريق لا يخشى البلل،
أخاف عليك وأنت في ربيع العمر أن تَلسع الأفعى قدميك وتوقفك عن المسير نحو قمة الجبل، حيث ينتظرك المستقبل بأفراحه وأمجاده.
إن من لا تلسعه أفاعي الأيام وتنهشه ذئاب الليالي يظل مغرورًا بالأيام والليالي.