More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إليَّ من وراء أجفان امرأة جميلة، وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم، ومن لا يشاهد الملائكة والشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظل قلبه بعيدًا عن المعرفة ونفسه فارغة من العواطف.
للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام، ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم، فيرون الكيان مغمورًا بأشعة متلونة بألوان قوس قزح، ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزِّقها عواصف الاختبار، فيهبطون إلى عالم الحقيقة، وعالم الحقيقة مِرْآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم، كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعورًا صامتًا مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتًا أبديًّا. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ، ولكنها لا تستطيع. هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لونًا وعطرًا، هو تفاهم كلي بين الرجل
...more
كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولَّد من فكر واحد أو من حاسة واحدة في داخل الإنسان. كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكرًا خفيًّا في عاقلة رجل أو عاطفة لطيفة في صدر امرأة … الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تُعبد كالآلهة كانت فكرًا خياليًّا مرتعشًا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثَلَّت العروش وخربت الممالك كانت خاطرًا يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية كانت ميلًا شعريًّا في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه؛ فِكر واحد أقام الأهرام، وعاطفة واحدة خرّبت تروادة، وخاطر واحد
...more
إن الملامح التي تُبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالًا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء.
إن الذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن الذين لم يتخذهم الحب أتباعًا لا يسمعون الحب متكلِّمًا، فهذه الحكاية لم تُكتب لهم، فهم وإن فهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباح والأخيلة التي لا تلبس الحبر ثوبًا ولا تتخذ الورق مسكنًا.
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائمًا، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.
وقفت دموعي على ذكرى أيام امرأة ضعيفة لم تعانق الحياة حتى احتضنها الموت؟ ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجِّعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأُمَّة المتعذّبة بين حكامها وكهانها؟ أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبيّة الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواصف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلًا إذا لم يكن زيته شحيحًا؟
لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم، فإذا ما ظهر بينهم فرد خالٍ منها ظنوه ناقصًا محرومًا من الكمالات الروحية.