More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
تفرِّقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا.
لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء،
أشفق يا رب وشدِّد جميع الأجنحة المتكسرة.
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائمًا، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.
المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلًا، ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل،
إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم، ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليمّ، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.
وذهب الربيع وتلاه الصيف وجاء الخريف، ومحبتي لسلمى تتدرج من شغف فتى في صباح العمر بامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو روح أمه الساكنة في الأبدية،
لذكر شعوب خاملة ومظلومة،
ولا رفيق لي سوى أحلام تتصاعد بنفسي تارة فتبلغها الكواكب، وتنخفض بقلبي طورًا فتلحده بجوف الأرض.
عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.
خيال ابتسامة محزنة،
وما أشد ظلمة هذا الليل!
إن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة.
سامع غصات قلبه، فكانا مثل قوتين متصارعتين يفني بعضهما بعضًا في السكينة.
جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة، فلم يُجْدِني كل ذلك نفعًا، بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت، لأنني لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء، ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح، فسفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كان أحب لديّ من نشيد سليمان، ونكبة البرامكة أشد وقعًا في نفسي من عظمة العباسيين، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيرًا من رباعيات الخيام، ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج.
كذا يُضعف القنوط بصيرتنا، فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة، وهكذا يصمّ اليأس آذاننا، فلا نسمع غير طرقات قلوبنا المضطربة.
إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبّآت صدرها، لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات، فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يضعونها تحت مكبرات الكره، فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام.
ولم نخَف قط عين الرقيب ولا شعرنا بوخز الضمير؛ لأن النفس إذا تطهّرت بالنار واغتسلت بالدموع تترفع عما يدعوه الناس عيبًا وعارًا، وتتحرر من عبودية الشرائع والنواميس التي سنّتها التقاليد لعواطف القلب البشري، وتقف برأس مرفوع أمام عروش الآلهة.
وقد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة، فلم تعد تستطيع أن تحدق إلى نور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على
لأن الغريق لا يخشى البلل،
فهل نبقى خاضعين لديه محدقين بظلمة نفسه حتى يلوكنا القبر وتبتلعنا الأرض؟ هل وهبنا الله نسمة الحياة لنضعها تحت أقدام الموت؟ وأعطانا الحرية لنجعلها ظلًّا للاستعباد؟ إن من يخمد نار نفسه بيده يكون كافرًا بالسماء التي أوقدتها. ومن يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف البطل على الحق وشريك السفّاحين بقتل الأبرياء. قد أحببتك يا سلمى وأحببتِني، والحب كنز ثمين يودِعه الله النفوس الكبيرة الحساسة،
أما تلك الحياة الجديدة العلوية المكتنفة بالمحبة والراحة والطمأنينة فأنا لا أستحقّها ولا أقوى على احتمال أفراحها وملذاتها؛
الساطعة، فلا تحدثني عن السعادة لأن ذكرها يؤلمني كالتعاسة، ولا تصوّر لي الهناء لأن ظله يخيفني كالشقاء …
هذه الأحلام التي تنير صدور النساء المظلومات وتجعلهنّ يتمردن على التقاليد الباطلة ليعشن في ظل الحق والحرية لم تمرَّ في خاطري حتى جعلتني أستصغر نفسي وأستضعفها،
تضحية سعادتي بقربك لكي تبقى أنت شريفًا بعرف الناس بعيدًا عن غدرهم واضطهادهم
أما اليوم فقد جئت مثل امرأة حية تشعر بوجوب التضحية وتعرف قيمة الأوجاع،
حتى إذا ما اتضحت لي حقيقة الوداع، وما سيجيء من ألم الوحشة ومرارة الشوق، جمدت فكرتي وتراخت خيوط قلبي، وعلمت للمرة الأولى أن الإنسان وإن وُلد حرًّا يظل عبدًا لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سرًّا علويًّا هو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس،
والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان؛ لأن الأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء، فيطلبون النسل ليظلُّوا خالدين على الأرض.
إن أزاهر الأودية هي أطفال يلدها انعطاف الشمس وشغف الطبيعة، وأطفال البشر أزاهر يلدها الحب والحنو، فسلمى كرامة لم تشعر قط بأنفاس الحنو وملامس الانعطاف في ذلك المنزل الفخم القائم على شاطئ البحر في رأس بيروت،
يتصاعد من نوافذ منزل منصور بك غالب … صراخ انفصال الحياة عن الحياة … صراخ محبة البقاء في فضاء اللاشيء والعدم … صراخ قوة الإنسان المحدودة أمام سكينة القوى غير المتناهية … صراخ سلمى الضعيفة المنطرحة تحت أقدام جبارين: الموت والحياة.
فصرخت سلمى بصوت هائل، ثم سكتت هنيهة، ثم ابتسمت ابتسامة فرح ومسرة، ثم تهلل وجهها وكأنها عرفت شيئًا لم تكن تعرفه وقالت بهدوء: أعطني جثة ولدي … قربه مني ميتًا.