‫بيت الياسمين‬ (Arabic Edition)

by إبراهيم عبد المجيد

لقد تنحى جمال عبدالناصر ودخل اليهود البلد.. استمعنا بحزن إلى القصص عن الجنود المبعثرين حفاة في الشوارع ممزقي الثياب هاربين من الموت، عن الفارين من مدن القناة، والجثث التي تدفن بالليل «بعامود السواري» قادمة من المستشفيات البعيدة، بدا أن الناس كرهت بعضها فأغلقت الأبواب مع المغيب، وتسيد الظلام الأرض والفضاء.

لابد أن الحكومة أخطأت بالفعل وهي ترفع أسعار هذا العدد الكبير من السلع. لا يمكن أن يكون الخطأ عند هذه الحشود المجيَّشة. لكن لماذا لا أشعر بالغيظ مثلهم؟ لماذا لم يضايقني ارتفاع الأسعار ولست غنيا؟ هل لأني أعزب ومقطوع من شجرة؟ أم لأن الأمور تجري أمامي ولا أراها؟ بركان يتفجر حولي وجبال تقع. بالطول بالعرض.. حنجيب الحكومة الأرض. ماذا يفعل سيد برشو؟! مجلسنا الشعبي دا يبقى مين.. يبقى حرامي الفلاحين. ماذا يفعل سيد برشو؟ يا أمريكا لمي فلوسك.. بكرة الشعب العربي يدوسك. الصهيوني فوق ترابي.. والمباحث على بابي. سيد برشو لا يخاف. قولوا للنايم في عابدين.. العمال بيباتوا جعانين. وأدقق النظر في سيد برشو. خيّال رامح. أسمر وشاحب.

يا حاكمنا بالمباحث.. كل الشعب بظلمك حاسس.

هوَّ بيلبس آخر موضة واحنا نسكن عشرة في أوضة.

إحنا الطلبة مع العمال.. ضد تحالف رأس المال.

يحيا نضال الطلبة مع العمال.. يحيا نضال الطلبة مع العمال.

«عاد مدرس كان معارا إلى الشارقة. برقيته لم تصل. فتح باب شقته بالمساء ودخل بهدوء ليفاجئ زوجته وطفليه بالسعادة. فتح باب غرفة نومه فوجد زوجته تحت رجُل. نظرت إلىه ونظر إلىها. عاد بهدوء إلى الخلف. عرفت قدماه باب الشقة وهو يسير بظهره. خرج وهبط السلم بظهره أيضا. نزل إلى الشارع بظهره ومشى في الطريق بظهره وكل من يراه يوسع له في ارتباك، وطفلاه اللذان برزا من أحد الأزقة يتابعانه. ينظر إلىهما وينظران إلىه. يمد لهما يديه ويمدان أيديهما. لا يستطيع التوقف ولا يستطيع التقدم نحوهما، وكلما أمسكا بيديه أفلتتا منهما فلا يكفان عن البكاء. الإسكندرية كلها صارت تعرفه. يفسح له الناس الطرقات وتقف له إشارات المرور والسيارات.. اختفى الرجل وطفلاه وأوشكت الناس أن تنساه، لكني حَلُمت به وقد لحق بالفضاء يدور حول الأرض، وبطفليه يدوران حول القمر».

لقد تكلم حسنين عن نفسه مرة فقال إنه موظف يحتاج لدفعة هائلة ليتزوج. فشل مبكرا في التعلىم إلا أنه استطاع الحصول على الثانوية العامة بعد سن الثلاثين بنظام المنازل وانتسب إلى كلية الآداب قسم تاريخ وليس لديه الوقت الكافي لحفظ الحوادث والحروب والدسائس التي يبدو أن البشرية لم تكن تفعل غيرها، فهو يمضي عامين في العام الدراسي الواحد. وهو أيضا مصاب بربو خفيف. خفيف لكنه ربو. ضحك من هذا الوضع العجيب وقال إنه الوحيد تقريبًا في هذا البلد الذي يكافح على ثلاث جبهات: الفقر، والجهل، والمرض، واندفع بالضحك وهو يقول إنه مثل ثورة يوليو.. في ذلك الوقت طال ضحكنا. لم يبد أنه خجلان وظل وجهه مشرقا.

الفيللا الرابضة خلف السور العالي المكلل بالزهور البيضاء والصفراء بدت لي شيئًا سحريا وغامضا. نوافذها العالية الدائرية. جدرانها المستديرة وأعمدتها الرخامية وكل شيء فيها يبدو منفذا على مهل في راحة واتساع. الوجه المشرق الذي أراه بالصبح والليل يحفز خيالي وفضولي. يكاد يخلعني عن الأرض.

وسمعت صوت الموج. غاضبًا. قانعًا. متخاذلا. لا أدري. لو ألقي بنفسي على الصخور الخشنة الصلبة. سأموت. ليكن. هذا الماء الغبي لا يفعل شيئًا غير المد والجزر طوال ملايين السنين، ووحده، مع نفسه، لا يشارك أحدًا في شيء، ولا يبالي بالسفن التي صارت تدوس فوقه، ولا بالنفايات التي تُلقى فيه، ولا الأسماك التي تتناحــر تحتــه.

أنا لا أفعل ذلك وأظن أنه سبق ووصلكم خطاب شكر من رئاسة الجمهورية، كما أن الدكروري خرج أكثر من مرة مع العمال، ولو كنت أفعل ما تقوله لكان عرف شيئا. هل عرفت شيئًا من ذلك يا دكروري ـ لم يرد الدكروري ـ ونحن هذه المرة تعبنا كثيرًا حيث لم يستقبلنا أحد فوقفنا في طريق مطار القاهرة وحدنا. كانت هناك فوضى ولا أحد يعرف المشاركين الحقيقيين.

بعت البيت بعشرة آلاف جنيه. ـ وما شأني؟ ـ ألم أقل لك ستعرف بعد أيام؟ لو أمسكت رقبته بيدي سأعصرها عصرا. ـ لنفسك أيضًا؟ ـ لا. هذه المرة لتاجر في الوكالة. أظنك فهمت الآن.

الهدف ثورة يوليو المشهورة باسم حسنين. عَمَّر. اضرب..

ولماذا نذهب بعيدا. الدكتور موسى الذي يعمل معي في الصيدلية يشتم الناس والبلد طول النهار ويقول ما بال هؤلاء المرضى لا يشفون وما بال الدولة لا تقتلهم وتستريح، ويقول أيضًا إنه لن يرتاح إلا إذا سافر إلى الكويت بالذات.

«ولد طفل بذيل شيء عادي يمكن أن يحدث. بعد أسبوع عرفت الإسكندرية أن الحادثة تكررت فبدأ الناس النقاش. ما كاد أسبوع آخر يمضي حتى شاع أن امرأة ثالثة أنجبت طفلا بذيل أيضًا، وسرعان ما صار معروفا أن مستشفى الشاطبي امتلأت بالأطفال المولودين ولهم ذيول. تمنت كل حامل أن يسقط جنينها، وبعضهن متن وهن يحاولن ذلك، وقيل إن العام عام لعنة فانقطعت الزيجات، وصار القوي من الرجال لا يعاشر زوجته، والضعيف يرسلها لأهلها أو يطلقها حتى يمر العام..».

إنه مثل عشرات الشبان الذين يقفون شاردين على محطات الأوتوبيسات لا يعبأون بالشمس فوق رءوسهم، ولا يدركون أنهم لو تحركوا قليلا سيقفون تحت المظلة. تنبهت إلى هؤلاء فجأة وكثيرا ما أمسكت نفسي متلبسا بالنظر إلى المحطات أحصي الواقفين بعيدا عن المظلة.

الرئيس حي، والشعب حي، ومشاكلنا مع الدول بالكوم، ولن تنتهي الزيارات ولا الاتفاقيات.

أطفال عراة ونساء كالحات يقفون أمام الخيام وأكشاك الصفيح. رجال مشغولون بأخشاب وألواح معدنية صدئة ومتجهمون. براز. براز. براز في كل خطوة فوق الأرض. أصوات راديوهات وتلفزيونات وشبكة من الأسلاك تعنكب الفضاء. بين آخر الخيام وباب العمارة متر واحد مواز للمساكن امتلأ بالوحل والبط والدجاج اللاهي والقطط الصغيرة الميتة. أين ذهب الله الآن وكيف يتركنا؟ أهدانا جنته يوما فكيف تخلى عنا في هذا الوقت القصير؟

«يوم الأربعاء من كل أسبوع يشهد كوبري التاريخ زحاما غريبا. رجال وشباب وصبية حفاة مهترئو الثياب يتوافدون فرادى منذ الصباح الباكر ويتراصون بلا ضجة بامتداد الكوبري يولّون وجوههم ناحية الميناء وتمتد عيونهم شاخصة في الفراغ إلى الأمام. تقف الترام في محطتها خلفهم ولا أحد يترك مكانه إلا في المساء. اكتشف الناس متأخرا جدًّا أن بالميناء فرنا يتبع الشرطة يسمى «فرن الإعدام» يتم فيه حرق المخدرات المضبوطة على الحدود والسواحل وفي الأوكار. يوم الأربعاء هو اليوم المحدد للحرق، والنسيم القادم من البحر يهب على الكوبري مارًا بالفرن ويصل للواقفين طيبا ممتزجا بدخان الحشيش المحروق حاملًا الراحة والهناء بالمجان. الآن تتلكأ فوق الكوبري الترام وسائر المركبات».

وبيجين هذا هو الذي طرد الله من أرضه حول مساكن البلدية بكوم الشقافة وهو الذي ملأ الأرض بخيام الإيواء. أنا لست حمارا كما تتخيلون.. إنني أفهم وأفهم وأفهم وأعماني أمل بسيط جدًّا أن أجد امرأة أتزوجها فتزداد عزلتي وأعيش لها ولأبنائها ويزداد غبائي.

«تزوج شاب وفتاة، جاء أهل العروس في الصباح لزيارتهما فلم يفتح لهما الباب أحد فكسروه ليجدوا الشاب فوق عروسه لا يستطيع إفلات حيوانه منها ويبكيان لمكابدتهما طول الليل يحاول كل منهما التخلص من الآخر. لفّوهما في ملاءة وحملوهما ليعودا من المستشفى منفصلين يدخلان شقتهما في منتصف الليل. بعد يومين تكرر الحادث فصرخ الشاب مستنجدا بالجيران الذين حملوهما ملفوفين ليعودا منفصلين بعد منتصف الليل. صار الناس يمشون تحت الشقة العالية يشيرون إلىها ويتهامسون ويضحكون. مر شهر دون أن يحدث شيء ولم يعرف أحد أن العروسين فقدا القدرة على الاتصال لكنهما فعلاها ومزق كلاهما وجهه بأظافره ندما ورعبا واضطر الشاب للصراخ مستنجدًا بالجيران من جديد فحملوهما إلى المستشفى ليعودا منفصلين عند الفجر. في الصباح وقف الشاب وحده في البلكونة يصرخ ويلطم خديه وينظر من الدور الخامس إلى الأرض يكاد يقفز. لقد ألقت عروسه بنفسها ورأى جسدها وهو يرتطم بالأرض ويهتز مرة واحدة كأنها الخفقة».

لقد خلق الله العالم متوازنا ولا يفسده إلا بنو آدم، وأقرب مثل على ذلك هو السد العالي الذي تثار حوله ضجة كبيرة الآن. لقد تسبب السد في نحر الشواطئ، أي طغيان للبحر على البر. قديما كان الفيضان وطمي النيل ينسكبان في البحر المتوسط فيمنعان هذا الأذى. كان الطمي يخفف من قوة الموج وملوحة مياه البحر. الآن يتمتع البحر بحرية ضرب البر ولا يجد من يتصدى له. ولن تمر خمسة أعوام حتى تختفي رشيد ودمياط من الخريطة. نفس المشكلة ستحدث لوادي النيل نفسه الذي هو الأرض الزراعية التي كونها الطمي المترسب عبر ملايين السنين، وكان يأتي كل عام ليعادل الرمال القادمة مع الريح من الصحراء سواء من ناحية الغرب أو الشرق. الآن تتآكل الأراضي الزراعية على جانبي الوادي وتغزوها الرمال ولا تجد طميًا كل عام يتعادل معها، ولن تمضي مائة سنة حتى تعود مصر كلها صحراء كما كانت ويختفي وادي النيل. الطبيعة دائمًا طيبة معنا ونحن أولاد زنا.

يا أسطى زينهم انتهت الاستقبالات. البلد هائجة كما تعلم. أم أنك لا تعرف؟ معارضة وفتنة طائفية وكل يوم تصفية لحزب سري، مسلمين وشيوعيين وعملاء لليبيا وسوريا واليمن وكل الدنيا، والرئيس نازل شتيمة في الشعب صباحًا ومساء، وتطلب مني أن أرشح نفسي.

«يجلس جوار المبولة العامة بالدخيلة شحاذان. أحدهما ناظر مدرسة ابتدائية معروف كان يفتح المدرسة بالليل ويجبر المدرسين على الحضور والتدريس للمقاعد الخالية، والثاني جزار بكى الخروف بين يديه وهو يذبحه وقال له إنما هو كبش أرسله الله من السماء. منذ أيام صار الرجلان أربعة».