More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه
ومن الأمور المقررة طبيعة وتاريخيا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد،
وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشئوم: استبداد الحكومات القائد لتلك القوة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى.
«المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو الشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.» «المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما يقدم على الظلم كما يقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب.» «المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر وبالإلجاء للخير، فعلى الرعية أن تعرف ما هو الخير وما هو الشر فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفي للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلا. ومن المعلوم أن مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شرّ الاستبداد». «المستبد يود أن
...more
ولا شك في أن إعانة الظالم تبتدئ من مجرد الإقامة في أرضه.
فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: (كما تكونوا يولَ عليكم).
وأقل ما يعنون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ،
بالاستناد على التاريخ والاستقراء، على أن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين أي تشدد فيه إلا واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه.
عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا للفتنة التي تحصد أمثالهم حصدا.
وما افترقوا إلا وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة أن كلا منهم قد سكت تعبا وكلالا من المشاغبة.
والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد.
ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم. ولا يخفى على المستبد مهما كان غبيا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوي يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله.
ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ،
كما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضا لذاته لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما. ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكرا،
والقول الحق أن الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف، وكفى بذلك انتقاما منه على استعباده الناس وقد خلقهم ربهم أحرارا.
كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته.
رأت بعض الأمم الغابرة أن أضرّ شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف، فعملت هيكلا مخصصا للخوف يُعبد اتقاءً لشره.
أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم،
وذلك أنَّ المجد مفضل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفةً، وعند النجباء والأحرار حميةً؛
دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد. المستبد يجرب أحيانا في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارا منه بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكل بهم. ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله،
فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها ونعمت، وإلا قالوا عنه هذا حيوان يا ضيعة الأمل فيه.
فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرا في القوة على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبق أمامه من يتقيه.
فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه دونه لؤما وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه.
القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ من أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله.
وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى، وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف، وجعلن نوعهن مطلوبا عزيزا بإيهام العفة، وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن محمدتين في الرجال، وجعلن نوعهن يُهين ولا يهان ويظلم أو يُظلم فيعان، وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين، ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنهن أجمل منهم صورة.
وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجماد كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال ولهذا يكنى عنه بمعبود الأمم وبسر الوجود،
أن المال هو قيمة الأعمال ولا يجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع.
والشرط الثالث لجواز التمول، هو: ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير؛ لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان
ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها.
إن رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمة ولأجله تقتحم العظائم.
أن الإنسان لا يكون حرا تماما ما لم تكن له صنعة مستقل فيها، أي غير مرءوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة.
ويقال الغنى غنى القلب، والغني من قلت حاجته، والغني من استغنى عن الناس.
إن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذلّ للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء.
أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب، ولا شرفا غير معرض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالا مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها.
ويرى أن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد قلب الموضوع، فجعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا. ويرى أن الاستبداد استخدم قوة الشعب، وهي هي قوة الحكومة، على مصالحهم لا لمصالحهم فيرتضوا ويرضخوا. ويرى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين.
فالأسير إذن دون الحيوان لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه. ولهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنية مولاه. وقد يعذر الأسير على فساد أخلاقه، لأن فاقد الخيار غير مؤاخذ عقلا وشرعا.
والموظفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون مطلقا، ولا أقول غالبا، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإن نبت كان رياء كأصله،
الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأن شرفه كله مستودع فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقي حريص على الدين والرياء فيه، والغربي حريص على القوة والعز والمزيد فيهما! والخلاصة أن الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والجد!
تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس،
ويخطئ والله من يظن أن أكثر الأسراء لاسيما منهم الفقراء لا يشعرون بآلام الأسر. مستدلا بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآلام ولكنهم لا يدركون ما هو سببها ومن أين جاءتهم. فيرى أحدهم نفسه منقبضًا عن العمل، لأنه غير أمين على اختصاصه بالثمرة. وربما ظن السلب حقًّا طبيعيًّا للأقوياء فيتمنى أن لو كان منهم.
الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالبًا.
وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق. فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف!
للسعة والفقر أيضًا دخل كبير في تسهيل التربية، وأين الأسراء من السعة كما أن لانتظام المعيشة ولو مع الفقر علاقة قوية في التربية، ومعيشة الأسراء أغنياء كانوا أو معدمين، كلها خلل في خلل، وضيق في ضيق، وذلك يجعل الأسير هين النفس، وهذا أول دركات الانحطاط، ويرى ذاته لا يستحق المزيد في النعيم مطمعا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، وهذا ثاني الدركات، ويرى استعداده قاصرًا عن الترقي في العلم، وهذا ثالثها، ويرى حياته على بساطتها لا تقوى إلا بمعاونة غيره له، وهذا رابعها، وهلم جرا!
حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشرية، وبناء على هذا، كان فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره، كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين، حق له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلا عن وظيفة اجتماعية. ولولا أن ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد، حتى فلتات الطبيعة والصدف التي هي مسببات لأسباب نادرة، لحكمنا بأن معيشة الأسراء هي محض فوضى، لا شبه فوضى.
ثم إن التربية التي هي ضالّة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، التي هي المسألة الاجتماعية حيث الإنسان يكون إنسانًا بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتبة على إعداد العقل للتمييز، ثم على حسن التفهيم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال،
العاقل من يستفيد من مصيبته والكيس من يستفيد من مصيبته ومصيبة غيره، والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد، ما كان في الحياة لذة لو لم يتخللها آلام.
ثم إن الاندفاع إذا غلب فيه العقل النفس، كانت الوجهة إلى الحكمة، وإن غلبت النفس العقل، كانت الوجهة إلى الزيغ. أما الانقباض فالمعتدل منه هو السائق للعمل، والقوي منه مهلك مسكن للحركة، والاستبداد المشئوم الذي نبحث فيه هو قابض ضاغط مسكن والمبتلون به هم المساكين، نعم، أسراء الاستبداد أحق بوصف المساكين من عجزة الفقراء.
الدين والعقل ضدان متزاحمان في الرءوس، وإن أول نقطة من الترقي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين.
لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يسمى التنبت، ويصح تشبيهه بالنوم! يا رباه: إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى لأنهم لا يشعرون».
ألا أقول حقًّا إذا قلت إنكم لا تحبون الموت، بل تنفرون منه ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من الموت إلى الموت، ولو اهتديتم إلى السبيل لعلمتم أن الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، ولعرفتم أن الخوف من التعب تعب، والإقدام على التعب راحة، ولفطنتم إلى أن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح، والأسارة هي شجرة الزقوم، وسقياها أنهر من الدم الأبيض أي الدموع، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين».

