More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
January 22 - January 24, 2022
وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاطب أشراف قومها: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ. فهذه القصة تُعلم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية، وأن لا يقطعوا أمرا إلا برأيهم، وتشير إلى
...more
محمود liked this
وقد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشيا في الأسواق؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم.
نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولا من أنفسهم، أسس لهم أفضل حكومة أسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» أي كل منكم سلطان عام ومسئول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راعٍ على عائلته ومسئول عنها فقط.
العوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم
والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل.
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم كأنَّ العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة (لا إله إلا الله) ولماذا كانت أفضل الذكر ولماذا بني عليها الإسلام. بني الإسلام بل وكافة الأديان على (لا إله إلا الله)، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سوى الصانع الأعظم؛ ومعنى العبادة الخضوع، ومنها لفظة العبد، فيكون معنى لا إله إلا الله: (لا يستحق الخضوع شيء غير الله).
الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: «أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرُّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال».
المال يصح في وصفه أن يقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمع مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشهرة مال، والحاصل كل ما ينتفع به في الحياة هو مال.
أولا: أنواع العشور والزكاة وتقسيمها على أنواع المصارف العامة وأنواع المحتاجين حتى المدينين. ولا يخفى على المدقق أن جزءا من أربعين من رءوس الأموال يقارب نصف الأرباح المعتدلة باعتبار أنها خمسة بالمائة سنويا، وبهذا النظر يكون الأغنياء مضاربين للجماعة مناصفة. وهكذا يلحق فقراء الأمة بأغنيائها، ويمنع تراكم الثروات المفرطة المولدة للاستبداد المضرة بأخلاق الأفراد.
ثانيا: قُررت أحكام محكمة تمنع محذور التواكل في الارتزاق، وتلزم كل فرد من الأمة متى اشتد ساعده أو ملك قوت يومه أو النصاب على الأكثر، أن يسعى لرزقه بنفسه أو يموت جوعا، وقد لا يتأتى أن يموت الفرد جوعا إذا لم تكن حكومته مستبدة تضرب على يده وسعيه ونشاطه بمدافع استبدادها، وقد قيل: يبدأ الانقياد للعمل عند نهاية الخوف من الحكومة ونهاية الاتكال على الغير.
أما السياسيون الاشتراكيو المبادئ والأخلاقيون، فينظرون إلى أن ضرر الثروات الأفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأنها تمكن الاستبداد الداخلي فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل للأمم التي تغني بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة.
ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضا قلوبهم التي لا يملكون غيرها.
ويرى أن الاستبداد استخدم قوة الشعب، وهي هي قوة الحكومة، على مصالحهم لا لمصالحهم فيرتضوا ويرضخوا.
ويرى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين.
وقد يظن بعض الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الإدارة الحرة، فيقولون مثلا: الاستبداد يلين الطباع ويلطفها، والحق أن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة.
ويقولون الاستبداد يعلم الصغير الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبير، والحق أن هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن اختيار وإذعان.
ويقولون الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة أو دين.
ويقولون هو يقلل التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعديدها لا عدادها.
فالجسور لا يرى بدا من الاستثناء المخل للقواعد العامة كقوله: السرقة قبيحة إلا إذا كانت استردادا منها، والكذب حرام إلا للمظلوم. والموظفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون مطلقا، ولا أقول غالبا، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإن نبت كان رياء كأصله، ثم إن النصح لا يفيد شيئا إذا لم يصادف أذنا تتطلب سماعه، لأن النصيحة وإن كانت عن إخلاص فهي لا تتجاوز حكم البذر الحي: إن ألقي في أرض صالحة نبت، وإن ألقي في أرض قاحلة مات.
«إذا ساءت فعال المرء ساءت ظنونه».
أما المتأخرون من قادة العقول في الغرب، فمنهم فئة سلكوا طريقة الخروج بأممهم من حظيرة الدين وآدابه النفسية، إلى فضاء الإطلاق وتربية الطبيعة، زاعمين أن الفطرة في الإنسان أهدى به سبيلا، وحاجته إلى النظام تغنيه عن إعانة الأديان، التي هي كالمخدرات سموم تعطل الحس بالهموم، ثم تذهب بالحياة فيكون ضررها أكبر من نفعها.
ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي، وإن تكلف تقليده في أمر فلا يحسن التقليد، وإن أحسنه فلا يثبت، وإن ثبت فلا يعرف استثماره، حتى لو سقطت الثمرة في كفه تمنى لو قفزت إلى فمه!…
فالشرقي مثلا يهتم في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثم لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانية، فيعيد الكرة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. وكأولئك الباطنة في الإسلام: فتكوا بمئات أمراء على غير طائل، كأنهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية: «لا يلدغ المرء من جحر مرتين»، ولا بالحكمة القرآنية: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها.
الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله، والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبدين!
الشرقي سريع التصديق، والغربي لا ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأن شرفه كله مستودع فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله!
والخلاصة أن الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والجد!
أسراء الاستبداد حتى الأغنياء منهم كلهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطين في الإدراك، منحطين في الإحساس، منحطين في الأخلاق. وما أظلم توجيه اللوم إليهم بغير لسان الرأفة والإرشاد، وقد أبدع من شبه حالتهم بدود تحت صخرة، فما أليق باللائمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة ولو حتًّا بالأظافر ذرة بعد
الفطرة، ولا أعني بالإسلام ما يدين به أكثر المسلمين الآن، إنما أريد بالإسلام: دين القرآن، أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كل إنسان غير مقيد الفكر بتفصّح زيد أو تحكم عمرو.
«يا قوم، هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل، حتى صار كما صار بعد ورائكم أمامًا! أفلا تتبعون؟ وما هذا الانخفاض والناس في أوج الرفعة، أفلا تغارون؟ أناشدكم الله، هل طابت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا، وإذا بالدنيا غير الدنيا والناس غير الناس فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون».
متى هذا التقلب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتحة عيونكم ولكنكم نيام، لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون، وهكذا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور! لكم سمع ولسان ولكنكم صم بكم، ولكم شبيه الحس ولكنكم لا تشعرون به ما هي اللذائذ حقًا وما هي الآلام، ولكم رءوس كبيرة ولكنها مشغولة بمزعجات الأوهام والأحلام، ولكم نفوس حقها أن تكون عزيزة ولكن أنتم لا تعرفون لها قدرًا ومقامًا».
هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضًا؟ ولا تخدعون إلا أنفسكم. ترضون بأدنى المعيشة عجزًا تسمونه قناعة، وتهملون شئونكم تهاونًا تسمونه توكلا.
وطعم الموت في أمر صغير كطعم الموت في أمر عظيم
«ولا أظنكم تجهلون أن كلمة الشهادة، والصوم والصلاة، والحج والزكاة، كلها لا تغني شيئًا مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر، قيامًا بعادات وتقليدات وهوسات تضيع بها الأموال والأوقات».
أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظر غيره؟».
فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يقال عند اليأس وهو: (حسبنا الله ونعم الوكيل). ويخالفون أمر القرآن لهم بأن يعدوا ما استطاعوا من قوة، لا ما استطاعوا من صلاة وصوم.
ثم إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن السير في سبيل معروف، ويوشك أن يقع الخلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل أيضًا وينقلب إلى انتقام وفتن. ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأولى حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم. وهذا سبب عدم نجاح الإمام عليّ ومن وليه من أئمة آل البيت رضي الله عنهم،

