More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
August 8 - August 10, 2025
عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حمَّلنا ما لا طاقة لنا به، وقيَّض لنا من جميل عونه دليلًا هاديًا إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدبًا صارفًا عن معاصيه، ولا وَكَلنا إلى ضعف عزائمنا، وخَوَر قُوانا، ووهاء بِنْيَتنا، وتلدُّد آرابنا، وسوء اختيارنا، وقلَّة تمييزنا، وفساد أهوائنا؛
إِذَا حُزْتهُ فَالأَرْضُ جَمْعَاءُ وَالوَرَى هَبَاءٌ وَسُكَّانُ البِلَادِ ذُبَاب
الحب - أعزك الله - أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف،
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع،
إِذَا مَا وَجَدْنَا الشَّيْءَ عِلَّةَ نَفْسِهِ فَذَاكَ وُجُودٌ لَيْسَ يَفْنَى عَلَى الأَبَدْ
والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت،
يظن ظانٌّ ولا يتوهَّم متوهِّم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر في صدر الرسالة، أن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العُلوي، بل هو مؤكِّد له؛ فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتْها الحُجب، ولحقتْها الأغراض، وأحاطتْ بها الطبائع الأرضية الكونية، فسترت كثيرًا من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه فلا يُرجَى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت مما يُشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذٍ يتصل اتصالًا صحيحًا بلا مانع.
واعلم أن العين تنوب عن الرُّسل، ويُدرَك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها، وأصحها دلالةً، وأوعاها عملًا، وهي رائد النفس الصادق، ودليلها الهادي، ومرآتها المَجْلُوَّة التي بها تَقف على الحقائق، وتميِّز الصفات، وتفهم المحسوسات،
وأيُّ آفة أعظم من الحب؟!
فإن ظفرتْ به يداك فشُدَّهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصُنْه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا؛
ولولا أن الدنيا دار مَمَرٍّ ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره؛ لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كَدر فيه، والفَرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي. ولقد جرَّبت اللذات على تصرُّفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنوِّ من السلطان، ولا المال المُستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغَيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروُّح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل؛ ولا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء.
أني ما روِيتُ قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأً.
تَعِيشِينَ فِيهِ مِا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ سَكَنْتِ شِغَافَ القَلْبِ فِي ظُلَمِ القَبْرِ
وما شيء من دواهي الدنيا يَعدل الافتراق، ولو سالت الأرواحُ به فضلًا عن الدموع كان قليلًا. وسمع بعضُ الحكماء قائلًا يقول: الفِراق أخو الموت. فقال: بل الموت أخو الفراق.
لَئِنْ كَانَ أَظْمَانَا فَقَدْ طَالَمَا سَقَى وَإِنْ سَاءَنَا فِيهَا فَقَدْ طَالَمَا سَرَّا
فمنهم من قنع بأن السماء تُظله هو ومحبوبه والأرض تقلُّهما، ومنهم من قَنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا.