حكايات مجاور.. وسحر الزي الأزهري
ماهر عبد الرحمن
في واقعة طريفة ادعى طالب بكلية صيدلة فرع جامعة الأزهر بأسيوط، أنه سافر إلى دولة ماليزيا حيث تنعقد بها مسابقة عالمية لحفظ القرآن الكريم، وأنه قد حصل على المركز الأول في تلك المسابقة. وبالفعل على ذلك تم تكريمه من عدة أماكن مختلفة رسمية وغير رسمية، سواء في محافظته أو على مستوى أكبر هنا بالعاصمة. وكان في طريقه لمقابلة شيخ الأزهر، وقيل أيضا أن رئاسة الجمهورية كانت بصدد تكريمه. وقام هذا الطالب بعدد من المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة ومن ضمنها مقابلة مع المذيع تامر أمين. كان يحكي بالتفصيل عن سفره والحفاوة التي وجدها في ماليزيا، بداية من لافتة "مرحبا بقارئ الأزهر" وقراءته للقرآن في المسابقة أو خارجها بناء على طلب الجمهور لذلك الطالب المصري من بلد الأزهر الشريف. كان يحكي بثقة ويقين مع عتاب على الجهات الرسمية في مصر التي لم تشجعه أو حتى تودعه بالمطار. وحكى أيضا عن الاجهاد الشديد لصوته من كثرة القراءة. بل وذكر أن هناك نصائح طبية له بعدم القراءة لمدة معينة حتى تتعافى الأحبال الصوتية التي أُجهدت يا ولداه في هذه الرحلة.. وكل ما كان يحكي كان المذيع يعبر عن سعادته وانبهاره مع بعض الخجل والأسى من عدم التقدير لمثل هذا الفتى الماهر بالقرآن قبل سفره. وبالتأكيد كان هناك قطاع كبير من الجمهور لديه ذات المشاعر المختلطة بين التقدير والأسى لهذا الطالب المتفوق حافظ وحامل كتاب الله. لكن وقبل موعد اللقاء بشيخ الأزهر تم اكتشاف ادعاء وكذب هذا الطالب الذي لم يحصل لا على تأشيرة ولا سافر ولا قرا حتى جزء عم. ومن ثم تم الغاء كل ترتيبات التكريم. حكاية هذا الطالب فكرتني بحكايات كثيرة قرأتها عن طلبة الأزهر على مر السنين. دائما ما كانت هناك نظرة تقدير للطالب الذي يرتدي زي الأزهر المعروف، وتقدير أكبر لحفظة القرآن، الكرام البررة، وهو وصف جاء في القرآن للملائكة ومعناه أن خلقهم كريم طيب طاهر؛ وبالتالي فعلى حافظ القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، أسوة بهؤلاء الكرام، مازالت هذه النظرة والتقدير حاضرة بقدر في معظم قرى مصر. وقد تسبب هذه النظرة وهذا التقدير المبالغ فيه نفسهم، وتصور الناس لمواصفات غير بشرية لحافظ القرآن، خلل نفسي وعدم اتزان لهذا الطالب أو ذاك، خصوصا مع حداثة السن.
يحكي طه حسين في "الأيام" عن نفسه عندما أصبح شيخا ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة؛ شيخا لأنه حفظ القرآن "ومن حفظ القرآن فهو شيخ مها تكن سنه" وأنه أحب هذا الوصف في بداية الأمر، لكنه كان ينتظر ما هو أكثر من لقب "شيخ" من مظاهر المكافآة والتشجيع، كان يحلم الشيخ طه بالجبة والقفطان كما ينبغي لهيئة الشيوخ أن تكون. ولعل طالب أسيوط كان يحلم هو الآخر، لكن بما هو أبعد من اللقب أو الزي، بالشهرة والمجد ومزيد من نظرات التقدير والإعجاب. أيضا يحكي طه حسين عن شعوره بالظلم بسبب عدم التقدير الكافي وأنه لم يقتنع بأن ضآلة جسمه وكونه مازال مفعوصا وأصغر من أن يحمل العِمَّة وأن يدخل في القفطان رغم كونه حافظا للقرآن! هذا الشعور بالظلم وعدم التقدير كما كان ينتظره جعله يُهمل حفظ القرآن، إلى أن جاء اليوم الأسود في حياة هذا الصغير، اليوم الذي ذاق فيه الفتى "لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة" حين طلب منه أبوه أن يقرأ أمام الضيوف، من الشعراء ثم النمل، ثم القصص.. لم يكن يتجاوز فيما قرأ الفواتح: طسم، طس، طسم.. لكن طالب أسيوط، عبد الرحيم راضي، لم يهمل القرآن بل كان كاذبا.. كاذبا لأبعد حد، سافر بخياله إلى ماليزيا، ووصف مشهد مهيب لاستقباله في المطار هناك، بل وكتب لافتة الترحيب بنفسه لنفسه "مرحبا بقارئ الأزهر". وقد وصفه واتهمه مجلس تأديب كليته وجامعته: بالإخلال بالشرف والكرامة، والإخلال، أيضا، بحسن السمعة والسلوك داخل الكلية وخارجها؛ بادعائه كذبًا حصوله على المركز الأول بالمسابقة العالمية.
النظرة التي يسجلها طه حسين في "الأيام" لتقدير وإجلال الناس لطلبة الأزهر ولزيهم في سنوات العشرينيات وقت أن كان يدرس هو، وما سجله سليمان فياض عن مجاوري الأزهر في فترة لاحقة في الأربيعنيات في سيرته "أيام مجاور"، تكاد تكون واحدة. تأثير نظرة المجتمع على نفسية هؤلاء الطلاب الفقراء في الغالب وكيف يكون لها أحيانا مفعول السحر عليهم، وأيضا ما يذكره فياض وهو يرسم تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيا في القرن العشرين. هذا الأمر مازال حاضرا إلى اليوم. ويمكن أن نتخيل مفعول تلك النظرة وهذا التناقض، والذي قابل نفس ضعيفة في حكاية طالب أسيوط. كل هذه الأفكار والحكايات خطرت في بالي وأنا أتابع حكاية وكذب "الشيخ" عبد الرحيم راضي والذي اختفى بعد هذه الواقعة تقريبا ولم يستطع أن يحضر مجلس التأديب والذي قرر فصله نهائيا من كليته. حاولت أن أفكر وأتصور بهذه الطريقة دوافع هذا الطالب الصغير في نسج هذه الكذبة، ومدى تأثيرة نظرة الناس، وجرأته الممزوجة بجنون الشهرة، وبراعته في الأداء والحكي،، ونجاحه في تنفيذ معظم ما فكر فيه.. وقلت في بالي: يا ابن الـ..
https://almanassa.com/ar/story/1236
في واقعة طريفة ادعى طالب بكلية صيدلة فرع جامعة الأزهر بأسيوط، أنه سافر إلى دولة ماليزيا حيث تنعقد بها مسابقة عالمية لحفظ القرآن الكريم، وأنه قد حصل على المركز الأول في تلك المسابقة. وبالفعل على ذلك تم تكريمه من عدة أماكن مختلفة رسمية وغير رسمية، سواء في محافظته أو على مستوى أكبر هنا بالعاصمة. وكان في طريقه لمقابلة شيخ الأزهر، وقيل أيضا أن رئاسة الجمهورية كانت بصدد تكريمه. وقام هذا الطالب بعدد من المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة ومن ضمنها مقابلة مع المذيع تامر أمين. كان يحكي بالتفصيل عن سفره والحفاوة التي وجدها في ماليزيا، بداية من لافتة "مرحبا بقارئ الأزهر" وقراءته للقرآن في المسابقة أو خارجها بناء على طلب الجمهور لذلك الطالب المصري من بلد الأزهر الشريف. كان يحكي بثقة ويقين مع عتاب على الجهات الرسمية في مصر التي لم تشجعه أو حتى تودعه بالمطار. وحكى أيضا عن الاجهاد الشديد لصوته من كثرة القراءة. بل وذكر أن هناك نصائح طبية له بعدم القراءة لمدة معينة حتى تتعافى الأحبال الصوتية التي أُجهدت يا ولداه في هذه الرحلة.. وكل ما كان يحكي كان المذيع يعبر عن سعادته وانبهاره مع بعض الخجل والأسى من عدم التقدير لمثل هذا الفتى الماهر بالقرآن قبل سفره. وبالتأكيد كان هناك قطاع كبير من الجمهور لديه ذات المشاعر المختلطة بين التقدير والأسى لهذا الطالب المتفوق حافظ وحامل كتاب الله. لكن وقبل موعد اللقاء بشيخ الأزهر تم اكتشاف ادعاء وكذب هذا الطالب الذي لم يحصل لا على تأشيرة ولا سافر ولا قرا حتى جزء عم. ومن ثم تم الغاء كل ترتيبات التكريم. حكاية هذا الطالب فكرتني بحكايات كثيرة قرأتها عن طلبة الأزهر على مر السنين. دائما ما كانت هناك نظرة تقدير للطالب الذي يرتدي زي الأزهر المعروف، وتقدير أكبر لحفظة القرآن، الكرام البررة، وهو وصف جاء في القرآن للملائكة ومعناه أن خلقهم كريم طيب طاهر؛ وبالتالي فعلى حافظ القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، أسوة بهؤلاء الكرام، مازالت هذه النظرة والتقدير حاضرة بقدر في معظم قرى مصر. وقد تسبب هذه النظرة وهذا التقدير المبالغ فيه نفسهم، وتصور الناس لمواصفات غير بشرية لحافظ القرآن، خلل نفسي وعدم اتزان لهذا الطالب أو ذاك، خصوصا مع حداثة السن.
يحكي طه حسين في "الأيام" عن نفسه عندما أصبح شيخا ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة؛ شيخا لأنه حفظ القرآن "ومن حفظ القرآن فهو شيخ مها تكن سنه" وأنه أحب هذا الوصف في بداية الأمر، لكنه كان ينتظر ما هو أكثر من لقب "شيخ" من مظاهر المكافآة والتشجيع، كان يحلم الشيخ طه بالجبة والقفطان كما ينبغي لهيئة الشيوخ أن تكون. ولعل طالب أسيوط كان يحلم هو الآخر، لكن بما هو أبعد من اللقب أو الزي، بالشهرة والمجد ومزيد من نظرات التقدير والإعجاب. أيضا يحكي طه حسين عن شعوره بالظلم بسبب عدم التقدير الكافي وأنه لم يقتنع بأن ضآلة جسمه وكونه مازال مفعوصا وأصغر من أن يحمل العِمَّة وأن يدخل في القفطان رغم كونه حافظا للقرآن! هذا الشعور بالظلم وعدم التقدير كما كان ينتظره جعله يُهمل حفظ القرآن، إلى أن جاء اليوم الأسود في حياة هذا الصغير، اليوم الذي ذاق فيه الفتى "لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة" حين طلب منه أبوه أن يقرأ أمام الضيوف، من الشعراء ثم النمل، ثم القصص.. لم يكن يتجاوز فيما قرأ الفواتح: طسم، طس، طسم.. لكن طالب أسيوط، عبد الرحيم راضي، لم يهمل القرآن بل كان كاذبا.. كاذبا لأبعد حد، سافر بخياله إلى ماليزيا، ووصف مشهد مهيب لاستقباله في المطار هناك، بل وكتب لافتة الترحيب بنفسه لنفسه "مرحبا بقارئ الأزهر". وقد وصفه واتهمه مجلس تأديب كليته وجامعته: بالإخلال بالشرف والكرامة، والإخلال، أيضا، بحسن السمعة والسلوك داخل الكلية وخارجها؛ بادعائه كذبًا حصوله على المركز الأول بالمسابقة العالمية.
النظرة التي يسجلها طه حسين في "الأيام" لتقدير وإجلال الناس لطلبة الأزهر ولزيهم في سنوات العشرينيات وقت أن كان يدرس هو، وما سجله سليمان فياض عن مجاوري الأزهر في فترة لاحقة في الأربيعنيات في سيرته "أيام مجاور"، تكاد تكون واحدة. تأثير نظرة المجتمع على نفسية هؤلاء الطلاب الفقراء في الغالب وكيف يكون لها أحيانا مفعول السحر عليهم، وأيضا ما يذكره فياض وهو يرسم تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيا في القرن العشرين. هذا الأمر مازال حاضرا إلى اليوم. ويمكن أن نتخيل مفعول تلك النظرة وهذا التناقض، والذي قابل نفس ضعيفة في حكاية طالب أسيوط. كل هذه الأفكار والحكايات خطرت في بالي وأنا أتابع حكاية وكذب "الشيخ" عبد الرحيم راضي والذي اختفى بعد هذه الواقعة تقريبا ولم يستطع أن يحضر مجلس التأديب والذي قرر فصله نهائيا من كليته. حاولت أن أفكر وأتصور بهذه الطريقة دوافع هذا الطالب الصغير في نسج هذه الكذبة، ومدى تأثيرة نظرة الناس، وجرأته الممزوجة بجنون الشهرة، وبراعته في الأداء والحكي،، ونجاحه في تنفيذ معظم ما فكر فيه.. وقلت في بالي: يا ابن الـ..
https://almanassa.com/ar/story/1236
Published on February 28, 2016 05:44
No comments have been added yet.


