ثلاثة وثلاثون ساعة في القاهرة
نعم، لا يوجد خطأ في عنوان المقال، فأنا أقضي أحياناً عشرة ساعاتٍ فقط في القاهرة، وأحياناً أربعة وعشرين ساعة، وربما يُسعدني الحظ مثل هذه المرة فأمكثُ فيها أكثر من يوم، إنها القاهرة التي أُحب معنى اسمها كثيراً، وهي من أكثر المدن التي أسافرُ إليها على الإطلاق، لكنَّها من أقل المدن التي أُبيت فيها على الإطلاق أيضاً، ولكنَّ هذا شأنٌ خاص وله حديثٌ آخركانت القاهرة هذه المرة مُختلقةً جداً، كُلُّ ما فيها غريبٌ وجديدٌ، تلمَّستُ ذلك منذ لحظة خروجي من الطائرة ومروراً بكُلٍّ الوجوه التي صادفتني، وكذلك عند احتكاكي وتعاملاتي مع الجميع أثناء التنقلات والشراء والإجتماعات، إنَّها آثار الثورة التي لم يتوقع حدوثها أحد، ولم يتنبأ بنتائجها أكثرُ المُتفائلين والمُحللين السياسيين، ولا زال الجميع يتجادل بشأنها وبشأن ما سيأتي بعدها، والكُّلُّ لم يزل في حالة ترقب
صار الجميع يتحدث في السياسة، وصار لكُلِّ فردٍ رؤيته وقناعاته، منهم من يستقي تلك القناعات من الآخرين، ومنهم من يؤسس لنفسه قناعاته الشخصية، كما أنني لمستُ بنفسي أنَّ الكُلَّ يتفقُ على حتمية تطبيق الديمقراطية، لكن عدداً كبيراً من هؤلاء الجمع يتخذُك عدواً لمجرد أن تتلفظ برأيٍ مخالفٍ لرأيهم، إنهم يحبون الديمقراطية لكنَّهم لا يستطيعون أن يمارسونها بعد، أتلمس العذر للجميع، وأبتسم
حمدتُ الله كثيراً أنَّنا من الدول القلائل التي لديها مرجعية مُحترمةً متمثلةً في هذا الجيش القوي وذلك المجلس العسكري الأعلى، فهناك العديد من الدول التي زرتها شرقاً وغرباً لا توجد لديها تلك المرجعيات العسكرية، ولا تلك الخبرات الحربية العريقة، وكم من دولٍ قريبةٍ منَّا تُعَدُّ بدون حماية تقريباً إذا ما تعرضت لخطر، والأمثلة كثيرة
وعندما يتحدثُ الناسُ عن الجيش، رأيتُ الكثيرين يتعجلون ويضيق صدرهم من رجالات الجيش لأنهم لم يقوموا بكُلِّ الإصلاحات اللازمةٍ فوراً، وهنا كانت لي ملاحظتين، أولهما هي كيف لنا أن نتعجَّل أن يقوم الجيش بإصلاحات أفسدتها عقودٌ طويلةٌ متراكمةٌ ومتشابكةٌ في أيامٍ قليلة؟ أي عقلٍ في هذا المطلب؟ وخصوصاً أن الفساد كان قد استشرى في جميع تفاصيل الحياة بكافة طبقاتها؟ وثانيهما أن الجيش ليس الخبير الأول في كافة مجالات الحياة من زراعة وصناعة وتجارة وتعليم واقتصاد وغيره، فلابد له من التأني والإستعانة بالخبراء في كافة مجالات الحياة، ويتوجب علينا ألا نُحمَّل الجيش فوق طاقته، أو أن نُحمِّلُه مالا يستطيع أن يعمله خارج تخصصه، لكن كيف تصل هذه الرسالة لشعب مكبوتٍ خرج كالمارد من القمم حديثاً؟ أتلمس العذر للجميع، وأبتسم
كان هذا عن الجيش، أما عن الشعب، فمثلما تغيرت طبائع الكثيرين إلى الأفضل، ومثلما صارت الثورة هي كلمة السر التي تستطيع أن توقف بها أي شخص يقوم بعمل سيء، ومثلما تجددت في مصر روح تعاونية جميلة بين الناس كانت قد اختفت وسط الأنانية المفرطة فيما سبق، كانت هناك سلبيات أُخرى تتمثل في أن التشكيك في كُلِّ شيء صار أمراً منتشراً للغاية وبشكلٍ يفوق التصوُّر، وقد تلاسن الكثيرين بالفعل لدرجة أنَّ هناك العديد من الناس لن يستطيعون التعامُلَ مع بعضهم البعض مستقبلاً، وعلى نفس القياس، فمثلما غيَّرت الثورة من الناس وكسرت حاجز الخوف بداخلهم، ومثلما صاروا يعرفون حقوقهم وواجباتهم ولا يُفرِّطون فيها مُجدداً، إلا أنَّ هناك من تخطوا تلك الشعرة الدقيقة بين الجرأة والوقاحة، فوجدنا من يتطاولون على أي شخصٍ لدرجة أن هناك مرؤسين صاروا لا يطيعون أوامر رؤسائهم في العمل، وأصبح ذلك أحياناً على مستوى من يعملون أعمالاً تندرج تحت بند تأدية خدماتٍ للآخرين أيضاً، وواجهنا مطالب فئوية منها ما هو معقولٌ وعادلٌ ومنها ما هو خارج حدود المنطق، وهو ما يتنافي مع قِيَم الثورة المصرية النبيلة، وهو ما أتمنَّى ألاً يستمر كثيراً وإلا استيقظنا على مجتمعٍ جديدٍ لن يستطيع أفراده أن يتعاملوا مع بعضهم أبداً، فقد خلق الله الناس طبقاتٍ ودرجاتٍ، وفضَّل بعضهم على بعضٍ
أتمنى أيضاً أن يفيق الجميع وأن ينتبهون إلى عجلة الإقتصاد، ففي وسط النشوة والفرحة بتلك الثورة الجميلة، لابد لنا أن نعيَ أنَّ الإقتصاد هو عصبُ الحياة، وإذا توقفت عجلة الإقتصاد في مرحلةٍ ما سيظهر تأثيرها السلبي لاحقاً فيما بعد، ولكي أُقرب إليكم الأمر أكثر، تخيلوا معيَ مخبزاً يقومُ بإعداد الخبز وبه مخزونٌ من الدقيق يكفيه لمدة عشرة أيامٍ مثلاً، إذا توقف المطحن ذات يومٍ عن امداد المخبز بالدقيق، ربما لن يشعر الناس بشيء، ذلك لأنَّ المخبر لا زال يُقدم للناس الخبز بشكلٍ طبيعيٍ لمدة عشرة أيام مُعتمداً على المخزون السابق، وما أن يأتي اليوم الحادي عشر سيكتشف الناس اختفاء الخبز، وهكذا الإقتصاد، لابد أن تكون عجلته في حالة دوران مستمر حتى لا تتوقف ذات يومٍ فيما بعد
هناك حقيقة أُخرى مؤلمة، تظهر تلك الحقيقة كُلَّما تمَّ ترشيح اسمَ شخص ٍما لتولي منصب ما، فما أن يتم الترشيح اذا بالكثيرين يُفندون مساوئ ذلك الشخص المقترح ويعددون السلبيات فيما كان في تاريخه سابقاً، ينسى الجميع أنَّنا كُنَّا جميعاً نتفاعل مع النظام السابق بطريقةٍ أو بأُخرى، نسيَ الجميع أنه لكي تعيش في مصر فإنه كان يتوجب عليك أن تتعايش مع كُلِّ ما هو متعلقٌ بذلك النظام البائد، فالآلاف كانوا يعملون في مصانع وشركات يمتلكها هؤلاء ممن تم القاء القبض عليهم الآن، والكثيرين منَّا كانوا يقومون بدفع الرشاوي ويبحثون عن الواسطة لقضاء أعمالهم، فالجميع مُدان ولا ريب، تذكرتُ ذلك وأنا أرى أحد المؤرخين الكبار الذين عاصروا فترات حُكْم جمال عبد الناصر والسادات، كان يتحدث ويُحلل ما حدث أثناء الثورة ويتشفَّى في مُبارك وكأنَّه ملاكٌ نقيٌ من أية شائبة، رغم أنَّني أعرف جيداً عن هذا المؤرخ أنَّه كان فيما مضى يغضُّ الطرف عن أحداثٍ جسيمةٍ كعزل عبد الناصر لمحمد نجيب واندثار ذكره، ورغم أنَّني أعرفُ جيداً أيضاً أنَّ هذا المؤرخ له ابنٌ هو رجل أعمال شهير يمتلك احدى بيوت التمويل المليارية العجيبة التي ظهرت فجأة وتقاطعت مع مجال عملي ذات يوم، وهو من أحد المُستفيدين من عهد مُبارك، وأضع أنا والجميع عليها علامة استفهام كبيرة عن مصادر أموالها وصفقاتها المُريبة
المهم، انتهت زيارتي القصيرة لمصر بسرعة، لكنَّها كانت بالنسبة لي بمثابة ثلاثة وثلاثون يوماً وليس ثلاثة وثلاثون ساعة، أرتقي سلم الطائرة وأنا أنظر إلى القاهرة من خلفي قبل الرحيل مرةً أخرى، أجدني أقول في نفسي: صبراً شعب مصر، فالأمور تحتاج لوقت ليس بالقليل كي تنضج، ولن تكون النقله للأفضل فجائية، ولن تكون مصر هي المدينة الفاضلة بين يوم وليلة، لكنَّني متأكدٌ من أن الغد لن يكون أبداً أسوأ من الماضي، بل بإذن الله أفضل
Published on February 23, 2011 01:46
No comments have been added yet.


