الغيرة والعنف على الجماعة
الغيرة والعنف على الجماعةعبدالله المطيرييقول سبينوزا في كتابه الأخلاق: "عندما أتخيل أن محبوبي قد ارتبط مع غيري بعلاقة صداقة مماثلة أو أقوى لما بيننا فإنني سأشعر بالكراهية لمن أحب والحسد للطرف الآخر.. حين تترافق هذه الكراهية لمن أحب مع الحسد للطرف الآخر فإننا أمام الغيرة التي ليست سوى تذبذب العقل النابع من الشعور بالحب والكره في الوقت ذاته في حضرة فكرة الطرف الثالث الذي نشعر تجاهه بالحسد".
سأحاول استعمال هذا النص لسبينوزا للتفكير في بعض قضايا الغيرة الثقافية، وتحديدا في قضية علاقة من يغار على الجماعة مع أفراد هذه الجماعة. الأفكار الأساسية حتى الآن كالتالي: الغيرة علاقة ثلاثية تجمع الذات بمن تحب مع وجود طرف ثالث يفترض أن يربك العلاقة بين الذات ومن تحب. الآخر هذا جزء أساسي في هذه المعادلة وفي حال زواله فإن الغيرة ستزول. الغيرة الثقافية أو الغيرة على الثقافة لها تجليات كثيرة منها أن يشعر إنسان ما بالغيرة على الجماعة أو على الثقافة التي ينتمي لها من تدخل طرف ثالث. في المقالة السابقة توقفنا عند ملاحظة مهمة ولا أظن أننا فسرناها بالشكل المطلوب، وهي ظاهرة ترافق الغيرة والعنف. أي ترافق الغيرة على من نحب بالعنف تجاه هذا الحبيب. هذا واضح في العلاقات الفردية المباشرة، فالتجربة الإنسانية مليئة بعلاقات الحب التي تحولت إلى مآسٍ بسبب الغيرة. المشهد المتكرر أن تبدأ العلاقة بشكل طبيعي بين الحبيب ومحبوبه حتى يدخل طرف ثالث في المعادلة ليثير معه مشاعر تثير الشك في قلب العاشق بأنه لم يعد يحظى بامتياز خاص لدى محبوبته. هذا الارتباك يدفعه باتجاه تفكير موجه بشكل كبير بهذه المشاعر يجعله يعيش في واقع جديد يبتعد يوما بعد يوم عن الواقع الحقيقي. في هذا الواقع المتخيل تظهر الحبيبة بصورة الخائنة والغدارة، ولكنها تبقى المحبوبة الأكبر. النهاية الدرامية تصل إلى ذروتها في أن يقتل العاشق معشوقته والطرف الثالث لتموت الغيرة معهما، لكن في الغالب فإنه لن يستطيع قتل الطرف الثالث ليقتل محبوبته ويعيش طول عمره مع ذكريات الندم. على المستوى الجماعي لاحظنا كذلك العلاقة الطردية بين من يرفعون شعارات المحبة والفداء لجماعاتهم من القادة السياسيين وبين العنف الذي يوجهه هؤلاء لجماعتهم تحديدا. شخصيات مثل هتلر وستالين وعبدالناصر وصدام حسين والأسد جمعت هاتين الخصلتين: محبة عارمة للجماعات التي انتموا لها وفي الوقت ذاته أعتى أنواع العنف تجاه هذه الجماعات بعينها. تفاوت هذا العنف من قتل عدد كبير من هذه الجماعات أو إدخالهم في حروب متتالية وتحويل حياتهم إلى معتقلات تراقبها أعداد كبيرة من الأجهزة البوليسية. ما سأحاول فهمه هنا مستعينا بالعبارة السابقة لسبينوزا، هو هذا الارتباط بين الحب والعنف تجاه المحبوب تحت آثار الغيرة.
سأحاول هنا رسم صورة تقارب بين علاقة الغيرة بين الأفراد وبين علاقة الغيرة بين الفرد والجماعة. هتلر مثلا أحب الشعب الألماني واعتقد أن مهمته في الحياة الدفاع عن هذا الشعب وحمايته، ولكنه في الوقت ذاته كان يرى أن هذا الشعب مرتبط بعلاقات أو مخدوع بعلاقات طيبة مع الآخرين سواء في القارة الأوروبية أو حتى في الداخل الألماني خارج التعريف العرقي الهتلري للألمان. هذه العلاقة تثير لدى هتلر هذين الشعورين: حب الألمان والغضب من الألمان الذين لم يستيقظوا بعد ولا يزالون يعيشون وهم العلاقة الطيبة مع الآخرين. هؤلاء لا يرون ما يراه هتلر ولا يعلمون مدى التهديد الذي يمثله هذا الآخر على الجماعة الألمانية. هتلر هنا يحب ويكره الألمان في ذات الوقت. يحبهم لأنهم الجماعة التي يشعر بالانتماء لها ويكرههم لأنهم لم يدركوا الخطر المحيط بهم. هتلر هنا يصبح حساسا جدا من علاقة الألمان بغيرهم، لأن هذه العلاقات مع الخارج تهدد علاقته الاستثنائية معهم. هذا التوجس يدفع بهتلر لمراقبة شعبه كما يراقب العاشق الغيور محبوبته.. يحاول أن يحد من تواصلهم مع الآخرين.. يعزلهم.. يسلط عليهم أجهزة المخابرات.. يمنعهم من التعبير.. يلغي الأحزاب المعارضة.. يقفل البلد كما يقفل العاشق المريض بالغيرة البيت على معشوقته.. يراقب هتلر كل نوافذ التعبير كما يراقب العاشق شبابيك البيت التي قد تكون فرصة للتواصل بين معشوقته وحبيبها المتخيّل. الناس ترى في هتلر كلا الجانبين. الصدق ينضح من عباراته والعنف يرافق كل تصرفاته. المحبوبة لا تشك أبدا في أن عاشقها المجنون بالغيرة يحبها.. هي تعلم ذلك يقينا ولكنها تعلم كذلك أن هذا الحب استحال إلى عنف سيقضي عليها إن لم تهرب. محاولات هروبها تعزز أفكار الشك كما تعزز تململات الشعب من ديكتاتورية هتلر أفكاره المرتابة. النتيجة المزيد من المراقبة والعنف والمزيد من الضيق الشعبي حتى تنفجر الأمور.
هذه الصورة لن تكون غريبة عن الواقع التاريخي الذي جمع غالب المستبدين بشعوبهم. هذا التفسير يمكن أن يساعدنا كذلك على تفسير ظاهرة العنف في خطابات التيارات الأممية الدينية والقومية تجاه من يخالفها من الجماعات التي ترفع شعار الدفاع عنها. هذا العنف يواجهه الناس في وسائل التواصل الاجتماعي تحت شعارات التخوين والتكفير والاتهام بالعمالة والانبطاح للأجنبي. الغيور هنا يظهر بشكل مزرٍ، فهو عاجز عن التصدي لـ"الأجنبي" ويفرغ كل طاقته على "أهله" ليطبق المثال الشعبي "عوني على أمي وأخياتي أما الرجال فلا والله". لا ننسى أن تذكيره بهذا المثل أو الإشادة بـ"الأجنبي" سيزيد من غيرته وعنفه.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
سأحاول استعمال هذا النص لسبينوزا للتفكير في بعض قضايا الغيرة الثقافية، وتحديدا في قضية علاقة من يغار على الجماعة مع أفراد هذه الجماعة. الأفكار الأساسية حتى الآن كالتالي: الغيرة علاقة ثلاثية تجمع الذات بمن تحب مع وجود طرف ثالث يفترض أن يربك العلاقة بين الذات ومن تحب. الآخر هذا جزء أساسي في هذه المعادلة وفي حال زواله فإن الغيرة ستزول. الغيرة الثقافية أو الغيرة على الثقافة لها تجليات كثيرة منها أن يشعر إنسان ما بالغيرة على الجماعة أو على الثقافة التي ينتمي لها من تدخل طرف ثالث. في المقالة السابقة توقفنا عند ملاحظة مهمة ولا أظن أننا فسرناها بالشكل المطلوب، وهي ظاهرة ترافق الغيرة والعنف. أي ترافق الغيرة على من نحب بالعنف تجاه هذا الحبيب. هذا واضح في العلاقات الفردية المباشرة، فالتجربة الإنسانية مليئة بعلاقات الحب التي تحولت إلى مآسٍ بسبب الغيرة. المشهد المتكرر أن تبدأ العلاقة بشكل طبيعي بين الحبيب ومحبوبه حتى يدخل طرف ثالث في المعادلة ليثير معه مشاعر تثير الشك في قلب العاشق بأنه لم يعد يحظى بامتياز خاص لدى محبوبته. هذا الارتباك يدفعه باتجاه تفكير موجه بشكل كبير بهذه المشاعر يجعله يعيش في واقع جديد يبتعد يوما بعد يوم عن الواقع الحقيقي. في هذا الواقع المتخيل تظهر الحبيبة بصورة الخائنة والغدارة، ولكنها تبقى المحبوبة الأكبر. النهاية الدرامية تصل إلى ذروتها في أن يقتل العاشق معشوقته والطرف الثالث لتموت الغيرة معهما، لكن في الغالب فإنه لن يستطيع قتل الطرف الثالث ليقتل محبوبته ويعيش طول عمره مع ذكريات الندم. على المستوى الجماعي لاحظنا كذلك العلاقة الطردية بين من يرفعون شعارات المحبة والفداء لجماعاتهم من القادة السياسيين وبين العنف الذي يوجهه هؤلاء لجماعتهم تحديدا. شخصيات مثل هتلر وستالين وعبدالناصر وصدام حسين والأسد جمعت هاتين الخصلتين: محبة عارمة للجماعات التي انتموا لها وفي الوقت ذاته أعتى أنواع العنف تجاه هذه الجماعات بعينها. تفاوت هذا العنف من قتل عدد كبير من هذه الجماعات أو إدخالهم في حروب متتالية وتحويل حياتهم إلى معتقلات تراقبها أعداد كبيرة من الأجهزة البوليسية. ما سأحاول فهمه هنا مستعينا بالعبارة السابقة لسبينوزا، هو هذا الارتباط بين الحب والعنف تجاه المحبوب تحت آثار الغيرة.
سأحاول هنا رسم صورة تقارب بين علاقة الغيرة بين الأفراد وبين علاقة الغيرة بين الفرد والجماعة. هتلر مثلا أحب الشعب الألماني واعتقد أن مهمته في الحياة الدفاع عن هذا الشعب وحمايته، ولكنه في الوقت ذاته كان يرى أن هذا الشعب مرتبط بعلاقات أو مخدوع بعلاقات طيبة مع الآخرين سواء في القارة الأوروبية أو حتى في الداخل الألماني خارج التعريف العرقي الهتلري للألمان. هذه العلاقة تثير لدى هتلر هذين الشعورين: حب الألمان والغضب من الألمان الذين لم يستيقظوا بعد ولا يزالون يعيشون وهم العلاقة الطيبة مع الآخرين. هؤلاء لا يرون ما يراه هتلر ولا يعلمون مدى التهديد الذي يمثله هذا الآخر على الجماعة الألمانية. هتلر هنا يحب ويكره الألمان في ذات الوقت. يحبهم لأنهم الجماعة التي يشعر بالانتماء لها ويكرههم لأنهم لم يدركوا الخطر المحيط بهم. هتلر هنا يصبح حساسا جدا من علاقة الألمان بغيرهم، لأن هذه العلاقات مع الخارج تهدد علاقته الاستثنائية معهم. هذا التوجس يدفع بهتلر لمراقبة شعبه كما يراقب العاشق الغيور محبوبته.. يحاول أن يحد من تواصلهم مع الآخرين.. يعزلهم.. يسلط عليهم أجهزة المخابرات.. يمنعهم من التعبير.. يلغي الأحزاب المعارضة.. يقفل البلد كما يقفل العاشق المريض بالغيرة البيت على معشوقته.. يراقب هتلر كل نوافذ التعبير كما يراقب العاشق شبابيك البيت التي قد تكون فرصة للتواصل بين معشوقته وحبيبها المتخيّل. الناس ترى في هتلر كلا الجانبين. الصدق ينضح من عباراته والعنف يرافق كل تصرفاته. المحبوبة لا تشك أبدا في أن عاشقها المجنون بالغيرة يحبها.. هي تعلم ذلك يقينا ولكنها تعلم كذلك أن هذا الحب استحال إلى عنف سيقضي عليها إن لم تهرب. محاولات هروبها تعزز أفكار الشك كما تعزز تململات الشعب من ديكتاتورية هتلر أفكاره المرتابة. النتيجة المزيد من المراقبة والعنف والمزيد من الضيق الشعبي حتى تنفجر الأمور.
هذه الصورة لن تكون غريبة عن الواقع التاريخي الذي جمع غالب المستبدين بشعوبهم. هذا التفسير يمكن أن يساعدنا كذلك على تفسير ظاهرة العنف في خطابات التيارات الأممية الدينية والقومية تجاه من يخالفها من الجماعات التي ترفع شعار الدفاع عنها. هذا العنف يواجهه الناس في وسائل التواصل الاجتماعي تحت شعارات التخوين والتكفير والاتهام بالعمالة والانبطاح للأجنبي. الغيور هنا يظهر بشكل مزرٍ، فهو عاجز عن التصدي لـ"الأجنبي" ويفرغ كل طاقته على "أهله" ليطبق المثال الشعبي "عوني على أمي وأخياتي أما الرجال فلا والله". لا ننسى أن تذكيره بهذا المثل أو الإشادة بـ"الأجنبي" سيزيد من غيرته وعنفه.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on December 16, 2015 05:30
No comments have been added yet.
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

