تعادُل بِطَعم الفوز
لنتفق من البداية، لا أتحدث هنا عن تحليلٍ سياسي أو شرحٍ للمواقف، فقد تشبعنا بِكَمٍ ضخمٍ من التحليلات والرُؤى والمناظرات، لكنني أتحدث هنا عن زاويةٍ جديدةٍ من خارج الصندوق رُبما خَفيَت عن البعض وسط الأحداث التي عصفت بنا ولم تهدأ، فالثورة المصرية لعام 2011 كانت ولا تزال وستظَّل هي أعظم الثورات المصرية على الإطلاق في كُلِّ جوانبها، إن لم تكن من أعظم الثورات في العالم أجمععلمتني الثورة الكثير الكثير، وأهمُّ ما تعلَّمتُه هو أن الغضب قد يُشوَّش تماماً على العقل ويُعمي البصر ويؤثر على نقاء البصيرة، وهو ما رأيناه – ولا زلنا نراه – من احتدادٍ رهيب في النقاشات اليومية بيننا جميعاً، والتي وصلت جميعُها إلى الحدِّ الذي يُفرِّق بين الناس وبعضهم البعض، برغم أن الصورة واضحة وبرغم أن الأمور أصبحت إلى حدٍ كبير مُحدَّدة
أتدرون لماذا لا زلنا نتناقش بحدَّة حتى الآن؟ أتدرون ما السر وراء تلك المَكْلَمَةِ العظيمة التي لا تنتهي بين الناس؟ إنها الصدمة والهوَّة التي تفصل بين الأحلام والواقع، بين الأُمنيات والإنجازات، بين الطموح والإمكانيات، بين القلب والعقل
تخيلوا معي أننا في مباراة لكرة القدم في كأس العالم وتفاجأنا بأننا في الإفتتاح قد انتصرنا على البرازيل وهي الأولى في اللعبة على مستوى العالم مثلاً بهدفٍ للاشيء، أتدرون ماذا سيحدث حينها؟ سيرتفع سقف الأحلام وسيأتي من يقول أننا من المُمكن أن نحصل على كأس العالم، فإذا جاءت المُباريات التالية تَكَشَّفَ لنا أن مُستوانا لا يرقى لذلك وستكون هزيمتنا صادمةً وبشدَّة
كُنَّا جميعاً نحن والثوار نحلم بنصرٍ ساحقٍ، ستة أهدافٍ مقابل لا شيء، وكنتُ معهم أحلم بأعلى سقفٍ ممكنٍ للأحلام، لكنَّنا نسينا أنَّ هناك أمورٌ أُخرى في المُقابل تحول بيننا وبين ذلك النصر الساحق، ولا أريد أن أتحدث عنها بالتفصيل هنا، فمقالي هذا ليس تحليلاً سياسياً للموقف
درسنا ذات يومٍ في كُلية الهندسة أنك إذا ربطت حجراً بسبعة حبالٍ من أطرافٍ مُختلفةٍ ثم أخذ كُلُّ رجل يشد طرفاً من الحبال كُلُّ في اتجاهٍ مخالفٍ، فإن الحجر سيتحرك في اتجاهٍ ربما لا تتوقعه أنت أبداً، إنه سيتحرك في اتجاه مُحصلة القوى المُختلفة، والتي يتخلف كل منها في حجم قوته واتجاهه
هذا هو لُبُّ القصيد، فكُلُّ طرفٍ يظنُّ أن الحجر سيتحرك – أو لابد أن يتحرك – في إتجاهه هو فقط، مُتناسياً أن هناك أطرافاً أُخرى مُتعددة تُريد أن يتحقق لها نفس الأمنية، وهو ما يدل على أن الجميع لا يعرفون أن العدل البشري (وليس العدل الإلهي) ما هو إلا تحقيق التوازن بين المصالح المُتعارضة، حتى وإن كان بعض المصالح تلك لا تنطوي على فطرةٍ سليمةٍ، ولا عجب أبداً فيما أقول، فتلك هي سُنَّة الحياة، وتلك هي طبيعة الأشياء، فقد خلق الله تعالى الحقَّ والباطل، ولا تأتي الريح بما تشتهي السفن دائماً، وليس كُلُّ ما يتمناهُ المرء يُدركه
كنتّ أتمنى مثل الجميع نصراً ساحقاً للثورة، يتغيَّر فيه النظام العسكري الحاكم بأكمله، وأن أرى دولةً مدنيةً ديمقراطيةً يحكمُها الدستور الذي سنتفق جميعاً عليه، ويختفي منها الفساد والمصالح الخاصة، وأن نتخلص من المصالح الدولية الحقيرة التي تلوث بلادنا منذ عقود
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، وليست كُلُّ كروت اللعبة في أيدينا، إنها لعبة الشطرنج اللعينة التي لا تستطيع أن تُحرَّك فيها قطعةً واحدةً بدون أن تدرس تأثير بقية القطع المُنافسة على ذلك التحرك الذي تنوي عملُه، وللأسف دائماً ما تكون قُدرة الفرد الواحد على الصمود ضعيفة أمام عجلة الحياة والحاجة إلى دورانها
يكفي هذه الثورة شرفأً أنها قد حرَّكت المياه الراكدة، وأرغمت النظام على العديد من التنازلات التي لم يكن أبداً يُفكِّر أن يقوم بها ذات يومٍ، كما يكفي هذه الثورة فخراً أنها قد كسرت الحاجز النفسي بين الشعب والنظام وإلى الأبد، وأنا على يقين من أنَّ المسؤلين سيقومون بأداءٍ أفضل مُستقبلاً، خوفاً من شعبٍ عظيم ظهر أخيراً أنَّه ليس قطيعاً من النعاج يُمكن أن يسوقه أي شخص في أي اتجاه
أستخلصُ من هذه الثورة أنَّ هذه الجولة قد انتهت بالتعادل، لم يتحقق النصر الكامل الذي حلمنا به هذه المرة، وسيحتاج الامر إلى جولةٍ أخرى ومباراةٍ أخرى، كانت النتيجة هذه المرة تعادلاً .. لكنهُ بطعم الفوز
Published on February 06, 2011 12:28
No comments have been added yet.


