أطول ثوان

أُدرك وأعي تماما أنها كانت مُجرد لحظات .. ربما مُجرد ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان .. لكنها لم تستغرق أكثر من ذلك أبدا .. ورغم ذلك فقد حدث فيها كل ذلك
يقول العلماء أن الأحلام التي نُشاهدها أثناء نومنا لا تستغرق أكثر من خمسة عشر ثانية على أقصى تقدير، لكننا نظنها تستغرق ساعتين أو أكثر كالأفلام، وسبب ذلك هو كثرة وتعاقب وتداخل الأحداث التي نُشاهدها ونعيشها أثناء الحلم، الآن تحققت من كل ذلك بنفسي، وما عشته خلال تلك اللحظات كان أيضا حلم .. أو كالحلم
حدث ذلك عندما كنتُ أقود سيارتي بسرعة على الطريق السريع حينما انحرفت نحوي فجأة تلك الشاحنة .. حينها رأيتُ الموت وهو يقترب مني أو أنا الذي أقترب منه .. فلن يستغرق الأمر أكثر من ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان على أقصى تقدير وسأكون قد اصدمتُ بتلك الشاحنة لتسحقني سحقاً ‏.. لم أكن أعرف هل سأشعر بالألم خلال تلك الثواني البسيطة التي ستسبق موتي أم أنني سأموتُ فجأة ولن أشعر بشيء؟ أتمنى دائما أن أفارق الحياة دون ألم
ربما كانت ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان .. لكنني تذكرتُ فيها زوجتي بل وتخيلتها وهي تستقبل خبر وفاتي .. أعلم أنها ستجزع وتنهار وقد تظل على ذلك لشهور عديدة قادمة، لكنها ستعتاد غيابي بعد ذلك بعدة شهور كما أنها ستكون مُمتنة لأنني لم أكن مُقصرا في تأمين مستواها المعيشي المرتفع سواء كنت حيا أو ميتا، فبوليصة التأمين على حياتي ستوفر لها دخلاً شهرياً مرتفعاً لن يُشعرها بأي تغيير أو نقص مادي. فكرتُ حينها .. هل ستفتقدني زوجتي حقاً أم أنها ستفكر بأن ترتبط برجل غيري من بعدي؟ أعلم أنها ستكون مطمعاً للكثيرين حينها وسيحوم حولها الكثيرون، ومن يدري فربما تميل هي إلى أحدهم بعد أن تعتاد نسياني، أغتاظُ بسبب ذلك كثيراً جداً لكنني لن أستطيع أن أمنعها من فعل ذلك وأنا ميت بالطبع

ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان .. ماذا عن أطفالي إذاً؟ يؤلمني جدا أن يعيش أبنائي بدون أب وهم صغار هكذا، كيف تراهم سيستقبلون خبر وفاتي؟ دعنا من التفكير في أيام تقديم العزاء وزحام زيارات الأصدقاء، ماذا عن تلك الأيام التي سينفض فيها الناس من حولهم؟ هل سيتنفسون الصعداء لأن رقابتي لهم قد انتهت؟ هل سينعمون بمظاهر اللهو واللعب التي كنتُ أقوم بتقنينها لهم؟ هل ستكون أمهم مهتمة بمستقبلهم العلمي والأدبي مثلما أنا كنتُ على قيد الحياة؟ أم أنها ستنشغل بحالها عنهم؟ يكادُ رأسي ينفجر من الإحباط حينها لكن ما الذي يمكنني فعله وأنا ميت؟

ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان .. ماذا عن المنصب الذي كنت أشغله؟ أتخيل هؤلاء الأفاقين الذين كنت أحجم دورَهم وهم فرحين برحيلي لأنني كنت دائماً العقبة التي تُعيق ألاعيبهم، أراهم وهم يتصارعون من بعدي على الكرسي الذي كنتُ أشغله، وأراهم وهم يدبرون السرقات والمخالفات فتحترق دمائي داخل عروقي، لكنني لن أستطيع أن أمنعهم وأنا ميت

ثانيتين أو ثلاثة أو أربعة ثوان .. كنتُ قد نجحتُ في الإنحراف بسيارتي متفاديا تلك الشاحنة بإعجوبة .. وكأنني أتخطى الموت وأعود إلى الحياة مجدداً ‏.. تنفستُ الصعداء وتحسستُ جبهتي وكأنني أتأكد من أن جسدي لازال سليما وأنه يمتلئ بالحياة .. وماهي إلا ربع ساعة وكنتُ قد وصلتُ إلى منزلي
أدخل إلى المنزل فأجد زوجتي وهي تقوم بالعناية بأظافرها، ينتابني الشك والريبة فيها لأنها كانت منذ لحظات ستتزوج من آخر وتغدق عليه من أموالي أنا، وأغضب من أبنائي الذين كانوا سيعيثون فسادا من بعدي منذ قليل
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 15, 2010 09:00
No comments have been added yet.