النقد والضرورة الأخلاقية

النقد والضرورة الأخلاقيةعبدالله المطيري     انتهت المقالة السابقة إلى دعوى أن الأخلاق ضرورية، ضرورة إمكان، للنقد. أو بعبارة أخرى أنه لا يمكن أن يكون هناك نقد بدون منظومة أخلاقية ما تضبط العلاقة بين الناقد والمنقود والقارئ. بهدف هذه المقالة هو الاعتراض على هذه المقولة "يمكن ممارسة العمل النقدي بدون أي التزام أخلاقي".  البرهنة على دعوى الاشتراط الضروري للأخلاق لكل عمل نقدي تتم كالتالي: أولا: النقد علاقة بين الناقد والمنقود، بين الناقد والمعرفة، بين الناقد والقارئ. الناقد كذلك يؤسس أو يدفع باتجاه علاقة بين المنقود والقارئ. ثانيا: النقد ينطوي بالضرورة على حكم. هذا الحكم قد يكون حكم قيمة وقد يكون حكم وصف. ثالثا: بما أن الناقد يتولى مهمة الحكم فهو مطالب بالحكم بالعدل. رابعا: الأخلاق هي المنظومة التي تحدد العدل من الظلم. إذن الأخلاق ضرورية ضرورة إمكان للنقد.     المقدمة الأولى بسيطة ومباشرة. النقد علاقة بين شبكة من أطراف المجتمع المعرفي. يبدو الناقد والمنقود على أنهم الأطراف الأساسية في العلاقة من الوهلة الأولى ولكن القارئ والمجتمع المعرفي بكاملة أطراف أساسية في هذه العلاقة كذلك. كل علاقة بين بشر هي موضوع للأخلاق. بمعنى أن كل علاقة بين إنسان وإنسان فهي بالضرورة محكومة بمعايير معينة تضبط علاقة الأطراف لتصبح علاقة "عادلة" أو "خيّرة". العلاقة "الظالمة" أو "الشريرة" هي تهديد لذات العلاقة وبالتالي فإن الأخلاق هي وعد باستمرار العلاقات. بدون التزام أخلاقي فإن العلاقات تتدهور وتنتهي بسرعة أو تتحول إلى علاقات قاهر ومقهور أي علاقة يندثر أحد أطرافها لحساب الآخر وبالتالي تبقى علاقة شكلية لا أكثر. بالنسبة للمجتمعات المعرفية فإن العلاقة النقدية لها درجة أكثر أهمية في تأسيس تلك المجتمعات. المجتمع المعرفي متأسس أصلا على علاقات فكرية والنقد هو السياق الذي تتحرك فيه تلك العلاقات.    المقدمة الثانية أيضا تبدو بسيطة فالنقد في الأخير حكم. المتوقع من الناقد أن يطلق قولا ما في ما ينقد. هذا القول إما أن يكون قولا وصفيا أو قولا قيميا. في كلا الحالتين هناك حكم والحكم يتطلب التزام بالعدالة. الاعتراض الأقوى على ربط الحكم النقدي بالأخلاق هو أن معايير العدالة النقدية تحددها المناهج المعرفية أو منطق المعرفة ولا داعي لإدخال القيم الأخلاقية في العملية. بمعنى أن المطلوب من الناقد هو الالتزام بالمنهج المعرفي المقبول في الأوساط المعرفية لنضمن التزامه بالعدالة النقدية. يمكن الرد على هذه الحجة من طريقين الأول: أن المناهج العلمية مؤسسة أصلا على قيم أخلاقية تضمن العدالة والإنصاف داخل العمل الوسط المعرفي. كثير من المعايير المعرفية وضعت لكبح اندفاع المشتغل في المعرفة خلف انفعالاته العاطفية ومطالبته بقدر معقول من الموضوعية التي تضمن قدرا معقولا من الإنصاف والاحترام. منع الكذب والخداع والسرقة وهي محظورات أخلاقية يقبع خلف المعايير المنهجية في البحث. الطريق الثانية في الرد على هذا الاعتراض هي أن (وجود) المنهج المعرفي لوحده لا يكفي ما نحتاجه هو (الالتزام) بهذا المنهج وهذا موضوع الاخلاق. قد يلتزم الباحث بالمنهج العلمي داخل الجامعة خوفا من الرقابة الأكاديمية ولكنه حين يخرج للفضاء العام خصوصا داخل ساحات الصراع الأيديولوجي والسياسي فإن ما يبقى معه لتحقيق العدالة النقدية هو التزامه الأخلاقي. هذه الإشكالية قديمة جدا نجدها مثلا في صراع سقراط مع السوفسطائيين الذين شغلهم حب المال والشهرة للتلاعب بالجدل والمناظرة. ما كان يقلق سقراط هو ذلك الخبير بعلوم الجدل والمناظرة المتحرر من أي التزام أخلاقي. هذا الشخص لديه الاستعداد مثلا لتعليم السياسيين الجدد حيل خداع الجماهير والتأثير عليهم بالخطب الرنانة بحثا عن مصالحه الخاصة. وجود المنهج المعرفي ذاته لا يكفي في أجواء تدفع باتجاه الصراع اللاأخلاقي باستمرار ولذا فإن النقد بدون أخلاق يتحول إلى مجرد حرب كلامية ونفسية وصراع أيديولوجي لا علاقة للمعرفة بها. المنهج المعرفي شيء والالتزام بهذا المنهج خصوصا في أجواء الصراع شيء آخر لا يمكن تحقيقه إلا بالتزام أخلاقي.      المقدمة الثالثة تربط بين مهمة الحكم والعدل. الحكم عبئ يتحمله الإنسان وهذا الحكم قد يكون عدلا وإنصافا وقد يكون انتقاما وتصفية للحسابات. ما يجعل الحكم المعرفي نقدا هو التزامه بمعايير توازي عبئ ومسئولية إطلاق القول على فكرة ما. يعلم الناس مدى خطورة قاضي أو حاكم فاسد على المصالح العامة والخاصة. الناقد المتحرر من أي التزام أخلاقي هو مثل القاضي الفاسد. أحكامه في الأخير مدفوعة بأطماعه الشخصية أو لانحيازاته وتعصباته الذاتية. القاضي يملك قوّة القانون والناقد خصوصا في أجواء التوتر وفضاءات الاستبداد يملك تأثيرا قد يؤدي بالفتك بمنقوده خدمة لسلطة ما أو لهيجان جماهيري عارم.     المقدمة الرابعة فيها دعوى تأسيس القوانين المعرفية والقوانين التنظيمية والجنائية على معايير الأخلاق. العدالة على اختلاف الناس في مضمونها هي غاية تلك القوانين. العدالة هنا هي القيمة الاخلاقية الاجتماعية أي أنها القيمة الأخلاقية الأهم على مستوى الجماعة. عادة هذا المفهوم للعدالة هو المرجع الذي تتم غربلة القوانين بناء عليه. مثلا في الدساتير التي تنطلق من قيم المساواة والحرية تكون هذه القيم هي المعايير أو المبادئ التي تحاكم بناء عليها القوانين التفصيلية. الناقد باعتبار أنه تولى مهمة إطلاق الحكم فإنه أيضا قد أعلن التزامه بمجموعة من القيم يراهن على قبول الآخرين بها لكي يكون لهذا الحكم قيمة واعتبار.      المقدمات الأربع السابقة تجعل من الأخلاق شرطا ضروريا لأي عمل نقدي. قد نختلف في دور ومضمون تلك الأخلاق ولكن وجودها أساسي لممارسة النقد وإقامة التواصل المعرفي عليه. إذا صحت المجادلة أعلاه فإن النقاش يفترض أن ينتقل لطبيعة تلك الأخلاق وطبيعة العلاقة التي يفترض أن تجمعها بالعمل النقدي (العلاقة المضمونية والعلاقة الإجرائية على سبيل المثال). http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 10, 2014 18:22
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.