لسان الشاعر
العلاقة بين صاحب السلطة والمبدع دائمًا ما تكون شائكة، لا تستقيم مهما صفى الجو بينهما وتلاقت أفكارهما، لكل واحد وسائله المختلفة، صاحب السلطة وسيلته السيف، قاطع ومانع، والمبدع لا يمتلك سوى الكلمة، رهيفة وضعيفة، السيف دائمًا ما ينتصر، ولكن الكلمة تبقى، الديناصورات الضخمة انقرضت وبقيت الأميبيا الدقيقة، حكام قلائل هم الذين وعوا درس التاريخ ولم يصلوا بالعداء إلى مداه الأخير، توقَّفوا قبل أن ينساب الدم ويتحوَّل ليكون وصمة على جبينهم، الخليفة عمر بن الخطاب كان من هذا النوع، كان حاكمًا قاسيًا، ولكنه لم يكن مستبدًّا، يدرك أن تحقيق العدل يتطلَّب بعضًا من القسوة على النفس قبل الآخرين، فالدعوة الإسلامية كانت غضّة، فى بواكيرها الأولى، خاض أبو بكر حربًا ضد المرتدين من القبائل العربية، ويستعد خليفته عمر لخوض حرب أكبر لتثبيت الدولة ومد نفوذها خارج الصحراء، كان عليه أن يكون صارمًا متقشّفًا لا يخضع للغواية، وأن يكون مثالًا للقادة الذين يقومون بفتح الأمصار حتى لا تشغلهم الغنائم عن فكرة الجهاد، وتستيقظ فى داخلهم غرائز الطمع بدلًا من السعى لنشر الدعوة.
ولكن هذه الشدّة المبالغ فيها كانت أحيانًا توقعه فى المآزق، مثلما حدث بينه والشاعر «الحطيئة»، الشخصية النقيض منه تمامًا، لم يكن من سادات العرب، ولكن من صعاليك الصحراء، بلا حسب ولا نسب شريف، رغم أن أُمَّه كانت تؤكِّد له أنه لا بد أن يكون ابن أحد أشراف القوم، فقد كانت لا تعاشر سواهم، وإن كانت لا تعرف عددهم، المهم أنه نشأ كنبات صبار جاف، مَن اقترب منه يصيبه بعض من أشواكه، وغد حقيقى لا يختلف أحد على جودة شِعره، إنه الشاعر الكامل كما يقول الأقدمون، وعندما كان يسألونه عن أفضل شعراء العرب كان يشير إلى لسانه، قائلًا: هذا إذا طمع، وهذا ما كان يفعله، يسخِّر شعره لأطماعه الشخصية، إذا أعطاه القوم مدحهم، وإذا امتنعوا عنه هجاهم، قصائده لم تكن إلا نوعًا من الابتزاز، ولكنها كانت ترفع أقوامًا وتهبط بآخرين، وفى مثل هذه الصحراء حيث لا يبقى الرمل على أثر ولا يحفظ فى داخله جذورًا، ولا تبقى غير الكلمات الشفاهية التى يتداولها الجميع، ويرتضونها مقياسًا للشرف.
وبخلاف ابن الخطاب الذى اعتنق الدين متحمّسًا وحسن إسلامه، لم يحسن الحطيئة ذلك، فقد دخل الإسلام متأفّفًا وخرج منه سريعًا، فبعد أن مات الرسول الكريم لم يجد داعيًا للتمسك بقيوده الأخلاقية، لم يكن يطيقها لأنها تمنعه من الهجاء الذى كان مصدر رزقه، ولم يكتفِ بذلك، ولكنه قال أشعارًا يهجو فيها الخليفة أبو بكر ثم ابن الخطاب من بعده، شعر أن الحطيئة قد تجاوز كل الحدود، وليس الممكن أن يتركه طليقًا فى الصحراء وأن يترك قصائده تسكن فى أفواه الناس، أمر عماله بالقبض عليه، وعندما وقع فى يده أخيرًا وضعه فى بئر عميقة عليها غطاء ثقيل، وأقسم أن يريح المسلمين من شر لسانه، وظل الحطيئة حبيسًا يقول أشعارًا يتوسَّل فيها لعمر حتى يفرج عنه، عرف لسانه العصى طعم التوسُّل للمرة الأولى، وجاء من الصحابة مَن يرجون الخليفة أن يخرجه حتى لا يموت مختنقًا، ووافق ابن الخطاب أخيرًا وجعله يقف أمامه وهو مقيَّد، وهتف فى الناس: أشيروا علىَّ فى أمر هذا الشاعر، فإنه يقول الهجو، ولا يتورَّع عن الحرام، ويمدح الناس ويذمّهم بغير ما فيهم، ما أرانى إلا قاطعًا لسانه، كان قد اتّخذ قراره بالفعل دون حاجة إلى رأى من أحد، أمر من حوله أن يحضروا له طستًا، وموسى حادة الشفرة، أحنى الحراس رأس الحطيئة، ضغطوا بأصابعهم على وجنتيه حتى انفتح فمه رغمًا عنه، تدلَّى اللسان الذى قال عشرات الأبيات مدحًا وهجاءً وتشفّيًا، لكن عبد الرحمن بن عوف، أحد الصحابة المبشرين بالجنة، وقف بين يد عمر التى تمسك بالموسى ولسان الشاعر المتدلّى، هتف بالخليفة: يا عمر، ستكون سُنَّة تتداول من بعدك، كلما قال أحدهم شعرًا قطع السلطان لسانه، وتوقف عمر، فطن فجأة لخطورة ما كان سيقدم عليه، خفت صوت الحاكم الصارم فى لحظته الآنية، ومد بصره ليرى مستقبل الأيام، وكان الموقف الذليل الذى عاشه الشاعر فيه الكفاية، ولكن عمر لم يرد التراجع بسهولة، فقال مهددًا: إياك وهجاء الناس، أحسّ الحطيئة أنه قد اقترب من النجاة، قال: إذا يموت عيالى جوعًا، هذا مكسبى، ومنه معاشى، عاد عمر يقول: فإياك والمقذع من القول، قال الحطيئة مدعيًا الغباء: وما المقذع؟ قال عمر: أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، قال الحطيئة وقد بدأ يستعيد وقاحته: فأنت والله أهجى منى.
لا فائدة فى تقويمه، هكذا أحسّ عمر، لجأ فى السر أن يفعل ما عجز عنه فى العلن، استرضى الحطيئة واشترى منه أعراض المسلمين جميعًا بثلاثة آلاف درهم، ورغم ذلك فقد ترك هذا الحادث فى نفس الحطيئة أثرًا عميقًا، زادت درجة توحّشه وتباعده عن الإسلام، ولكنه بشكل أو بآخر قد أنقذنا، فلو أن عمر بن الخطاب قد فعلها، لكانت ألسنتنا جميعًا مقطوعة لأوهى الأسباب.
ولكن هذه الشدّة المبالغ فيها كانت أحيانًا توقعه فى المآزق، مثلما حدث بينه والشاعر «الحطيئة»، الشخصية النقيض منه تمامًا، لم يكن من سادات العرب، ولكن من صعاليك الصحراء، بلا حسب ولا نسب شريف، رغم أن أُمَّه كانت تؤكِّد له أنه لا بد أن يكون ابن أحد أشراف القوم، فقد كانت لا تعاشر سواهم، وإن كانت لا تعرف عددهم، المهم أنه نشأ كنبات صبار جاف، مَن اقترب منه يصيبه بعض من أشواكه، وغد حقيقى لا يختلف أحد على جودة شِعره، إنه الشاعر الكامل كما يقول الأقدمون، وعندما كان يسألونه عن أفضل شعراء العرب كان يشير إلى لسانه، قائلًا: هذا إذا طمع، وهذا ما كان يفعله، يسخِّر شعره لأطماعه الشخصية، إذا أعطاه القوم مدحهم، وإذا امتنعوا عنه هجاهم، قصائده لم تكن إلا نوعًا من الابتزاز، ولكنها كانت ترفع أقوامًا وتهبط بآخرين، وفى مثل هذه الصحراء حيث لا يبقى الرمل على أثر ولا يحفظ فى داخله جذورًا، ولا تبقى غير الكلمات الشفاهية التى يتداولها الجميع، ويرتضونها مقياسًا للشرف.
وبخلاف ابن الخطاب الذى اعتنق الدين متحمّسًا وحسن إسلامه، لم يحسن الحطيئة ذلك، فقد دخل الإسلام متأفّفًا وخرج منه سريعًا، فبعد أن مات الرسول الكريم لم يجد داعيًا للتمسك بقيوده الأخلاقية، لم يكن يطيقها لأنها تمنعه من الهجاء الذى كان مصدر رزقه، ولم يكتفِ بذلك، ولكنه قال أشعارًا يهجو فيها الخليفة أبو بكر ثم ابن الخطاب من بعده، شعر أن الحطيئة قد تجاوز كل الحدود، وليس الممكن أن يتركه طليقًا فى الصحراء وأن يترك قصائده تسكن فى أفواه الناس، أمر عماله بالقبض عليه، وعندما وقع فى يده أخيرًا وضعه فى بئر عميقة عليها غطاء ثقيل، وأقسم أن يريح المسلمين من شر لسانه، وظل الحطيئة حبيسًا يقول أشعارًا يتوسَّل فيها لعمر حتى يفرج عنه، عرف لسانه العصى طعم التوسُّل للمرة الأولى، وجاء من الصحابة مَن يرجون الخليفة أن يخرجه حتى لا يموت مختنقًا، ووافق ابن الخطاب أخيرًا وجعله يقف أمامه وهو مقيَّد، وهتف فى الناس: أشيروا علىَّ فى أمر هذا الشاعر، فإنه يقول الهجو، ولا يتورَّع عن الحرام، ويمدح الناس ويذمّهم بغير ما فيهم، ما أرانى إلا قاطعًا لسانه، كان قد اتّخذ قراره بالفعل دون حاجة إلى رأى من أحد، أمر من حوله أن يحضروا له طستًا، وموسى حادة الشفرة، أحنى الحراس رأس الحطيئة، ضغطوا بأصابعهم على وجنتيه حتى انفتح فمه رغمًا عنه، تدلَّى اللسان الذى قال عشرات الأبيات مدحًا وهجاءً وتشفّيًا، لكن عبد الرحمن بن عوف، أحد الصحابة المبشرين بالجنة، وقف بين يد عمر التى تمسك بالموسى ولسان الشاعر المتدلّى، هتف بالخليفة: يا عمر، ستكون سُنَّة تتداول من بعدك، كلما قال أحدهم شعرًا قطع السلطان لسانه، وتوقف عمر، فطن فجأة لخطورة ما كان سيقدم عليه، خفت صوت الحاكم الصارم فى لحظته الآنية، ومد بصره ليرى مستقبل الأيام، وكان الموقف الذليل الذى عاشه الشاعر فيه الكفاية، ولكن عمر لم يرد التراجع بسهولة، فقال مهددًا: إياك وهجاء الناس، أحسّ الحطيئة أنه قد اقترب من النجاة، قال: إذا يموت عيالى جوعًا، هذا مكسبى، ومنه معاشى، عاد عمر يقول: فإياك والمقذع من القول، قال الحطيئة مدعيًا الغباء: وما المقذع؟ قال عمر: أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، قال الحطيئة وقد بدأ يستعيد وقاحته: فأنت والله أهجى منى.
لا فائدة فى تقويمه، هكذا أحسّ عمر، لجأ فى السر أن يفعل ما عجز عنه فى العلن، استرضى الحطيئة واشترى منه أعراض المسلمين جميعًا بثلاثة آلاف درهم، ورغم ذلك فقد ترك هذا الحادث فى نفس الحطيئة أثرًا عميقًا، زادت درجة توحّشه وتباعده عن الإسلام، ولكنه بشكل أو بآخر قد أنقذنا، فلو أن عمر بن الخطاب قد فعلها، لكانت ألسنتنا جميعًا مقطوعة لأوهى الأسباب.
Published on May 31, 2014 13:40
•
Tags:
مقالتي-في-التحرير
date
newest »

message 1:
by
Ayman
(new)
May 31, 2014 02:44PM

reply
|
flag