التنوير وابن رشد

التنوير وابن رشد 

عبدالله المطيري*
العدد: 1671 التاريخ: 27/04/2005 الصفحة: 24 القسم: الرأي

التنوير العربي، إن صحت التسمية، مستلهم، في كثير من الأطروحات، للتنوير الأوروبي في أهدافه القريبة والبعيدة وفي آلياته ومحركات الفعل والدفع فيه يمكن استخلاص هذه النتيجة من مجمل النتاج الفكري التنويري العربي ومقولاته الرئيسة ولو على مستوى لا يصل لجوهر التنوير الأوروبي بشكل كبير. ولكن إلى ماذا كان يهدف التنوير الأوروبي؟ يقول كانط أحد فلاسفة التنوير الكبار: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور، التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر(عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين.والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. ثم قال "لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك" ذلك هو شعار عصر التنوير". إذن كان هدف التنوير الأوروبي هو "الإنسان"، عودة له وبناء لشخصيته الفاعلة وإلزامه مسؤولياته التي هو وحده مسؤول عنها. خصوصا مسؤولياته الفكرية المتمثلة في استقلال الفكر وحريته وخروجه من ربقة الوصايات الخارجية. وهذه كلها عقبات كان صراع التنوير الأساسي مواجهتها، وهز أركانها عن طريق التنظير لمبادئ التنوير، وهذا الأمر قد قام به الفلاسفة الكبار وكذلك ممارسة المسؤولية والحرية في الفكر، وهذا ما قام به بامتياز وشجاعة علماء الطبيعة ورجال الفن التشكيلي والشعري والروائي والموسيقي. لقد كان التنوير عملا واقعا ذا عمق واحد وفضاءات وأجواء وتمظهرات متعددة وبارزة.   أما آليات العمل التنويري فقد كانت ترتكز أولا على قيم العقل بوصفها المعتبرة والمعتمدة. ولزوم دعمها في مواجهة ركام الجهالات والثقافات الشعبية الخرافية التي كانت سائدة وقوية الجذور في ذلك الوقت كما كانت ترتكز أيضا على قيم الحرية باعتبارها المناخ الذي لا يمكن للتنوير التحقق إلا فيه. وهذا المرتكز كان يواجه الأعداء الأكثر شراسة وبطشا وفطنة . إنها الطبقة " العالمة " في ذلك الوقت، الكنيسة المتحالفة بقوة مع فكر القرون الوسطى. كان الصراع شديدا وتطلّب كثيرا من التضحيات والأثمان الغالية، ولكن تلك الطبقة تحت وقع الجدل العقلاني الحر، لم تلبث أن تهاوت دون أن يأسف عليها كثيرون. هذه التجربة التنويرية الناجحة تمثل لدعاة التنوير العربي مخيالا مثيرا يمكن استلهامه، وقل إن شئت إعادة التجربة في البيئة الخاصة، هذا الشعور من كثير من المفكرين العرب الكبار يبدو منطقيا، حين نقارن بين الأهداف التي يراد بدء التنوير العربي منها وأهداف التنوير الأوروبي نجد أنها مشتركة، فالإنسان هو أساس البناء، ودون إعادة إنسانيته المتمثلة في عقله وحريته فإنه لا يمكن أن يسهم في بناء وتنمية، فعوائقه الداخلية ما تزال تمسك به وتقيده وتسلب منه أسلحته، وأنّى للإنسان الانطلاق والنجاح في الخارج مادام لم يحسم مع داخله القريب.
لكن الكثير من الخبراء في الشؤون والأوضاع الداخلية العربية يعتقدون أنه ما لم يتم العثور على نموذج للتنوير في التراث الفكري والفلسفي العربي فإن المحاولات التنويرية العربية لن تنجح، فالعقلية العربية ترسخ في أعماقها توجس وتخوف من الآخر المختلف، فهو لا يزال هو الغازي الصليبي أو المستعمر الناهب أو الكافر الذي لا يمكن أن يملك النافع والمفيد لنا.وبالتالي فإن طرح التجربة الأوروبية دون سند تراثي لن تفلح ويستشهدون ببعض التجارب التي لم تتحصل على امتداد وقبول على مستوى واسع.  على إثر هذه الفكرة جرت محاولات متعددة في البحث عن نموذج من التراث العربي يمكن استلهامه والاستناد على مقولاته الفكرية في تأسيس حراك تنويري عربي. لم تكن الخيارات بتلك الكثرة والتنوع بل كانت محصورة في الفكر الفلسفي تقريبا وبشكل ما في بعض المقولات المعتزلية, إلا أن الشخصية التي حازت على الاهتمام والعناية الأكبرين هي شخصية وفكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد. وذلك لعدة أسباب أراها لعل من أهمها: السبب الأول: أن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وأساسية. والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي اللذين قد تلبسا بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري فيما العقل البرهاني بقي الأقل تفعيلا وبالتالي فهو بشكل كبير متخلص من التراكمات المعيقة، ويبدو بكرا قادرا على العمل بطاقة وحيوية الشباب كما أنه قادر على العمل بفاعلية مع العقل العلمي ولن يقف عائقا أمامه.  السبب الثاني: أن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوَجِس الداخلي فهو الفقيه الكبير والقاضي المعتبر وصاحب المتن الفقهي الموثوق على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما أنه رسم طريقا آمنة تسير فيها الشريعة آمنة بجانب أختها الحكمة "الفلسفة" بوصفهما حقين، والحق لا يعارض الحق. وابن رشد، كما يقول الجابري، هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه.  السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته ونجاحا في البيئة الأوروبية من خلال الرشدية اللاتينية. يذكر بول كيرتس أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة نييورك (بافلو) ضمن مداخلته التي كانت بعنوان "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير" والمقدمة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ترعاه الجمعية الفلسفية الأفرو آسيوية عن "ابن رشد والتنوير" المنعقد سنة 1994م في القاهرة. يذكر أن ابن رشد أو أفيروس كما ينطق باللاتينية قد أسهم في تطوير التنوير في القرنين السابع والثامن عشر. وهو من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة في ذلك الوقت، ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210 و1215 وأعيد تدريسها في عام 1231 ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة، وذلك بقرار من البابا. ومن المعلوم عند مؤرخي الفكر الأوروبي في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلائية (المدرسية) ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية. فهو إذن فكر مجرّب وأثبت فاعليته.  السبب الرابع: أن شخصية بن رشد مغلّفة بتراجيديا مثيرة جدا للمثقف العربي، فهو يتماهى معها وكأن الظروف هي هي لم تتغير، فالاضطهاد باسم الدين والسياسة لا يزال المثقف العربي يعانيه وإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى أليسانة، وهي بلدة لليهود، وأمر ألا يُخرج منها، فإن أحوال المثقفين العرب ليست بالأحسن والأفضل.  كل هذه الأسباب وغيرها، ربما، جعلت من ابن رشد الفيلسوف الذي يمكن استلهام كثير من مقولاته في تأسيس وبناء فكر عربي نهضوي. ليس هذا كلاما نظريا فقط، بل إن هناك ما يمكن تسميته بمدرسة رشدية معاصرة في المغرب العربي، فقد قامت هذه المدرسة بتحقيق مؤلفاته من جديد وتقديمها بمقدمات وشروحات حديثة، وذات عمق علمي كبير والمشرف على هذا المشروع هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري. ولكن هناك على الطرف الآخر من يخشى أن نقع في حبائل ابن رشد. بمعنى أن نقع في سلفية رشدية، بينما المشروع التنويري مغاير إن لم نقل مضاد للسلفية في منطلقاته ومناهجه وأهدافه، فابن رشد، بحسب هذه النظرة، مهما علت قيمته يمثل فكر القرون الوسطى، ولا يمكن أن نستلهم فكر القرون الوسطى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. ومن وجهة نظري الخاصة أن القضية تتحدد في المنهج الذي نتعامل به مع فكر ابن رشد، فإن كان منهجا تسليميا متلقَيا بسلبية تحت تأثير الهالة ويعتقد أن ابن رشد يملك كل الحلول، فإنه السلفية التي أردنا الفكاك منها. أما إن تم التعامل مع تراث هذا الفيلسوف الكبير بروح النقد ورغبة التجاوز بحكم أنه يحتوي على بذور العقلانية التي يمكن من خلالها زراعة أشجار تخصنا نحن ونزرعها بأيدينا نحن، فإننا سنكسب في القريب حراكا فكريا وثقافيا عقلانيا تنويريا يحاول فك كثير من الاحتقانات الفكرية والثقافية التي تكاد توقف وتعطل كل عمل تنموي وتنويري خصوصا في قضايا العقل والعلاقة بين الدين والفلسفة بل حتى لغوي، فمن المعلوم أن ابن رشد له مساهمات في النحو واللغة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 13, 2014 15:24
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.