أنسي الحاج: الحب عِوض كُلِّ شيء ومكانَ كُلِّ مكان


لم يكن ليغلب أنسي الحاج الوقت، لكنه قرر لوحده أن يتحداه، وهو الذي قال حينما غيب الموت صديقه ورفيق أشعاره جوزيف حرب إن الأخير “”قاتلَ الوقت حتى قتله لكن الوقت قبل أن يموت ترك له الحب”.


كان أنسي يعلم أن “أقسى ما في الأمر، عندما تتعذر الصلاة على صاحب المحنة، إذ يجف حلقه من فرط الفزع” وأوصانا أن نصلي سلفاً، فباحتجابه تحت رداء المرض والألم نحن من كنا في محنة. الموت رداء كرهه لأنه أراد أن يبقى “عارياً”. ويبدو أن أنسي لم يعد يحتملنا، لذا فقد قرر الرحيل. ترك لنا شاهداً من شعر كتب عليه: “ما عُدتُ أحتمل الأرض، فالأكبر من الأرض لا يحتملها. ما عُدت أحتمل الأجيال، فالأعرف من الأجيال يضيق بها. ما عُدت أحتمل الجالسين، فالجالسون دُفنوا”. هكذا، قرر أنسي الحاج ألا يكون بيننا، وكللت رأسه “ريشة صغيرة تهبط من عصفور”.


ترك وقت أنسي الحب لنا نحن أيضاً، يحمله جميل شعره ونثره وتراجمه الخالدة، ولم يعد يعرفه إلا العميان “لأنهم يرون الحب” كما قال في إحدى قصائده. أنسي عندما أحب كان الشلال الذي أعطى، وتواضع عندما وصف محبوبيه بالإبريق، وعدّ أن عطاء الإبريق أكرم لأنه أكبر من طاقة الشلال.


لم يكن السرطان وحده الذي سرق بعضاً من وقت أنسي، حتى وإن كان قد شهد على أننا “في زمن السرطان: نثرا وشعرا وكل شيء”. كان الوقت ينزلق منه في آهات لبنان التي توجع لها ولحالها مراراً، كما غناها قصائد حب وعتب. وقد رفض هذا الفذ كل ما يمكن أن يقدس البراءة، لأنها لا تنتمي إلى حقيقة إنسانيتنا، رفضها “كأنها  أتربة علقت بجسد من الأفضل أن يغتسل لنراه عارياً” على حد وصف الشاعر عبدالمنعم رمضان.  كان وهو يرى ما يحدث حوله يترقب عودة المسيح ليعري كل ما لم يعد بقداسته التي كانت فـ الرهبان رهبان لأجل أنفسهم. الصليب نجم سينمائي. الأناجيل صارت كتاباً كجميع الكتب”.


لم يؤنس أنسي شيء أكثر من الأصوات، ففي نظره إن “بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطىء وبعضها منارة”. لهذا، كان يرى صوت فيروز “السفينة والشاطىء والمنارة، والشعر والموسيقا والصوت”. ولما غنت له هبة القواس، شدت بكلماته “أغنيك حبيبي، من أجل أن ألامس حياتهم شيئاً مما تلامس حياتي”، ليوضح أن الصوت أيضاً أعمق عنده في الحب من ملامسة الجسد. ومما لا شك فيه أن الموسيقى كان لها شأن كبير في وجدانه، وقد رأى أنه “ليس بين الفنون ما يشبه الدين مثل الموسيقى..لكنها دين بلا عقاب ولا حدود ولا عدو، و(تعصبها) يزيد الحرية”.


كان من المفارقة أن أتعرف أول مرة على نتاج هذا الشاعر العظيم من خلال ترجمته الشهيرة لكتاب أدولف هتلر الشهير “كفاحي”. أكثر ما لفت نظري كان اللغة والموسيقى الباهرتين، عكس كلٌ منها رشاقة قلمه وقدرته على مراقصة مشاعر القلق والغضب والكراهية والتعصب التي كان كتاب هتلر محملا بها. لا بد أن أنسي رأى في هذا الكتاب شيئاً ما دفعه نحوه، لربما أنه عُرْي هتلر الواضح في كل عبارة كتبها وهو يؤمن بها. ذلك العري حمله أنسي معه في ترجماته لمسرحيات شكسبير وكامو وقصائده النثرية التي نشرت في ست دواوين. بعد سبعة وسبعين عاما أضاء بها سماء الأدب العربي، ترك أنسي الحاج لنا إرثاً سنشتاق لتداعياته وعُرْيه كثيراً، وستهب دونه الريح التي “تذهب بالثلج، وبالثلج تعود”، بينما اتخذ شاعرنا أفاقاً عظيمة وجعلها حفراً. حفرة أخيرة اتسعت لجسد شاعرنا لتخلصه من وحشة الأرض، والآفاق بعد حبلى بعظيم إبداعه، لأنه اتخذ الحب “عوض كل شيء ومكان كل مكان”.


للاستماع للمقال: http://molhum.com/blog/wp-content/uploads/Onsi_elhaj.mp3


*مقال منشور في صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ 20-2-2014 هنا


تدوينة جديدة: أنسي الحاج: الحب عِوض كُلِّ شيء ومكانَ كُلِّ مكان ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2014 05:15
No comments have been added yet.