(14أغسطس)
كل ليلة..
كنت أترك خيمتي..
وأذهب لأنام هناك..
كنت أقول:
لألحق بالموت
في أوله..
أما الليلة فلم أكن هناك..
كنت نائما في البيت. أصابني برد شديد منذ يومين. وكنا جميعا نترقب؛ فهم يهددون يوميا، بفض الميدان. الاعلام يهيء الجو العام. يبث علي مدار الساعة، صور لفض اعتصامات من بلدان عدة.
في السابعة والنصف صباحا، جاءني هاتف. خالتي في الجهة الأخري. كانت تحسبني في رابعة. تقول انهم يتصلون بوالدي، ولا يرد. كان والدي بالميدان منذ أمس. سألتها هل حصل شيء؟ هل جاءوا لفض الميدان؟ قالت لي لا. لا شيء. نحن نطمئن عليكم فقط. وأغلقت. أحسست بشيء. ارتباك صوتها دلني. فتحت الفيس بوك وأنا ممدد مكاني فوق السرير. أول خبر قابلني: بدأوا فض الميدان. انتفضت. قفزت إلي الحمام. غسلت وجهي، وحملت حقيبتي، دون أن أوقظ فاطمة، ونزلت.
ركبت الباص. اقتربنا من شارع الطيران، من جهة شارع عبدالله العربي. لمحت عامود دخان أسود كثيف يتصاعد من بعيد. عرفت علي الفور أن مصدره رابعة. وعند تقاطع شارع الطيران مع شارع مصطفي النحاس، نزلت. وتقدمت سيرا علي قدمي، في اتجاه رابعة. وجدت آخرون مثلي يقتربون. قابلنا واحدا عائدا، يقول: لا تقتربوا من ناحية مستشفي التأمين الصحي، إنهم يقبضون علي كل من يقترب من هناك. توقفنا. بدأت أتخيل خارطة المكان. توصلت إلي شارع جانبي يمكن ان يوصلني إلي شارع سيبويه المصري، ومنه إلي الميدان..
بالفعل دقائق من الجري السريع، وكنت خلف مستشفي رابعة. الرصاص يصب صبا من كل الجهات. الطائرات تحوم. لم تكن قد دخلت المعركة بعد. كل ما يمكننا فعله، بعد أن قتلوا كل من علي المداخل، أن نصدهم بالحجارة و المولوتوف.
صوت سارينة الانذار هو الخلفية الجامدة للمشهد، يتخللها صوت الرصاص الذي لا ينقطع. ومعه صوت من الجحيم مسجل، تبثه القوات عبر مكبرات الصوت، يتردد بطريقة آلية، رتيبة: علي الجميع اخلاء الميدان وعدم مقاومة قوات فض الاعتصام لأن هذا يعرضك للخطر وللمساءلة القانونية. وأن عملية الفض هذه تتم بقرار من النيابة العامة، وبحضور وسائل الاعلام والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني. وعلي من يرغب في الخروج، أن يتجه لمنفذ طريق النصر.
لم أفكر في الاتصال بوالدي. كنت فقط أفكر في شيء أفعله. ما الذي يمكن لواحد أعزل أن يفعله وسط هذا العبث؟ لم أتوصل لشيء. فجأة سمعت واحدا يزعق، نريد اخلاء العمارة، ونريد حجارة. نظرت. عشرات يندفعون ناحية بناية لم تكتمل مكونة من تسع طوابق تقريبا، تطل مباشرة علي شارع الطيران. كنت قد استخدمتها وهي ما تزال أرضا خالية في كتابة قصتي (قبل الشتاء). كان بها نساء، وأطفال صغار. وكان الثوار يحتمون بها، يلقون الحجارة والمولوتوف، علي القوات كلما اقتربت أسفلها.
دخلت البناية، وصعدت إلي الطابق الثاني. وأخذت مكاني، ممددا، خلف حاجز خرساني، ارتفاعه نصف متر تقريبا. كنت أقذف الحجارة بكل قوة، وأنا مستلق علي ظهري، كمنجنيق. كانت البناية كلها تقذف حجارة ومولوتوف علي القوات كلما اقتربت، فيجبرون علي العودة للخلف.. وكان يعيقنا هيكل معدني منصوب علي واجهة البناية. يستخدمه البناؤون لإتمام أعمالهم. أسقطناه، حتي نتمكن من قذف مولوتوفنا، وحجارتنا، عليهم بكل حرية. وكنت ممن شاركوا في اسقاطه. وكانت هذه اللحظة بالنسبة لي، ولكل من شارك فيها، لحظة توديع حقيقية، للحياة. لأننا كنا مختبئين لا يستطيعون قنصنا، أما في هذه اللحظة، فنحن ظاهرين بكل خلية من أجسادنا، وكأننا نقول لهم: ها نحن أمامكم. اقتلونا. نحن لا نخاف الموت. نحن عزل تماما، لا نملك غير شجاعتنا وأجسادنا الهشة. كنا نحسب أيضا، أن هذا الهيكل، بسقوطه في الشارع، سيعيقهم عن التقدم. لكن الكساحة التي كانت معهم، كانت تكنس الأرض كمقشة عملاقة.
صدري عار..
في انتظار رصاصته
القاتلة.
استمر القتل. وبدأوا يستهدفون البناية بشكل واضح جدا. فمن أعلي المباني المحيطة بنا، بدأوا يقنصون كل من يظهر لهم. يبدو أن اسقاطنا للهيكل المعدني كشفنا تماما.
لمحني أحدهم من مكمنه، وأنا مستتر خلف جدار. كنت واقفا، فاستهدفني بسيل من الرصاص. ارتميت فوق الأرض، وأنا أسمع ارتطام الرصاص بالجدار، خلفي. شظايا الجدار كانت تطولني، وأنا أحاول أن ازحف علي ساعدي. سحبني آخرون، لقد ظنوا أني أصبت. أعادوني للخلف، واطمئنوا علي. كانت خدوش خفيفة قد طالت ذراعي، فقط. لكن ارتباكا شديدا عمني..
استرحت قليلا وعدت أساعد بقذف الحجارة ممددا مرة أخري خلف الحاجز الخرساني الواطئ. اقترب وقت الظهر. لم نأكل أي شيء. أصابنا إعياء شديد. بدأوا يستهدفون البناية بقنابل الغاز. وقنابل تحدث انفجارات صوتية هائلة. وكان نصيبي قنبلة غاز أخذتها في وجهي. أصابتني بإختناق شديد. كدت أن أزهق فعلا، ودخلت في إغماء. سحبني من حولي بعيدا، وقاموا بإسعافي.
لم تكن القنبلة قنبلة غاز مسيل للدموع، كما هو المعتاد. كانت قنبلة أعصاب. بعدها فقدت التركيز والتحكم في أعصابي تماما. كنت أقيئ. وكلما وقفت أصابني دوار. فغادرت البناية للخارج، بعد أن تأكدت أني لن أستطيع أن أقدم أي شيء. كان الوقت ظهرا. ولم يمضي وقت طويل حتي توقف صوت الرصاص. عرفنا أن ذخيرتهم قد نفذت.
ارتميت في مدخل احدي البنايات. كنت أشعر بعبإ جسدي. وكان الدوار يدوخني. حتي أني لم أستطع القيام من مكاني. كنت أريد القيام للبحث عن طعام أو ماء. وكنت أريد الصلاة.
يا جسد الخذلان تجلد،
افعل شيئا..
اقذف حجرا..
أو املأ زجاجة مولتوف..
أو احمل من فوق الأرض،
جريحا..
افعل شيئا.
وبينما أنا ممدد مكاني، وحولي آخرون، جاء شاب صغير، عمره لا يتجاوز العشرين. يقول: لقد نفذت الزجاجات التي نصنع بها المولوتوف، أريد واحدا معي لنبحث في القمامة، عن زجاجات فارغة. كان نظره مثبتا علي وهو يتكلم. فلم أستأذن جسدي، ونهضت بصعوبة بالغة.
في الشوارع الخلفية للميدان، أخذنا نجمع في أكياس الزجاجات الفارغة من القمامة، حتي وصلنا إلي حديقة وسط عمارات عالية، محاطة بسور حديدي عال، لمحنا بها الكثير من الزجاجات الفارغة. حاول أن يقفز بالداخل لكنه لم يستطع. كان قصيرا. قلت له: ساعدني، لأحاول. ونجحت. لا أعرف كيف. من أين أتتني القوة لذلك. لابد أن معجزة حصلت. فأنا لما قلت له: (ساعدني لأحاول) لم تكن قد ارتسمت في ذهني أبدا صورتي، وأنا أعتلي السور، واقفز بالداخل.
جمعت عددا كبيرا من الزجاجات الفارغة. وكنت أناولها له من بين قضبان السور الحديدية. كنا فرحين جدا بهذه الغنيمة، حتي خرج علينا واحد من سكان المنطقة، وهددني بمسدسه إن لم أخرج الآن. أعطيته ظهري هازئا به، وأكملت جمع الزجاجات الفارغة، كانت أغلبها زجاجات بيرة، ومياه غازية. إلا أن صاحبي قال لي: تعال حتي لا يقتلك هذا الكلب. وفعلا قفزت مرة أخري من فوق السور. وأنا أقفز قطع بنطالي، وجرحت. وحملنا زجاجاتنا، وتوجهنا للميدان.
وفي الطريق قابني صحفي من أسوشيتد برس، أجري معي حوارا مطولا. قلت له فيه: لن نخرج من الميدان. ليس أمامنا أو وراءنا شيئا نخسره. لقد سقط المئات. عدد شهدائنا تجاوز الخمسمائة حتي الآن. كان يبدو منبهرا.. كان يتكلم بعربية مكسرة.
في الوقت الذي توقف فيه اطلاق الرصاص، جاءنا عدد كبير جدا من المتظاهرين. قابلناهم بالتهليل والفرح الشديد. بعضنا بكي من التأثر، كانوا يعانقوننا. يشدون علي أيدينا لصمودنا حتي هذا الوقت من النهار.
وكانت الأخبار تتوالي أن الثورة مشتعلة في كل الميادين، والمحافظات. وأن عشرات الآلاف منذ الصباح حول مداخل الميدان، يحاولون الدخول إلينا، لكنهم يصدون بعنف، وهمجية، من قوات الجيش والشرطة التي تحكم حصارها تماما حول الميدان.
كانت الساعة تشير إلي الرابعة تقريبا عندما دخلت الطائرات المعركة. وأخذت تصب رصاصها من فوقنا، وتقنص. اشتد الضرب، وأصبح أكثر عنفا من ذي قبل.
أخذوا يتقدمون من جميع الجهات. واقتربوا من منصة الميدان، والمستشفي الميداني. كانت الأخبار تتوالي علينا كالصوعق. وكان القتلي يسقطون منا بالعشرات. تخبطنا. عرفنا ان القوات الخاصة اقتحمت البناية التي كنت بها. طلبوا من الجميع الخروج، وأيديهم خلف رؤسهم وأطلقوا عليهم الرصاص. كل من كان في البناية قتل. كانت البناية شوكة في حلقهم. عائقا منعهم من التقدم طوال النهار.
كنت في شارع سيبويه المصري. كان هذا هو الممر الآمن للخروج، من هذه الناحية. وكان الشارع ممتلئا عن آخره بالجرحي، والمنتظرين لذويهم. كنت أحاول الاتصال بوالدي. الذي رد علي بعد معاناة. أخبرني أنه محصور داخل دورات المياه. طلبت منه الخروج ليأت إلي فأنا كنت قريبا منه. لكنه أخبرني أن كل من يخرج يضرب بالرصاص. ورأيت أنس البلتاجي، خارجا يسند أمه، وهي شبه منهارة من البكاء. لقد قتلوا ابنتها. قنصت أسماء.
وفقدنا الاتصال ببعضنا. حتي أني ظننت أني فقدته أبدا. فرحت أتفحص وجوه الجرحي والقتلي الملفوفين في بطاطينهم الغارقة في الدم. وبينما أنا أفعل، اتصل بي قال: لقد اقتحموا الميدان، وأحرقوا المنصة. وحالة اضطراب شديدة تسود الميدان. ابتعد أنت. لا أحد يعرف ما المصير هنا. لنا الله. حاولت أن أشرح له طريقا ليأت إلي، لكن الاتصال قطع مرة أخري.
الشهداء وحدهم الآن
في أمان.
مر وقت. ولم أتمكن من مهاتفته. فقمت لأعاود البحث عنه في وجوه الخارجين، الأحياء، وأحيانا القتلي. وجاءت الأخبار؛ أن نتوجه جميعا لمسجد الايمان بشارع مكرم عبيد.
وفي الطريق وأنا ذاهب لمسجد الايمان، اتصل بي. قال لي: نحن متجهون ناحية المنصة. فشرحت له كيف سيسير. وأخبرته أني سأقابله.
وفعلا ذهبت إليه، وتقابلنا أمام بوابة جامعة الأزهر- بنات. وكان معه آخرون، وذهبنا للبيت.
أخذنا نتلقي اتصالات من كل معارفنا. ونسأل عن من قتل، وجرح. كل دقيقة يأتينا خبر عن شهيد أو جريح..
افكر..
لماذا بقيت أنا؟
أمن أجل أن أكتب ما رأيت؟
أم من أجل أن تعذبني
الصور؟
سأبحث لي عن ميتة بعد
أن أفرغ من جولة
الكتابة.
Published on February 13, 2014 13:59
مؤلمة جدا، فهي مأساة سيخلدها التاريخ لتكون وصمة عار عليهم !!
- سأجيبك على سؤالك !!
بقيت لحكمة من الله ، بقيت لتنقل لنا صورة ، ما كانت لتصل لي ، لو انك كنت مع من " ارتاحوا ورحلوا " .
كن كما انت ، ثابتا ومدافعا عن حقك !
لا تتخاذل ولا تستسلم ،، أملنا فيكم