“معرفة الله والوجع”

إن هذا الانحطاط الشائن في تفكير الناس ومشاعرهم كلما أدركتهم حمى الحرب هو، في نظري، الهول الأكبر والأفظع في كل حرب، حامية أو باردة، يخوضها نسان ضد إنسان. فالغلبة في جميع حروب الناس منذ أن استوطنوا الأرض، ومنذ أن عرفوا الحرب، ما كانت يوماً لأمة ضد أمة، أو لمعسكر ضد معسكر، أو لمذهب ضد مذهب. بل للنظام الكوني الذي لا يطيق أي عصيان له أو خروج عليه. ولذلك يبلو الناس بالوجع كلما حادوا عنه واتخذوا لأنفسهم نظاماً غيره. فكأنه بالوجع يؤدبهم ويقول لهم:
“إني أريد لكم أن تعرفوني. لأن من عرفني أحبني. ومن أحبني طاوعني. ومن طاوعني كانت له الحرية والحياة. ومن جهلني أبغضني. ومن أبغضني عاندني. ومن عاندني كان حلف العبودية والموت.


وأنا ما سلحتكم بأجسادكم العجيبة إلا لتكون السياج لما هو أعجب منها بكثير. وهو العقل والخيال والوجدان والإرادة. فهذه هي العدة التي بها تعرفونني. فإن أنتم انصرفتم إلى العناية بالسياج فوق عنايتكم بما هو ضمن السياج سددتم عليكم أبواب المعرفة، وحكمتم على أنفسكم بالجهل والعذاب.
وها أنتم يشغلكم جوع البطن أكثر مما يشغلكم جوع العقل. ويلهيكم خصب الأصلاب والأرحام عن عقم الخيال، وعري البدن عن عري الوجدان، وصلابة الساعد عن ميوعة الإرادة. ثم ها أنتم تتخاصمون وتتقاتلون على ما بذلته لكم في الأرض من وسائل تقومون بها أود أجسادكم. فيتخم منكم قوم ويجوع قوم. ويبطر القليل ويذل الكثير. وأنا ما بذلت الذي بذلته إلا ليكون عوناً للجميع على التقرب مني والاهتداء إلي. أما خصامكم عليه فمن شأنه أن يقصيكم عني لأنه حرب علي. وهي حرب لن يكتب لكم فيها غير الانسحاق والانكسار والموت.
تتقاتلون على حبة من القمح، وعلى قطرة من النفط، وعلى حفنة من الرمل. وبقتالكم تحطمون المفاتيح التي تحملها إليكم حبة القمح، وقطرة النفط، وحفنة الرمل إلى السر الذي هو سري، والميزان الذي هو ميزاني. وهكذا تطبقون أيديكم على ما تحسبونه كسباً عظيماً. وإذا تفتحونها تجدونها أفرغ من الفراغ. فتمضون والخيبة ملء أفكاركم، والألم ينهش قلوبكم نهشاً. ثم لا تلبثون أن تعودوا إلى الحرب لتتذوقوا آلاماً جديدة، وخيبات فوق خيباتكم.
ما بمثل هذه الوسائل تدرك المعرفة – معرفتي. فأنا من عرفني – ولن يعرفني – من في قلبه ظلم وجشع وحقد وبغض؛ ومن في فكره صلف وغطرسة وادعاء؛ ومن وجدانه بميزانين – واحد له وواحد لقريبه؛ ومن إرادته لا تنشط إلا للبطش بالغير.
| ميخائيل نعيمة | روسيا في لبنان |
Filed under: من كتاب Tagged: ميخائيل نعيمة
1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on December 24, 2013 21:06
Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by زاهي (new)

زاهي رستم علياء wrote: "المشكلة أن هذه المعاني لا يدركها إلا المفكرون من أمثال نعيمة، أو من نالت منهم الحرب وقد خسروا فيها الكثير هم وخصومهم."

هذا أنا
معلمي ميخائيل نعيمة
ونالت مني كل الحروب الباردة وغير الباردة


back to top