تشارلز سيميك: ذبابة في الحساء. ترجمة: إيمان مرسال
_1_ قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد تشرّد كثيرٌ من الناس في هذا القرن: أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة،
سيكون مستحيلاً لي أن أدّعي وضعاً متميّزاً كضحية، أنا أو أي شخصٍ آخر- إذا أردتُ الصدق. خاصةً أن ما حدث لي منذ خمسين سنة
يحدث لآخرين اليوم. رواندا، البوسنة، أفغانستان، كوسوفو، والأكراد المهانون بصورة لا تنتهي- وهكذا يستمر الحال. قبل خمسين سنة
كانت الفاشية والشيوعية، الآن هناك القومية والأصولية الدينية مما يجعل الحياة لا تطاق في أماكن كثيرة. في الآونة الأخيرة، على سبيل
المثال، كنت أترجم قصائد من سراييفو لأنطولوجيا شعرية واجه محرّروها صعوبات كبيرة في العثور على الشاعرة التي كتبتها.
لقد اختفت. هي لم تكن مغمورة، كان لديها الكثير من الأصدقاء، لكن يبدو أن لا أحد يعرف ما حدث لها في فوضى الحرب. "مشردون" الوثائقية القديمة أوجيوشاً يُحارب بعضها البعض، قرى ومُدناً تتصاعد منها النيران والدخان، لا يخطر ببالك الناس المتكدسون في الأقبية.
لقد دفع السيد البريء والسيدة البريئة وأسرتاهما ثمناً باهظاً في هذا القرن لمجرد وجودهم هناك. مدانون تاريخياً _ كما كان يحب
الماركسيون أن يقولوا _ ربما انتموا إلى طبقة خاطئة، جماعة عرقية خاطئة، دين خاطىء _ إلى آخره_ هم كانوا وما زالوا تذكيراً غير
سار بكل أخطاء اليوتوبيات الفلسفية والقومية. لقد جاءوا بخِرقهم البالية ومناظرهم التعسة ويأسهم، جاؤا زرافات ووحدانا من الشرق، هاربين من الشر بدون أية فكرة عمّا ينتظرهم. لم يكن لدى أحد في أوربا ما يكفيه ليأكل، وهنا جاء اللاجئون المتضورون جوعاً، مئات الألوف منهم في قطار
ات، مخيّمات، وسجون، يغمسون خبزاً يابساً في حساء مائي، يبحثون عن قمل في رؤوس أطفالهم، ويندبون بمختلف اللغات مصيرهم المروّع.
أسرتي، مثل أسر أخرى عديدة، تمكنت من أن ترى العالم مجاناً، والفضل يعود لحروب هتلر وسيطرة ستالين على أوربا الشرقية. نحن لم نكن متعاونين مع الألمان ولا كنا من المنتمين إلى الطبقة الأرستقراطية، كما لم نكن بأي معنى من المنفيين السياسيين. عديمو الأهمية كُنا، لم نقرر شيئا لأنفسنا. كل شيء رتبه قادة العالم في وقتها. كالكثير من النازحين لم يكن لدينا طموح يتعدى حدود مدينتنا بلجراد. كنا على ما يُرام مع ذلك. اتفاقيات عُقدت حول مجالات النفوذ، حدود أعيد ترسيمها، وما يسمى بالستار الحديديّYugoslav passport issued June 18, 1953 for Simic (top) and his brotherأتذكر الوقوف في طوابير لا نهاية لها أمام مقر البوليس في باريس من أجل استلام أو تجديد تصريح الإقامة. يبدو ذلك وكأنه كل ما كنا نقوم به عندما كنا نعيش هناك. ننتظر نهاراً كاملاً فقط لنكتشف أن القوانين قد تغيّرت منذ زيارتنا الماضية، أنهم الآن يطلبون، على سبيل المثال، شيئاً على قدر من العبث مثل وثيقة زواج والديّ أمي أو شهادة تخرّجها من المدرسة، هذا على الرغم من أنها في طريقها للحصول على شهادة فرنسية لأنها أنهت دراستها العليا في باريس. وبينما كنا نقف هناك نتأمل في استحالة ما يطلبونه منا، كنا نستمع إلى شخص أمام الشباك المجاور يحاول أن يقول في فرنسية ضعيفة كيف احترق بيتهم، كيف غادروا مهرولين بحقيبة واحدة صغيرة، وهلم جرا، إلى أن يهز الضابط كتفيه ويشرع في إعلامهم أنه إذا لم تُقدّم الوثائق فوراً فسيتم إلغاء تصريح الإقامة.
هكذا، ما الذي كنا نفعله؟ حسنٌ، عندما يكون الجو لطيفاً كنا نذهب لنجلس على مقعد شارع نشاهد الباريسيين المحظوظين وهم يتنزهون، يحملون البقالة، يدفعون عربات أطفالهم، يُمشّون كلابهم، وحتى يُصفّرون. في بعض الأحيان يقف أمامنا اثنان ليتعانقا، بينما نحن نلعن الفرنسيين وحظنا التعس. في النهاية نُجرجر أقدامنا بتثاقل إلى غرفتنا الصغيرة بالفندق ونكتب رسائل للأهل. بالطبع، لا يصل البريد بسرعة. كُنا نُجَن كل يوم ولمدة أسابيع في انتظار البوسطجي الذي لم يكن يتحمّل رؤيتنا لأننا كنّا نضايقه، مع ذلك، وبشكل ما، كانت الوثائق تصل، بفضل قريب ما من بعيد. ولا بد من ترجمتها بعد ذلك على يد مترجم مُعتمد، يكون عادة غير قادر على التفرقة بين رأس وذيل طيّات الورقة ذات الخمسين عاماً من مدرسة في مقاطعة في البلقان أو من دفتر تسجيل كنيسة. في كل الأحوال، كنا نعود إلى الطابور الطويل فقط لنكتشف أن هذه الوثائق لم تعد مهمة، ولكن شيئاً آخر أصبح مطلوباً. في كل مكتب لجوازات سفر، في كل قسم بوليس، في كل قنصلية، يوجد مكتب وخلفه موظف حذر سيء المزاج يشتبه في أننا ندعي غير حقيقتنا. لا أحد يحب اللاجئين. الوضع المبهم لأن تُسمّى "مُشرّداً" جعل الأمر أكثر سوءاً. المسئولون الذين يقابلوننا لا يعرفون من أين أتينا ولماذا، ولكن هذا لم يمنعهم من إصدار حكمهم علينا. قد يجلب لك قدراً من التعاطف أن تكون مطروداً بسبب النازية، أما أن تُغادر بلدك بسبب الشيوعية فهذا ما يصعب قبوله. إذا كان المسئولون يساريين، فسيقولون لنا بفظاظة أننا تُعساء ناكرون للجميل، أننا تركنا خلفنا أكثر المجتمعات تقدماً وعدالة على وجه الأرض. الآخرون حسبونا مجرد رعاع بشهادات مزيفة وماضٍ مشبوه. حتى الدُمى المبتسمة خلف فتارين المحلات في شارع فيكتور هيجو الأنيق عاملتنا وكأننا هناك لنسرق شيئاً. في الحقيقة كان الأمر بسيطاً للغاية: إما أننا كنا سنحصل على موطيء قدم هنا أو في مكان آخر، أو سنعود إلى مخيم للاجئين، أو، الأسوأ، إلى "التجسيد الكامل لشوق الانسان العميق للعدالة والسعادة" كما اعتاد العالم الشيوعي أن يوصف في بعض الجهات. الهجرة، المنفى، أن تكون بلا جذور وأن تصبح منبوذاً، ربما يكون ذلك أكثر الطرق المبتكرة لاقناع الفرد بالطبيعة الاعتباطيّة لوجوده أو وجودها. لسنا في حاجة إلى طبيب نفسيّ أو مُرشد روحيّ طالما أن كل من نقابلهم يسألوننا من أنتم بمجرد أن نفتح أفواهنا ويسمعون اللكنة . الحقيقة هي أننا لم يكن عندنا أجوبة واضحة. بعد ترجرجنا في القطارات المخيفة وفوق الشاحنات والسفن التجارية المهلهلة، أصبحنا لغزاً حتى لأنفسنا. في البداية، كان ذلك صعباً علينا ولكن بمرور الوقت بدأنا نتعوّد. بدأنا نتذوق هذا الوضع ونستمتع به. أن تكون لا أحد بدا لي شخصياً أكثر إثارة من أن تكون شخصاً ما. الشوارع كانت مليئة بأولئك الأشخاص المهمين وهم يصنعون أجواء الثقة حولهم. نصف الوقت كنت أحسدهم، نصف الوقت كنت أنظر إليهم في شفقة. لقد كنت أعرف شيئاً لم يعرفوه، شيئاً من الصعب معرفته إذا لم يركلك التاريخ بقوة في مؤخرتك: كيف يبدو الأفراد غير ضروريين وعديمي الأهمية ضمن أي صورة كبيرة! كيف أن هؤلاء القُساة لا يفهمون احتمال أن يكون ذلك هو مصيرهم أيضاً.
2- عندي صورة لوالدي وهو يلبس بدلة سوداء و يحمل خنزيراً صغيراً تحت إبطه. إنه في مركز الصورة وبجانبه امرأتان جميلتان في فساتين سهرة قصيرة وضحكة جميلة في عيونهما السواداء. هو أيضاً يضحك. فم الخنزير مفتوح ولكن لا يبدو أنه يضحك. إنه حفل رأس السنة. السنة هي 1928 ويبدو أنهم في أحد الملاهى الليليّة. عند منتصف الليل أُطفئت الأنوار وتم الإفراج عن الخنزير. أثناء الهرج والمرج قبض والدي على الخنزير المتألم. أصبح ملكه. بعد تشجيع الناس، أخذ حبلاً من النادل وربط الخنزير برجل الطاولة. زار والدي والمرأتان عدداً من الأماكن الأخرى في تلك الليلة. وذهب معهم الخنزير وهو مربوط بالحبل. لقد أجبروه على شرب الشمبانيا معهم وعلى لبس قبعة الحفلات. بعد سنوات عديدة سيسميه والدي "الخنزير المسكين". عند الفجر كان والدي وحده مع الخنزير يشربان في بار متواضع بالقرب من محطة السكة الحديد. في الطاولة بجانبهما كان هناك كاهن سكران يكلّل عروسين. رفع الشوكة والسكين في وضع صليب ليبارك الزوجيْن. بعد ذلك أهداهما والدي الخنزير كهدية لزواجهما. الخنزير المسكين. لكن هذه ليست نهاية القصة. ففي 1948، عندما كان والدي في طريقه إلى أمريكا ونحن نتضور جوعاً في بلجراد، اعتدنا أن نقايض ممتلكاتنا بالطعام. بإمكانك أن تحصل على دجاجة مقابل حذاء رجالي بحال جيد. الساعات والفضيات ومزهريّات الكريستال وأطباق الصيني الفخمة تم مقايضتها بلحم ودهن الخنزير والسجق وأشياء من هذا القبيل. في إحدى المرّات، طلب غجريٌّ قبعة والدي الرسمية. لم تكن على مقاسه. مقابل هذه القبعة التي غطت عينيه عندما جرّبها، ناولنا بطة حية. بعد ذلك بأسابيع جاء أخوه ليرانا. بدا ثريّاً. سنّة أمامية من الذهب، ساعتان، واحدة في كل يد. الآخر، كما يبدو، كان قد انتبه لبذلة سهرة سوداء عندنا. في الواقع كنا نترك هؤلاء الناس يتجولون بين الغرف يقيّمون البضائع. يتصرفون كأنه بيتهم، يفتحون الأدراج، ينظرون في الخزانات. يعرفون أننا لن نعترض. كنّا جوعى. على أي حال، أحضرت أمي بذلة سهرة 1926. كان باستطاعتنا أن نرى فوراً كيف وقع الرجل في غرامها. عرض علينا في مقابلها أولاً دجاجة ثم دجاجتيْن. لسبب ما أصبحت أمي عنيدة. الأعياد على الأبواب. لقد أرادت خنزيراً رضيعاً. الغجريّ أصبح غاضباً، أو مثّل أنه غاضب. الخنزير أكثر مما ينبغي. لكن أمي لم تستسلم. عندما تركب رأسها فهي تساوم بضراوة. بعد ذلك بسنوات في دوفر نيوهامشر، راقبتها وهي توصل بائع أثاث إلى شفا الجنون. عرض عليها أن تأخذ الكنبة مجاناً فقط ليتخلّص منها. الغجريّ كان أكثر تشدّداً. غادرنا. بعدها بأيام عاد ليُلقي نظرةً أخرى. وقف يحدّق في البذلة عند أمي كأنه يريد أن يتخلّص منّا في نفس الوقت. نظر ونظرنا. في النهاية، تنفّس الصعداء كرجلٍ يتخذ قراراً صعباً ولا رجعة فيه. حصلنا على الخنزير في اليوم التالي. كان حيّاً ويشبه إلى حد كبير الخنزير في الصورة.
3- في البدء ... الراديو. كان على طاولة بجانب سريري. كان له زر تحكّم يُضيء، ثم تظهر أسماء المحطات. ولم يكن باستطاعتي القراءة بعد فكنتُ أسأل الآخرين أن يقرأوها لي. هناك أوسلو، لشبونة، موسكو، برلين، بودابست، مونت كارلو، وغيرها الكثير. تضع السهم الأحمر موازياً للاسم، فتنبثق لغة غريبة وموسيقى غير مألوفة. في العاشرة، تتوقف المحطات عن البث. الحرب مستمرة. هذا العام هو 1943. لقد أمضيت ليالي طفولتي مع هذا الراديو، إنني أُرجع الأرق الذي صاحبني طوال حياتي لسِحره. لم يكن ممكناً أن أبعد يديّ عنه. حتى بعد أن تتوقف المحطات عن البث. استمرُّ في تحريك زرّ التحكّم وأدرس الضوضاء المختلفة. مرة سمعت صفارات شفرة مورس. فكرت أن هناك جواسيس. أحياناً كنت ألتقط محطة بعيدة خافتة ويكون عليّ أن أضع أذني على خشونة الغطاء التي تغطي مركز الصوت. أحياناً كانت تندلع موسيقى رقص أو تكون اللغة جذابة جداً فأستمع إليها مدة طويلة، وأشعر أنني على وشك أن أفهمها. كل ذلك كان ممنوعاً منعاً باتاً. كان من المفروض أن أكون نائماً. أفكر في ذلك الآن، ربما كنت خائفاً من الوحدة في تلك الغرفة الكبيرة. الحرب مستمرة. البلاد محتلة. أشياء فظيعة حدثت في الليل. كان هناك حظر تجول. أحدهم كان متأخراً. شخصٌ آخر في الغرفة المجاورة يمشي جيئة وذهاباً. ستائر من الورق الأسود معلقة على الشبابيك. كان شيئاً مرعباً أن تنظر من خلالها إلى الشارع _ الشارع الخالي المظلم. أتخيل نفسي وأنا أمشي على أطراف أصابعي ويدٌ على الستارة، أريد أن أنظر ولكني خائف من انعكاس الضوء الخافت للراديو على جدار غرفة النوم. والدي متأخر والثلج يغطي السطوح في الخارج. في 6 إبريل 1941، كان عمري ثلاث سنوات، ضربت قنبلة في الخامسة صباحاً المبنى المقابل من الشارع مما أدى إلى اشتعال النار فيه. بلجراد التي وُلدتُ فيها، لديها فرادة غير مؤكّدة فقد قصفها النازيون في عام 1941، والحلفاء في عام 1944، والناتو في عام 1999. عدد القتلي في ذلك اليوم من أبريل _ والذي أطلق عليه الألمان "عملية عقابية" _ يتراوح بين خمسة وسبعة عشر ألفاً، وهو أكبر عدد من القتلى المدنيين في يوم واحد خلال العشرين شهر الأولى من الحرب. كانت المدينة قد تعرضت لأربع مئة قاذفة وأكثر من مئتيّ طائرة مقاتلة في يوم أحد الشعانين هل كان العالم حقاً رماديّاً وقتها؟ في ذكرياتي المبكرة كان العالم دائماً في أواخر الخريف. الجنود رماديون، وهكذا كان الناس. الألمان يقفون في الزاوية. نحن نمرّ بجانبهم. "لا تنظر إليهم"، تهمس أمي. نظرت إليهم على أي حال، وواحد منهم ابتسم. لسبب ما أخافني ذلك. في ليلة جاء الجستابو لاعتقال والدي. كانوا يفتشون في كل مكان محدثين ضجة كبيرة. كان والدي قد ارتدى ملابسه بالفعل. كان يقول شيئاً، ربما كان ينكّت. تلك كانت طريقته. مهما كان الوضع قاتماً، كان يجد شيئاً مضحكاً ليقوله. بعد سنوات عديدة، محاطاً بالأطباء والممرضات بعد تعرضه لأزمة قلبية خطيرة، أجاب على سؤالهم "كيف تشعر الآن يا سيدي؟" بـ "أن طلب بيتزا وبيرة". ظن الأطباء أنه تعرض لتلف في المخ. كان عليّ أن أشرح لهم أن هذا سلوك طبيعي بالنسبة له. على الأرجح أنني عدت للنوم بعد أن أخذوا والدي. على كل حال لم يحدث شيءٌ في تلك المرة. أفرجوا عنه. لم يكن ذنبه أن أخاه الأصغر سرق شاحنة من الجيش الألماني ليأخذ صديقته في نزهة. الألمان كانوا مندهشين، تقريباً مذهولين من الجرأة. أرسلوه للعمل في ألمانيا. لقد قاموا بالمحاولة، ولكنه تسلّل من بين أصابعهم. وفّر لنا زمن الحرب ملاهي للرياضة وزحاليق وبيوتاً خشبية وحصوناً ومتاهات يمكن العثور عليها في ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقى من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء! ولد صغير سقط على رأسه ولم يعُد أبداً لما كان عليه. أمهاتنا حرّمن علينا الاقتراب من الدمار، هدّدننا، حاولن أن يشرحن المخاطر الكثيرة التي تنتظرنا، مع ذلك كنا نذهب. جالسون بسعادة بين أطلال غرفة طعام شخصٍ ما بالدور الثالث، يأتينا من الشارع تحتنا صياح واحدة من أمهاتنا وهي تشير إلينا بينما ابنها يهرول إلى أسفل مجاهداً في تذكر أين كان يضع قدميه أثناء الصعود. كنا نلعب جنوداً، استمرت الحرب. نزلت القنابل. ولعبنا جنوداً. أطلقنا النار على بعضنا البعض طوال النهار. طاخ طخ _ طيخ. سقطنا قتلى على الرصيف. ركضنا بين الزحام مقلدين صوت الطائرات المقاتلة وهي تغطس وتقب. ثم أصبحنا حاملات قذائف. أسقطنا أشياء من الشباك أو البلكونة على الناس في الشارع. الجاذبية الأرضية هي صديقة القنبلة، أتذكر قراءتي مرة في دليل للجيش. القنابل إما تُحمل تحت الجناح أو توضع في مقصورة خاصة داخل الطائرة. بالنسبة لنا، كان علينا فقط أن نفرد أذرعتنا، نزيد من سرعة المواتير، وندور كمروحة هوائية ونحن نحمل جسماً في أيدينا حتى يتم التخلص من حمولتنا. أحد أصدقائي كان عنده نظارات جيش واقية، وكان يسمح لنا باستعمالها أحياناً. لقد كانت تجعل قصف الشارع تحتنا أكثر واقعية في عيوننا. صوت الطيخ _ طاخ يخرج طبيعيّاً من جنس الذكور. من النادر أن تأتي هذه الضوضاء من فتاة بالشكل الصحيح. ألقينا الحصى على العابرين تحتنا، الطوب على القطط والكلاب الضالة، مدّعين أننا نسقط قنابل أمريكية على النازيين. بعد خمسين عاماً ما زلت أذكر المتعة المحرّمة والخبث في القيام بذلك. الآن حيث تتوفّر ألعاب الفيديو يُمكن للواحد أن يتمثّل الناتو قاصفاً يوغسلافيا، الأطفال يناقشون بدراية القنابل مسترشدين بالليزر وكاميرات التليفزيون. أظن أن فكرتنا عن المعنى الحقيقي لقصف بناية كانت أكثر وضوحاً، مع ذلك لم نتوقّف. كُنّا بلا عقل مثلنا مثل جنرالات اليوم وهم يضغطون الأزرار ويتابعون شاشة الكمبيوتر منتظرين بحماس نتيجة ما قاموا به.
بدأ البريطانيون والأمريكيون قصف بلجراد يوم أحد الفصح، 16 أبريل 1944. الرواية الرسمية الصادرة عن القوات الجوية الأمريكية تتحدث عن قاذفات ثقيلة "تستهدف قصف لوفتواف في 1972 قابلت أحد الرجال الذين قصفوني في 1944. كنت قد قمت بأول رحلة لبلجراد بعد عشرين عاماً تقريباً. بمجرد عودتي إلى الولايات المتحدة، ذهبت إلى تجمّع أدبي في سان فرانسيسكو حيث قابلت بالصدفة الشاعر ريتشارد هيوجو في مطعم. تحدّثنا، سألني كيف قضيت الصيف، أخبرته أنني عدت للتو من بلجراد. قال: "آي نعم، بإمكاني أن أرى هذه المدينة جيداً" دون أن يعرف خلفيتي، انطلق يرسم على مفرش المائدة، بقطع الخبز وبقع النبيذ، موقع المبنى الرئيسي لمكتب البريد، الكباري على نهريّ الدانوب والسافا، وبعض المعالم الأخرى الهامة. دون أية فكرة عن معنى ذلك، مفترضاً طوال الوقت أنه زار مرة المدينة كسائح، سألته كم من الوقت قضى في بلجراد. أجابني: "لم أزرها أبداً، أنا فقط قصفتها عدة مرات" بذهول من المفاجأة، اندفعت قائلاً لقد كنتُ هناك وقتها وأنني أنا من كان يقوم بقصفه. أصبح منزعجاً للغاية. في الحقيقة، كان مهزوزاً بشدة. بعد أن توقف عن الاعتذار وهدأ قليلاً، سارعت أؤكد له أنني لا أحمل شيئاً ضده وسألته ما هو السبب في أنهم لم يقصفوا مقر الجُستابو ولا أي مبنى آخر حيث كان يتواجد الألمان. شرح لي هيوجو أن الغارات الجوية كانت تنطلق من إيطاليا، مستهدفة أولاً حقول النفط الرومانية، التي كانت لها أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للنازيين حيث كان يتم الدفاع عنها بضراوة. في كل غارة جويّة كانوا يفقدون طائرة أو اثنتين، ومع ذلك كله، في طريق عودتهم لإيطاليا، كان عليهم أن يتخلصوا من حمولاتهم فوق بلجراد. حسنٌ، كانوا في غاية الحذر. يطيرون على ارتفاع عالٍ ويلقون ما تبقى من الحمولات بأي طريقة ممكنة، في استباق ليعودوا إلى إيطاليا، حيث يقضون بقية اليوم على الشاطيء مع بعض الفتيات المحليات. أكدتُ لهيوجو أن ذلك بالضبط ما كنت سأفعله عن نفسي، لكنه استمر يطلب الغفران ويبرر موقفه. لقد كبر في منطقة قاسية في سياتل، في أسرة فقيرة من الطبقة العاملة. أمه، كانت مراهقة، وكان عليها أن تتخلّى عنه بمجرد ولادته. كنا لاعبيْن صغيريْن مرتبكيْن في أحداث أكبر من سيطرتنا. هو على الأقل اعترف بمسئوليته عما فعل، هذا ما لا نسمع به في حروب اليوم الخالية من الخطر حيث الموضة هي تحميل مسئولية الأخطاء على التكنولوجيا. هيوجو كان رجلاً يتمتع بالنزاهة، واحداً من أفضل الشعراء في جيله، و، قد يبدو هذا غريباً، لم يخطر ببالي أن ألومه على ما قام به. مع أني كنت على الأرجح سأبصق في وجه ذلك الغبي الذي قرر الموافقة على طلب تيتو بأن يضرب الحلفاء مدينة مليئة هي نفسها بالحلفاء يوم عيد الفصح. مع ذلك، اندهشتُ عندما كتب هيوجو قصيدة عما فعله وأهداها لي. كيف تكون الأمور معقدة إلى هذه الدرجة، كيف لا تكفي محاولاتنا لأن نقف في وجه الريبة غير المعلنة حيث لا شيء في جحيمها يمكن فهمه على الإطلاق.
رسالة إلى سيميك من بولدر
نُشرت هذه الترجمة بمجلة نزوى، سلطنة عُمان. العدد الخامس والسبعون يوليو 2013
سيكون مستحيلاً لي أن أدّعي وضعاً متميّزاً كضحية، أنا أو أي شخصٍ آخر- إذا أردتُ الصدق. خاصةً أن ما حدث لي منذ خمسين سنة
يحدث لآخرين اليوم. رواندا، البوسنة، أفغانستان، كوسوفو، والأكراد المهانون بصورة لا تنتهي- وهكذا يستمر الحال. قبل خمسين سنة
كانت الفاشية والشيوعية، الآن هناك القومية والأصولية الدينية مما يجعل الحياة لا تطاق في أماكن كثيرة. في الآونة الأخيرة، على سبيل
المثال، كنت أترجم قصائد من سراييفو لأنطولوجيا شعرية واجه محرّروها صعوبات كبيرة في العثور على الشاعرة التي كتبتها.
لقد اختفت. هي لم تكن مغمورة، كان لديها الكثير من الأصدقاء، لكن يبدو أن لا أحد يعرف ما حدث لها في فوضى الحرب. "مشردون" الوثائقية القديمة أوجيوشاً يُحارب بعضها البعض، قرى ومُدناً تتصاعد منها النيران والدخان، لا يخطر ببالك الناس المتكدسون في الأقبية.
لقد دفع السيد البريء والسيدة البريئة وأسرتاهما ثمناً باهظاً في هذا القرن لمجرد وجودهم هناك. مدانون تاريخياً _ كما كان يحب
الماركسيون أن يقولوا _ ربما انتموا إلى طبقة خاطئة، جماعة عرقية خاطئة، دين خاطىء _ إلى آخره_ هم كانوا وما زالوا تذكيراً غير
سار بكل أخطاء اليوتوبيات الفلسفية والقومية. لقد جاءوا بخِرقهم البالية ومناظرهم التعسة ويأسهم، جاؤا زرافات ووحدانا من الشرق، هاربين من الشر بدون أية فكرة عمّا ينتظرهم. لم يكن لدى أحد في أوربا ما يكفيه ليأكل، وهنا جاء اللاجئون المتضورون جوعاً، مئات الألوف منهم في قطار
ات، مخيّمات، وسجون، يغمسون خبزاً يابساً في حساء مائي، يبحثون عن قمل في رؤوس أطفالهم، ويندبون بمختلف اللغات مصيرهم المروّع.

هكذا، ما الذي كنا نفعله؟ حسنٌ، عندما يكون الجو لطيفاً كنا نذهب لنجلس على مقعد شارع نشاهد الباريسيين المحظوظين وهم يتنزهون، يحملون البقالة، يدفعون عربات أطفالهم، يُمشّون كلابهم، وحتى يُصفّرون. في بعض الأحيان يقف أمامنا اثنان ليتعانقا، بينما نحن نلعن الفرنسيين وحظنا التعس. في النهاية نُجرجر أقدامنا بتثاقل إلى غرفتنا الصغيرة بالفندق ونكتب رسائل للأهل. بالطبع، لا يصل البريد بسرعة. كُنا نُجَن كل يوم ولمدة أسابيع في انتظار البوسطجي الذي لم يكن يتحمّل رؤيتنا لأننا كنّا نضايقه، مع ذلك، وبشكل ما، كانت الوثائق تصل، بفضل قريب ما من بعيد. ولا بد من ترجمتها بعد ذلك على يد مترجم مُعتمد، يكون عادة غير قادر على التفرقة بين رأس وذيل طيّات الورقة ذات الخمسين عاماً من مدرسة في مقاطعة في البلقان أو من دفتر تسجيل كنيسة. في كل الأحوال، كنا نعود إلى الطابور الطويل فقط لنكتشف أن هذه الوثائق لم تعد مهمة، ولكن شيئاً آخر أصبح مطلوباً. في كل مكتب لجوازات سفر، في كل قسم بوليس، في كل قنصلية، يوجد مكتب وخلفه موظف حذر سيء المزاج يشتبه في أننا ندعي غير حقيقتنا. لا أحد يحب اللاجئين. الوضع المبهم لأن تُسمّى "مُشرّداً" جعل الأمر أكثر سوءاً. المسئولون الذين يقابلوننا لا يعرفون من أين أتينا ولماذا، ولكن هذا لم يمنعهم من إصدار حكمهم علينا. قد يجلب لك قدراً من التعاطف أن تكون مطروداً بسبب النازية، أما أن تُغادر بلدك بسبب الشيوعية فهذا ما يصعب قبوله. إذا كان المسئولون يساريين، فسيقولون لنا بفظاظة أننا تُعساء ناكرون للجميل، أننا تركنا خلفنا أكثر المجتمعات تقدماً وعدالة على وجه الأرض. الآخرون حسبونا مجرد رعاع بشهادات مزيفة وماضٍ مشبوه. حتى الدُمى المبتسمة خلف فتارين المحلات في شارع فيكتور هيجو الأنيق عاملتنا وكأننا هناك لنسرق شيئاً. في الحقيقة كان الأمر بسيطاً للغاية: إما أننا كنا سنحصل على موطيء قدم هنا أو في مكان آخر، أو سنعود إلى مخيم للاجئين، أو، الأسوأ، إلى "التجسيد الكامل لشوق الانسان العميق للعدالة والسعادة" كما اعتاد العالم الشيوعي أن يوصف في بعض الجهات. الهجرة، المنفى، أن تكون بلا جذور وأن تصبح منبوذاً، ربما يكون ذلك أكثر الطرق المبتكرة لاقناع الفرد بالطبيعة الاعتباطيّة لوجوده أو وجودها. لسنا في حاجة إلى طبيب نفسيّ أو مُرشد روحيّ طالما أن كل من نقابلهم يسألوننا من أنتم بمجرد أن نفتح أفواهنا ويسمعون اللكنة . الحقيقة هي أننا لم يكن عندنا أجوبة واضحة. بعد ترجرجنا في القطارات المخيفة وفوق الشاحنات والسفن التجارية المهلهلة، أصبحنا لغزاً حتى لأنفسنا. في البداية، كان ذلك صعباً علينا ولكن بمرور الوقت بدأنا نتعوّد. بدأنا نتذوق هذا الوضع ونستمتع به. أن تكون لا أحد بدا لي شخصياً أكثر إثارة من أن تكون شخصاً ما. الشوارع كانت مليئة بأولئك الأشخاص المهمين وهم يصنعون أجواء الثقة حولهم. نصف الوقت كنت أحسدهم، نصف الوقت كنت أنظر إليهم في شفقة. لقد كنت أعرف شيئاً لم يعرفوه، شيئاً من الصعب معرفته إذا لم يركلك التاريخ بقوة في مؤخرتك: كيف يبدو الأفراد غير ضروريين وعديمي الأهمية ضمن أي صورة كبيرة! كيف أن هؤلاء القُساة لا يفهمون احتمال أن يكون ذلك هو مصيرهم أيضاً.
2- عندي صورة لوالدي وهو يلبس بدلة سوداء و يحمل خنزيراً صغيراً تحت إبطه. إنه في مركز الصورة وبجانبه امرأتان جميلتان في فساتين سهرة قصيرة وضحكة جميلة في عيونهما السواداء. هو أيضاً يضحك. فم الخنزير مفتوح ولكن لا يبدو أنه يضحك. إنه حفل رأس السنة. السنة هي 1928 ويبدو أنهم في أحد الملاهى الليليّة. عند منتصف الليل أُطفئت الأنوار وتم الإفراج عن الخنزير. أثناء الهرج والمرج قبض والدي على الخنزير المتألم. أصبح ملكه. بعد تشجيع الناس، أخذ حبلاً من النادل وربط الخنزير برجل الطاولة. زار والدي والمرأتان عدداً من الأماكن الأخرى في تلك الليلة. وذهب معهم الخنزير وهو مربوط بالحبل. لقد أجبروه على شرب الشمبانيا معهم وعلى لبس قبعة الحفلات. بعد سنوات عديدة سيسميه والدي "الخنزير المسكين". عند الفجر كان والدي وحده مع الخنزير يشربان في بار متواضع بالقرب من محطة السكة الحديد. في الطاولة بجانبهما كان هناك كاهن سكران يكلّل عروسين. رفع الشوكة والسكين في وضع صليب ليبارك الزوجيْن. بعد ذلك أهداهما والدي الخنزير كهدية لزواجهما. الخنزير المسكين. لكن هذه ليست نهاية القصة. ففي 1948، عندما كان والدي في طريقه إلى أمريكا ونحن نتضور جوعاً في بلجراد، اعتدنا أن نقايض ممتلكاتنا بالطعام. بإمكانك أن تحصل على دجاجة مقابل حذاء رجالي بحال جيد. الساعات والفضيات ومزهريّات الكريستال وأطباق الصيني الفخمة تم مقايضتها بلحم ودهن الخنزير والسجق وأشياء من هذا القبيل. في إحدى المرّات، طلب غجريٌّ قبعة والدي الرسمية. لم تكن على مقاسه. مقابل هذه القبعة التي غطت عينيه عندما جرّبها، ناولنا بطة حية. بعد ذلك بأسابيع جاء أخوه ليرانا. بدا ثريّاً. سنّة أمامية من الذهب، ساعتان، واحدة في كل يد. الآخر، كما يبدو، كان قد انتبه لبذلة سهرة سوداء عندنا. في الواقع كنا نترك هؤلاء الناس يتجولون بين الغرف يقيّمون البضائع. يتصرفون كأنه بيتهم، يفتحون الأدراج، ينظرون في الخزانات. يعرفون أننا لن نعترض. كنّا جوعى. على أي حال، أحضرت أمي بذلة سهرة 1926. كان باستطاعتنا أن نرى فوراً كيف وقع الرجل في غرامها. عرض علينا في مقابلها أولاً دجاجة ثم دجاجتيْن. لسبب ما أصبحت أمي عنيدة. الأعياد على الأبواب. لقد أرادت خنزيراً رضيعاً. الغجريّ أصبح غاضباً، أو مثّل أنه غاضب. الخنزير أكثر مما ينبغي. لكن أمي لم تستسلم. عندما تركب رأسها فهي تساوم بضراوة. بعد ذلك بسنوات في دوفر نيوهامشر، راقبتها وهي توصل بائع أثاث إلى شفا الجنون. عرض عليها أن تأخذ الكنبة مجاناً فقط ليتخلّص منها. الغجريّ كان أكثر تشدّداً. غادرنا. بعدها بأيام عاد ليُلقي نظرةً أخرى. وقف يحدّق في البذلة عند أمي كأنه يريد أن يتخلّص منّا في نفس الوقت. نظر ونظرنا. في النهاية، تنفّس الصعداء كرجلٍ يتخذ قراراً صعباً ولا رجعة فيه. حصلنا على الخنزير في اليوم التالي. كان حيّاً ويشبه إلى حد كبير الخنزير في الصورة.
3- في البدء ... الراديو. كان على طاولة بجانب سريري. كان له زر تحكّم يُضيء، ثم تظهر أسماء المحطات. ولم يكن باستطاعتي القراءة بعد فكنتُ أسأل الآخرين أن يقرأوها لي. هناك أوسلو، لشبونة، موسكو، برلين، بودابست، مونت كارلو، وغيرها الكثير. تضع السهم الأحمر موازياً للاسم، فتنبثق لغة غريبة وموسيقى غير مألوفة. في العاشرة، تتوقف المحطات عن البث. الحرب مستمرة. هذا العام هو 1943. لقد أمضيت ليالي طفولتي مع هذا الراديو، إنني أُرجع الأرق الذي صاحبني طوال حياتي لسِحره. لم يكن ممكناً أن أبعد يديّ عنه. حتى بعد أن تتوقف المحطات عن البث. استمرُّ في تحريك زرّ التحكّم وأدرس الضوضاء المختلفة. مرة سمعت صفارات شفرة مورس. فكرت أن هناك جواسيس. أحياناً كنت ألتقط محطة بعيدة خافتة ويكون عليّ أن أضع أذني على خشونة الغطاء التي تغطي مركز الصوت. أحياناً كانت تندلع موسيقى رقص أو تكون اللغة جذابة جداً فأستمع إليها مدة طويلة، وأشعر أنني على وشك أن أفهمها. كل ذلك كان ممنوعاً منعاً باتاً. كان من المفروض أن أكون نائماً. أفكر في ذلك الآن، ربما كنت خائفاً من الوحدة في تلك الغرفة الكبيرة. الحرب مستمرة. البلاد محتلة. أشياء فظيعة حدثت في الليل. كان هناك حظر تجول. أحدهم كان متأخراً. شخصٌ آخر في الغرفة المجاورة يمشي جيئة وذهاباً. ستائر من الورق الأسود معلقة على الشبابيك. كان شيئاً مرعباً أن تنظر من خلالها إلى الشارع _ الشارع الخالي المظلم. أتخيل نفسي وأنا أمشي على أطراف أصابعي ويدٌ على الستارة، أريد أن أنظر ولكني خائف من انعكاس الضوء الخافت للراديو على جدار غرفة النوم. والدي متأخر والثلج يغطي السطوح في الخارج. في 6 إبريل 1941، كان عمري ثلاث سنوات، ضربت قنبلة في الخامسة صباحاً المبنى المقابل من الشارع مما أدى إلى اشتعال النار فيه. بلجراد التي وُلدتُ فيها، لديها فرادة غير مؤكّدة فقد قصفها النازيون في عام 1941، والحلفاء في عام 1944، والناتو في عام 1999. عدد القتلي في ذلك اليوم من أبريل _ والذي أطلق عليه الألمان "عملية عقابية" _ يتراوح بين خمسة وسبعة عشر ألفاً، وهو أكبر عدد من القتلى المدنيين في يوم واحد خلال العشرين شهر الأولى من الحرب. كانت المدينة قد تعرضت لأربع مئة قاذفة وأكثر من مئتيّ طائرة مقاتلة في يوم أحد الشعانين هل كان العالم حقاً رماديّاً وقتها؟ في ذكرياتي المبكرة كان العالم دائماً في أواخر الخريف. الجنود رماديون، وهكذا كان الناس. الألمان يقفون في الزاوية. نحن نمرّ بجانبهم. "لا تنظر إليهم"، تهمس أمي. نظرت إليهم على أي حال، وواحد منهم ابتسم. لسبب ما أخافني ذلك. في ليلة جاء الجستابو لاعتقال والدي. كانوا يفتشون في كل مكان محدثين ضجة كبيرة. كان والدي قد ارتدى ملابسه بالفعل. كان يقول شيئاً، ربما كان ينكّت. تلك كانت طريقته. مهما كان الوضع قاتماً، كان يجد شيئاً مضحكاً ليقوله. بعد سنوات عديدة، محاطاً بالأطباء والممرضات بعد تعرضه لأزمة قلبية خطيرة، أجاب على سؤالهم "كيف تشعر الآن يا سيدي؟" بـ "أن طلب بيتزا وبيرة". ظن الأطباء أنه تعرض لتلف في المخ. كان عليّ أن أشرح لهم أن هذا سلوك طبيعي بالنسبة له. على الأرجح أنني عدت للنوم بعد أن أخذوا والدي. على كل حال لم يحدث شيءٌ في تلك المرة. أفرجوا عنه. لم يكن ذنبه أن أخاه الأصغر سرق شاحنة من الجيش الألماني ليأخذ صديقته في نزهة. الألمان كانوا مندهشين، تقريباً مذهولين من الجرأة. أرسلوه للعمل في ألمانيا. لقد قاموا بالمحاولة، ولكنه تسلّل من بين أصابعهم. وفّر لنا زمن الحرب ملاهي للرياضة وزحاليق وبيوتاً خشبية وحصوناً ومتاهات يمكن العثور عليها في ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقى من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء! ولد صغير سقط على رأسه ولم يعُد أبداً لما كان عليه. أمهاتنا حرّمن علينا الاقتراب من الدمار، هدّدننا، حاولن أن يشرحن المخاطر الكثيرة التي تنتظرنا، مع ذلك كنا نذهب. جالسون بسعادة بين أطلال غرفة طعام شخصٍ ما بالدور الثالث، يأتينا من الشارع تحتنا صياح واحدة من أمهاتنا وهي تشير إلينا بينما ابنها يهرول إلى أسفل مجاهداً في تذكر أين كان يضع قدميه أثناء الصعود. كنا نلعب جنوداً، استمرت الحرب. نزلت القنابل. ولعبنا جنوداً. أطلقنا النار على بعضنا البعض طوال النهار. طاخ طخ _ طيخ. سقطنا قتلى على الرصيف. ركضنا بين الزحام مقلدين صوت الطائرات المقاتلة وهي تغطس وتقب. ثم أصبحنا حاملات قذائف. أسقطنا أشياء من الشباك أو البلكونة على الناس في الشارع. الجاذبية الأرضية هي صديقة القنبلة، أتذكر قراءتي مرة في دليل للجيش. القنابل إما تُحمل تحت الجناح أو توضع في مقصورة خاصة داخل الطائرة. بالنسبة لنا، كان علينا فقط أن نفرد أذرعتنا، نزيد من سرعة المواتير، وندور كمروحة هوائية ونحن نحمل جسماً في أيدينا حتى يتم التخلص من حمولتنا. أحد أصدقائي كان عنده نظارات جيش واقية، وكان يسمح لنا باستعمالها أحياناً. لقد كانت تجعل قصف الشارع تحتنا أكثر واقعية في عيوننا. صوت الطيخ _ طاخ يخرج طبيعيّاً من جنس الذكور. من النادر أن تأتي هذه الضوضاء من فتاة بالشكل الصحيح. ألقينا الحصى على العابرين تحتنا، الطوب على القطط والكلاب الضالة، مدّعين أننا نسقط قنابل أمريكية على النازيين. بعد خمسين عاماً ما زلت أذكر المتعة المحرّمة والخبث في القيام بذلك. الآن حيث تتوفّر ألعاب الفيديو يُمكن للواحد أن يتمثّل الناتو قاصفاً يوغسلافيا، الأطفال يناقشون بدراية القنابل مسترشدين بالليزر وكاميرات التليفزيون. أظن أن فكرتنا عن المعنى الحقيقي لقصف بناية كانت أكثر وضوحاً، مع ذلك لم نتوقّف. كُنّا بلا عقل مثلنا مثل جنرالات اليوم وهم يضغطون الأزرار ويتابعون شاشة الكمبيوتر منتظرين بحماس نتيجة ما قاموا به.
بدأ البريطانيون والأمريكيون قصف بلجراد يوم أحد الفصح، 16 أبريل 1944. الرواية الرسمية الصادرة عن القوات الجوية الأمريكية تتحدث عن قاذفات ثقيلة "تستهدف قصف لوفتواف في 1972 قابلت أحد الرجال الذين قصفوني في 1944. كنت قد قمت بأول رحلة لبلجراد بعد عشرين عاماً تقريباً. بمجرد عودتي إلى الولايات المتحدة، ذهبت إلى تجمّع أدبي في سان فرانسيسكو حيث قابلت بالصدفة الشاعر ريتشارد هيوجو في مطعم. تحدّثنا، سألني كيف قضيت الصيف، أخبرته أنني عدت للتو من بلجراد. قال: "آي نعم، بإمكاني أن أرى هذه المدينة جيداً" دون أن يعرف خلفيتي، انطلق يرسم على مفرش المائدة، بقطع الخبز وبقع النبيذ، موقع المبنى الرئيسي لمكتب البريد، الكباري على نهريّ الدانوب والسافا، وبعض المعالم الأخرى الهامة. دون أية فكرة عن معنى ذلك، مفترضاً طوال الوقت أنه زار مرة المدينة كسائح، سألته كم من الوقت قضى في بلجراد. أجابني: "لم أزرها أبداً، أنا فقط قصفتها عدة مرات" بذهول من المفاجأة، اندفعت قائلاً لقد كنتُ هناك وقتها وأنني أنا من كان يقوم بقصفه. أصبح منزعجاً للغاية. في الحقيقة، كان مهزوزاً بشدة. بعد أن توقف عن الاعتذار وهدأ قليلاً، سارعت أؤكد له أنني لا أحمل شيئاً ضده وسألته ما هو السبب في أنهم لم يقصفوا مقر الجُستابو ولا أي مبنى آخر حيث كان يتواجد الألمان. شرح لي هيوجو أن الغارات الجوية كانت تنطلق من إيطاليا، مستهدفة أولاً حقول النفط الرومانية، التي كانت لها أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للنازيين حيث كان يتم الدفاع عنها بضراوة. في كل غارة جويّة كانوا يفقدون طائرة أو اثنتين، ومع ذلك كله، في طريق عودتهم لإيطاليا، كان عليهم أن يتخلصوا من حمولاتهم فوق بلجراد. حسنٌ، كانوا في غاية الحذر. يطيرون على ارتفاع عالٍ ويلقون ما تبقى من الحمولات بأي طريقة ممكنة، في استباق ليعودوا إلى إيطاليا، حيث يقضون بقية اليوم على الشاطيء مع بعض الفتيات المحليات. أكدتُ لهيوجو أن ذلك بالضبط ما كنت سأفعله عن نفسي، لكنه استمر يطلب الغفران ويبرر موقفه. لقد كبر في منطقة قاسية في سياتل، في أسرة فقيرة من الطبقة العاملة. أمه، كانت مراهقة، وكان عليها أن تتخلّى عنه بمجرد ولادته. كنا لاعبيْن صغيريْن مرتبكيْن في أحداث أكبر من سيطرتنا. هو على الأقل اعترف بمسئوليته عما فعل، هذا ما لا نسمع به في حروب اليوم الخالية من الخطر حيث الموضة هي تحميل مسئولية الأخطاء على التكنولوجيا. هيوجو كان رجلاً يتمتع بالنزاهة، واحداً من أفضل الشعراء في جيله، و، قد يبدو هذا غريباً، لم يخطر ببالي أن ألومه على ما قام به. مع أني كنت على الأرجح سأبصق في وجه ذلك الغبي الذي قرر الموافقة على طلب تيتو بأن يضرب الحلفاء مدينة مليئة هي نفسها بالحلفاء يوم عيد الفصح. مع ذلك، اندهشتُ عندما كتب هيوجو قصيدة عما فعله وأهداها لي. كيف تكون الأمور معقدة إلى هذه الدرجة، كيف لا تكفي محاولاتنا لأن نقف في وجه الريبة غير المعلنة حيث لا شيء في جحيمها يمكن فهمه على الإطلاق.
رسالة إلى سيميك من بولدر

نُشرت هذه الترجمة بمجلة نزوى، سلطنة عُمان. العدد الخامس والسبعون يوليو 2013
Published on August 18, 2013 09:48
No comments have been added yet.