مسلسل عمر.. أزمة فنية
لا يزال الجدل محتدما، ويوما بعد يوم يزداد الاصطفاف بين المؤيدين والمعارضين، ويزداد أنصار هؤلاء وهؤلاء، والإشاعات بدأت تنتشر عن تراجع القناة الفلانية عن عرضه، وعن قبول تلك القناة به، وعن أن عدد من حذف القناة من جهازه (الرسيفر) وصل إلى كذا وكذا، في سباق محموم نحو الليلة الأخيرة من شعبان، حتى يتبين من المنتصر في هذا التحدي العظيم، وإذا استبعدت الصراع الخفي وراء الحملة التي تشن على المسلسل، وعلى المجيزين لتجسيد الصحابة فيه -وقد تحدثت عنه في المقال السابق- فإن عموم المصطفين يشعرون بنشوة التحدي في هذا الصراع، في وقت تغيب فيه التحديات الحقيقية.
الحديث عن مسلسل عمر، هو في جزء منه يحكي أزمة (الفن) في الخطاب الإسلامي المعاصر، يحكي أزمة تلك الأسئلة التي طرحت منذ عقود ولم تجد لها إجابات شافية، أسئلة المسرح والسينما والصورة والرواية وغيرها، المنع ليس جوابا في كل الحالات، بل هو هروب من الجواب في حالات كثيرة، ومن أبرزها الفن، لو حاولنا مثلا أن نقارن بين فتاوى المعاملات المالية وفتاوى الفنون، لوجدنا أن جرأة الفقيه في المعاملات المالية تتجاوز بكثير جرأته في أسئلة الفن، بل نجد أنه قادر في المعاملات المالية على مخالفة الفتوى المشهورة، دون أن يواجه حملة شرسة من المجتمع، وإذا حاولت
أن تقرأ في الفتاوى المالية عند اللجان الشرعية في البنوك فستجد ذلك واضحا، لكن لا أحد يتجرأ على أن يفتي بقضية بسيطة في الفن، ولو تجرأ على ذلك، لتمت مواجهته بسيل من التهم، حاول أن تتذكر كم من مرة جاء ذكر العالم الفلاني، وقالوا (إنه متساهل.. إنه يجيز الموسيقى)، فأصبحت فتواه تهمة.
هل تصور الفقيه المعاصر للفن مطابق لتصور المختصين؟! أظنه سؤالا جوهريا، وبحسب ما نقرأ من فتاوى فهناك اختلاف كبير، وربما جذري بين الاثنين، كثير من الفتاوى تحاكم الفن بوصفه جزءا من الواقع، أي أنه من واقعنا الذي نعيشه، وبالتالي يجب أن يكون حقيقيا وصادقا، بينما يرى المختصون أن الفن عالم آخر، -وأنا أقصد بالفن هنا مطلق الفن وليس السينما فقط-، هو عالم يذهب إليه الفنان، إما ليحقق ذاته، أو ليبين ممكناته، أي ليحصل على الحياة التي لم يحيها في الواقع، أو ربما ليتمرد على واقعه، أو ليقول شيئا لا يستطيع قوله بالكلام المباشر، ليس خوفا، وإنما ليس كل شيء يمكن أن يقال بشكل مباشر، وبالتالي فالخيال والأسطورة جزء لا يمكن التخلي عنه في الفن، لابد من مزج الخيال بالواقع، لابد من الرمزية، بمعنى أن الفنان لا يوجه أفكاره بشكل مباشر إلى المتلقي، وإنما يترك له حرية التأويل، يترك له حرية أن يتدخل بقصته وحياته وأفكاره في هذا العمل الفني.
هذا التصور للفن يختلف تماما عن من يتصوره بأنه هو الواقع، وبالتالي ستكون عنده مشكلة رئيسية في التمثيل مثلا، لأن التمثيل كذب، هو فعلا كذب إذا حاكمته بهذا المنظور، وأظن أنه حتى بعض من يجيز تجسيد الصحابة هو يقع في نفس الورطة، حين يعد أن (مسلسل عمر) سيجسد شخصية عمر بشكل صحيح وسليم إذا ما تقيد القائمون على العمل بالروايات الصحيحة، إن مجرد انتقاء بعض القصص وترك قصص أخرى هو تدخل في الشخصية، السيناريو الذي تمت كتابته ليس هو الحقيقة، ليس هو ما قاله عمر رضي الله عنه، ولا هو ما عاشه عمر، كاتب السيناريو يدرك ذلك، ويعلم أن هناك خيالا في الفن، لكن الآخر يراه كذبا، هنا المشكلة، وبالتالي سنلاحظ أن من يرفض المسلسل هو يرفض الفكرة بكاملها، فحتى لو لم يجسد عمر رضي الله عنه، فستبقى مشكلة الروايات، وتبقى مشكلة الموسيقى والمرأة، وكل أسئلة الفن التي لم يجب عليها، أو تم منعها جذريا، وبالتالي لن يرضى المانعون إلا بفيلم وثائقي وليس عملا دراميا.
ماذا لو كتب كاتب ما عن عمر رضي الله عنه قصة أدبية للأطفال! سنواجه المشكلة ذاتها، لأنه لن يروي لهم قصصا تاريخية، وإنما سيحوّل القصة إلى مشهد روائي أدبي، سينشئ حوارا، وينشئ خيالا، وبحسب مفهوم المانعين، سنواجه هنا مشكلة ايضا، لأنه لم يرو الحقيقة، ولكن الفنان لم يدع أنه يروي الحقيقة، وإنما هو يقوم بعمل فني، وماذا لو حاول أحدهم أن يقوم بمسرحية غنائية تاريخية مثلا! ستتكرر المشكلة أيضا، تصور الفن بأنه هو الواقع سيجعل الفن دائما في قائمة المرفوض.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
