التاريخ لا يهددنا.. والقادم أجمل
أنا من جيل أدركت فيه كبار السنّ في المجالس العائلية والعامة وفي المساجد وفي أحاديث بعد الصلاة، حين كانت الصحوة تتمدد بين الشباب في المدارس والجامعات، حين كان لهم سمت محدد ومعروف، ويحدثون الناس عن جرم المعازف وآثارها السيئة، وعقوبتها العاجلة في الدنيا والآخرة، وكانوا يحدثون النساء والفتيات اليافعات عن ضرورة الاهتمام باللباس، والتزام البيت إلا لحاجة، في ذلك الوقت كنت أسمع تعليقات كبار السنّ بأن هذا الدين ليس دين آبائنا، ولا هو ما تربينا عليه، إنه دين جديد، وكان الشباب المتديّن حديثا ينقلون لهم أقوال المشايخ والعلماء لإثبات أن ليس كل ما جاءنا من السابقين صحيحا.. كثير من كبار السنّ ومن الجيل القديم ظلّ متحفظا على هذا التدين الجديد.. لم يعجبه.. ولم يرق له.. ليس لهوى في نفسه.. ولكنه جديد.. والدين ثابت لا يتغير..
ومن حسن الحظ وجمال الحياة أن يعيش الإنسان مفارقتين.. وليست واحدة.. أدركت ظهور الدعاة الجدد من البداية.. واستمعت للاعتراض نفسه من مشايخ الصحوة، ومن كبار السنّ منهم على وجه الخصوص، أحد العلماء الأفاضل وقد توفي الآن رحمة الله عليه رحمة واسعة، اعترض في مجلس على الداعية عمرو خالد، وبالأصح هاجمه بشيء من العنف اللفظي، قلت له يا مولانا ما وجه الاحتجاج بالتحديد، أو بمعنى آخر.. ما الذي يثير حفيظتك على أطروحاته.. قال لي: بالجملة ليس هذا ما تعلمناه.. ولا ما تربينا عليه.. ليس هذا هو الإسلام الذي نعرفه.. هذا دين جديد.
نتكلم الآن عن حقبة زمنية هي أقل من نصف قرن، أقل من جيلين، ماذا لو عاد بنا الزمن خمسة قرون على الأقل، ورأينا تدين الناس، وتأملنا في تعبيرهم عن قيمهم، كم هي المفاجآت والمفارقات التي ستصدمنا، لا استطيع أن أثبت ولا أن أنفي، ولكني أستطيع الإحساس بحركة التاريخ.
بين الجيل الماضي والحاضر، بين جيل آباءنا وجيل الشباب، تحولات تستحق الانتباه، كانت المرأة تعبر عن وفائها لزوجها وحبها له باهتمامها بالبيت، والاعتناء بنظافته، كانت تصنع الطعام على أكمل وجه، تعتني بالضيوف، وتعد إكرامهم من إكرامها لزوجها، والزوج يبادلها الامتنان بهذا الاهتمام، وهو يبرز مواهبه في قدرته الشرائية، في انتقاء الخضار والفواكه، وعدم قدرة اللحام أو الراعي في سوق الغنم على غشه وخداعه، ومعرفته بأصناف الأسماك المختلفة، ومواسمها، ومناطقها الجغرافية، لم يكن اهتمامها بمظهرها الخارجي سواء في أنحاء البيت أو غرفة النوم من الصباح إلى المساء تعبيرا مهما عن الحب والاهتمام، ربما كان صنع طعام الغداء أهم بكثير، وهو مثلها أيضا، هكذا عاشوا بسعادة وانسجام، بينما اليوم لا يهتم كثير من الشباب المقبل على الزواج حديثا بقضايا المطبخ، وربما لن يكون حريصا على تأثيث المجلس في شقته الجديدة، ولذلك لن يكون مهما الاهتمام بالضيوف في السنوات الزوجية الأولى، ففي حين تتفاجأ أمه بأن الخطيبة الجميلة والأنيقة لا تعرف الفرق بين البقدونس والكزبرة، لا يبدي الابن العريس اهتماما بالفكرة كلها، لأنه لا يريد أن يعاني أزمة الذهاب إلى سوق الخضار واللحوم وإبراز مواهبه هناك.
ما أريد قوله إن قيم المجتمع ثابتة، لكن التعبير عنها يختلف من جيل إلى آخر، وفي كل تحوّل يبدي الجيل السابق انزعاجا واضحا، لأنه يشعر أن قيمه مهددة في ذاتها، ولا يدرك التحول الحاصل، لذلك دائما ما نتغنّى بالماضي، بتلك الأيام الذي كان الناس يعيشون فيها حالة النقاء وصفاء النفوس، والتواصل والتعاضد، هكذا يبدو الماضي برّاقا جميلا، لكن لا أحد يريد العودة إليه، الكل يمضي للأمام، مما يجعلنا نشك كثيرا في المسافة بين تصورنا للماضي، وبين حقيقته، لا أظن أحدا سيكون سعيدا بتغيير نظرته لتلك الأجيال.. وليس مهما ذلك.. المهم أن لا يكون تصورنا للمستقبل أنه تحول نحو الأسوأ..
أعلم أن السؤال الذي سيتردد الآن هو عن هذه النسبية التي أتحدث عنها، كأن الثبات صار شيئا محالا، المجتمعات تتحرك وتتطور، فأين الثبات؟! وهو تخوف مشروع لكنه لا وجود له، الثقافات الممتدة في التاريخ، والتي تحولت منظومتها إلى نصوص ثابتة ومركزية، لا يمكن تهديدها، ولا اجتثاثها لقد وصلنا تاريخيا إلى مرحلة الثبات والاستقرار، الثقافات الممتدة من الهند والصين والدول اللاتينية وأمريكا الشكالية وأوروبا والعالم الإسلامي بثقافاته المتنوعة العربية والتركية والفارسية والمالاوية، أصبحت ثقافات مركزية، بفعل انتشار الكتابة وسرعة الاتصال، وفي الثقافة الإسلامية وبوجود القرآن الكريم محفوظا ومصانا، ونصا مركزيا، ستبقى جوهر المنظومة القيمية ثابتا، وستجري حركة التاريخ وفق قوانينها.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
