“أيتام الجبال”: عندما نكون آباء وأمهات أنفسنا

باسم سليمان27 يوليه 2025

يقول الفيلسوف الأمريكي لويس ممفورد، بأنّ ظهور المرآة في القرن السادس عشر- كما نعرفها اليوم- مكّن الإنسان من أن يرى صورته كما يراها الآخرون، ممّا ساهم في بدء تدوين السيرذاتية، من حيث هي صورة فردية مخصوصة عن الكائن البشري وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي والطبيعي. ويقال بأنّ ظهور الرواية في القرن الثامن عشر سمح للإنسان ككائن مفرد مستقل أن يسرد تاريخه بموازاة تاريخ المجتمع الذي يعيش فيه ومتقاطعًا معه. استحضرت أفكار ممفورد مضافًا إليها معنى فنّ الرواية بعد قراءة سرد السورية نجاة عبد الصمد في روايتها (أيتام الجبال الصادرة عن منشورات ضفاف في لبنان، ومنشورات الاختلاف في الجزائر، ودار سامح في السويد لعام 2025) ليس لأنّ الرواية سيرة ذاتية للمؤلّفة، فهي لم تصرّح بذلك، وليس لأنّها وضعت اقتباسًا في مقدمتها لحنا آرنت: “إذا كانت هناك أيّة مراجعة للماضي، فهي إعادة سرد ما حدث” بل لأنّ الشخصية الرئيسية في الرواية (سبيل حسن رافع) تغيّت أن تكون الرواية سيرة ذاتية لها/ وتاريخية لجبل الدروز/ العرب، عبر ضمير المتكلّم؛ مرآتها أو لوحتها التي راحت ترسمها قطبة قطبة بدأب نملة وصبر عنكبوت، رافضة أن تكون مثل دوريان جراي  (رواية لأوسكار وايلد) الذي سُحر باللوحة الشخصية التي رسمها صديق له، فرغب أن تقع عوادي الزمن على صورته في اللوحة، بدلًا منه، فينجو هو! تتحقّق أمنيته، فيظل في ريعان شبابه، فيما الزمن يمرّ على لوحته الشخصية ولأجل ذلك خبأها عن الأعين. وعندما ولج إلى مخبأ اللوحة بعد زمن طويل، رأى صورته الشخصية التي أدهشته في صباه قد أصبح فيها عجوزًا نالت منه الحدثان، فحطم اللوحة وطعن نفسه، وفي الصباح وجد الخدم سيدهم العجوز ميتًا على الأرض، وقربه لوحة لشاب في أبهى صورة، إنّها صورة السيد وهو في ريعان الشباب. لقد رفضت سبيل أن تكون دوريان جراي آخر، أسواء في سرديتها عن نفسها أو أسرتها أو مجتمعها الدرزي خصوصًا والسوري عمومًا، لقد أخرجت أثاث البيت بعفنه وبقّه وحنيّته وذكرياته من الظلال إلى الشمس.

تبدأ سبيل استنطاق ماضيها من اللحظة التي تغادر فيها سورية إلى الاتحاد السوفيتي سابقًا بموجب منحة علمية تؤهلّها لدراسة الطب، وكأنّها باستفتاحها السرد تقول: (أبتعدُ لأراني) وهذه الجملة هي تحوير لمقولة سقراط: “تكلّم كي أراك” وها هي قد بدأت بالتكلّم لتفكّ عقدة (غورديان – عقدة من حبال لا يمكن فكّها أبدًا اُمتحن بها الإسكندر المقدوني للتأكّد من شرعية تنصيبه قائدًا، فما كان منه إلّا أنْ شطرها بسيفه إلى نصفين بدلًا من فكّها عقدة عقدة) حبلًا حبلًا رافضة ضربة الإسكندر، ومنطق المحو، وليس بالإمكان أفضل مما كان، بل هي ترى بأنّ الوقوف عند حياة كلبهم “أبو نبحة” في درب الحجل في جبل الدروز المربوط دومًا، سيساهم في إعطاء (أل) التعريف لحياتها المُنكَرة والناكرة في الوقت نفسه، فالأولى أن تفرش حياتها وحياة أسرتها، بل وأصولهم أيضًا التي تعود إلى الشوف في لبنان وجبل الشيخ، فهي ثمرة هذه الشجرة شاءت أم أبت، ولأنّ الحقيقة تحيا في التفاصيل وتموت في التعميم تمتلئ الرواية بالكثير من الحيثيات، فذاكرة الطفولة، هي الخلايا التي ستتكوّن منها الشخصية فيما بعد، وأي استبعاد سيؤدي إلى عقد أوديبية، لذلك كان فرويد يحثّ مرضاه على التداعيات الحرّة من دون رقيب ذاتي أو خارجي.

وكما قلنا سابقًا تستغل سبيل مغتربها في الاتحاد السوفيتي لإعادة قراءة ماضيها، فهي في مأمن، فلم تعد مضطّرة لخياطة شفتيها كي لا تقول ما لا يستساغ من العائلة والمجتمع. هكذا تعود عبر قفزات زمنية متواترة ومتتابعة إلى الماضي في كل فصل من الرواية، لتفكّك ما آلت إليه حالها، فهي في علاقة شائكة مع أب لا يتقن إمساك العصا من المنتصف، بين حاجات الدنيا وغايات الآخرة، فهو ذلك الطفل في الماضي البعيد الذي دفع أبوه مؤنة القمح لكي يتعلَّم التعاليم الباطنية التوحيدية للدروز غير مكترث من مجاعة قد تفتك بالعائلة. في حين عندما نجحت سبيل وأختها في البكالوريا يتعذّر الأب بعدم قدرته على تأمين تكاليف الجامعة! وللحقيقة لم يفعل ذلك بخلًا أو عوزًا وإنّما لأنّ تعاليم دينه تقول، بأنّ الأنثى لها خروجان، الأول من بيت أهلها إلى بيت زوجها والثاني إلى القبر. لقد كسرت سبيل وأختها اشتياق ومن بعدهما سلسلة الإناث اللواتي وصل عددهن للتسعة- حتى جاء (الرجوَة) أخوهم الذكر- عادات وأعراف المجتمع الدرزي الذي ينقسم إلى فئة (الأجاويد) وتحتهم يأتي الجُّهال. وفئة ثانية تدعى (الجسمانيين) التي لم تستلم عقيدتها الباطنية وفق تعاليم الإمام علي بن حمزة مؤسس الطائفة الدينية الدرزية. وفئة ثالثة تنشطر إلى الأغنياء والفقراء، هكذا كانت بنية المجتمع المحلّي الذي خاضت سبيل غماره. لقد كانت تلك الطفلة التي زرعت بنفسها حلمًا أن تتعلّم وتكتب القصص وتكون فاعلة في مجتمعها كفسحة بيضاء في معطف أسود، فالمجتمع الدرزي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كان مازال يعيش في معتزله الجبلي نتيجة أحداث سياسية ودينية معينة، فانعكس ذلك تقوقعًا غير مبرّر، لكنّه يخدم طبقة الأجاويد والأغنياء منه والسلطة التي كانت تحكم البلد آنذاك.

وأنا أقرأ عن طفولة سبيل والفقر والجوع وقلّة الحيلة وانخراط الأطفال في عمالة لصالح العائلة كرعي البقر أو الزراعة؛ تذكّرت طفولتنا في الساحل السوري، وكيف كان الأهل يقدّمون مصالح الذكور على مصالح الإناث. وكيف كان التلاميذ يأخذون كتبهم معهم في رعي المواشي إلى البرية وفلاحة الأرض، ومع ذلك كان هناك إصرار عجيب على التعلّم ووعي غريب لأهميته من أطفال لم يغادروا قراهم إلّا نادرًا.  لقد ذكرت التشابه بين أطفال السويداء والساحل السوري، كي لا يفسّر هوس سبيل بالعلم كحالة نادرة أو تبهير لسيرة فتاة نجحت من بيئة معدمة، ولأنّني عشته، وهذا الأمر لا تختلف ظروفه، في كل أنحاء سورية في ذلك الزمان.

تفكيك المثال الأعلى:

قد يكون اشتباه الأهل، بأنّ (اشتياق) البنت البكر في عائلة حسن رافع مريضة بالقلب، هو سبب الاهتمام والعناية بها من قبلهم، في حين قد أهملت البنت الثانية الشخصية الرئيس في رواية نجاة عبد الصمد، وهذا ما أيقظها مبكرًا في تأكيد أناها، فالمرآة التي تكلّم عنها ممفورد، ليست مجرد انعكاس بل مقارنة. صحيح أنّ الفتاتين كانتا كالتوأم في الحبّ والمشاركة والتضامن وحتى في أشدّ حالات الخصام، إلّا أنّ حسن اشتياق والمعاملة الخاصة لها، قابله إهمال سبيل، الفتاة غير الجميلة والتي عليها أن تكون ذكر العائلة في القيام بالأعمال، والذي أجّل قدومه إلى عاشر ولادة لأمّها بعد تسع بنات. في الحقيقة لا تميّز العقيدة الدرزية بين ذكر وأنثى، فالفقيه الدرزي (عبد الله التنوخي) يقول بالمساواة، لكن ككلّ المجتمعات تقع الأنثى في الدرجة الثانية بعد الذكر. كانت سبيل تقيم مقارنات دائمة، أسواء كان الأمر في بيتهم في (درب الحجل) أو عندما انتقلوا إلى أطراف السويداء، فالعين ترى والأذن تسمع والأفعال والعادات والأعراف تكشف عن خفايا القناعات. لماذا هناك بنات يلبسن الأساور والعقود ويكشفن عن شعرهن، في حين يلزمها والدها بالإشارب والثوب الأسود الطويل، حتى أنّ أمّها قصّت شعرها في نوبة غضب منها. لماذا كانت المعلّمة الدينية لها ولأختها تمنح امتيازات لبنات الأجاويد والأغنياء، في حين تهملها مع أنّها حفظت التعاليم السرّية قبلهم بكثير؟ وهل حقّا فئة الجسمانيين سيذهبون إلى النار، لأنّهم يعلّمون أولادهم بعد الصف الخامس؟ لقد كان مسموحًا للأطفال من ذكور وإناث أن يتعلّموا حتى الصف الخامس وبعدها يتم إخراجهم من المدرسة لسببين؛ الأول كي لا يطلعوا على العلوم الدينيوية، والسبب الثاني أنّهم خلال سنوات التعليم القليلة قد أصبحوا قادرين على قراءة وخطّ التعاليم الدينية. هذه المفارقات كانت سبيل تعيها وتكافح من أجل كسرها وترى والدها ينوس ما بين أن يكون رجل دين تقليدي كي يكسب رضا المجتمع الكهنوتي الدرزي، ومحاولته أن يتماشى مع العصر. وفي خضم هذا التجاذب الذي يعيشه والدها، أصبحت هي وأخوتها البنات ساحة المعركة، مرّة يهديهم عقودًا وأساور، ومرّة أخرى يصرّ على رفض تعليمهن. ومن جهة أخرى يهدي سبيل كتاب عن فنّ القصة، وفي المقلب الآخر يعترض على دخولها الجامعة. لم يكن هذا الأب يجيد التعبير عن الحبّ، كان يراه فعلًا، لا احتضانًا، لا قبلة على الخدّ؛ والتزامًا بالتعاليم الدينية، بينما ترغب سبيل بأن تغمرها تلك اليد المتشقّقة من كثرة الأعمال، أو تلوذ بصدره باحثة عن دفء الأبوة. كلّ تلك المفارقات صنعت من سبيل بنتًا مقدامة، قد تكون أحيانًا سادية بحقّ نفسها وغيرها، وحتى مازوخية، فهي لا تحيد عن هدفها مهما كان، حتى لو تمنّت الموت لأهلها من أجل تحقيق غايتها، وبالمقلب الآخر رغبت لو أنّها تشبه اشتياق المحبوبة من الآخرين ومن عائلتها وإنْ انتهت حياتها كأمّها.

لقد أفرجت سبيل وهي تسرد نفسها منذ وعت ذاتها كطفلة تمشي حافية تحت المطر وفي عين الشمس عن جحافل من التفاصيل، فإذا كانت الملائكة تسكن في عموم الأقوال، فالشياطين تعشّش في تفاصيلها، لذلك تمتلئ الرواية بالأحداث والقصص والخبايا، فمن تحرّش الشرطي بها إلى عشقها للشاب تميم الذي سيكون في انتظارها في روسيا، إلى كذباتها البريئة، وحتى سخريتها من المعتقدات، مضت سبيل تقلّب ألبوم صور طفولتها ومراهقتها بين متاهة وصراط مستقيم. لم تدن أباها ولا مجتمعها بالمعنى الحرفي، بل ذهبت عميقًا في التحليل، بأنّ التقاليد والأعراف البالية ليست من صلب العقيدة الدرزية، بل إنّ سماحتها واسعة وقادرة على تقبل محدثات الأزمنة، فعندما حرن أبوها كبغل رافضًا ذهابها إلى الجامعة تدخل العم نجيب ذلك المعلِّم العائد من الجزائر وأخذها إلى أحد المشايخ الكبار الذي أفتى بالسماح لها بأن تذهب إلى الجامعة، كي تعود إلى السويداء كطبيبة تعالج النساء من أمراضهن. قد نرى في فتوى الشيخ براغماتية مذهبية، لكن ألم تنتظر الكنيسة أربعة قرون حتى تعتذر من غاليليو.

على الرغم من النقد الشديد في الرواية للمجتمع الدرزي، لكنّ هذا المجتمع يشبه كلّ المجتمعات السورية في تلك الحقبة، وحسن والد سبيل يشبه آباء ذلك الزمن، وأمّها تشبه أمهات ذلك الزمن، لقد كانوا بسطاء يرون السماء قاب قوسين أو أدنى، وأنّ الدنيا دار عبور إلى آخرة هي المستقر. لقد كانوا كرماء وشرفاء وأخلاقيين، حتى وهم يرتكبون ما نراه اليوم أخطاء قاتلة أو تخلفًا أوغلظةً غير مبرّرة، ففي عصور قديمة كانت القرصنة من الأعمال الشريفة.    

أيتام الجبال:

لم تكسر سبيل مرآتها، وإنّما نظرت إلى انعكاس صورتها في عين أبيها وأمّها ومجتمعها، ورويدًا رويدًا أصبحت مرآتهم. كذلك لم تخبئ لوحتها، بل أخذت تضيف لونًا فوق لون وتمزج ما يحلو لها من الألوان. لقد نجحت سبيل في حياتها على الرغم من الصعوبات والجراح الأليمة، أمّا الحلم الذي كان يسوقها في طفولتها، فلقد أصبحت هي من تمسك بلجامه توجّهه أنّى شاءت. لقد أنهت سنوات دراستها في مدينة زاباروجيا في الاتحاد السوفيتي إبّان سقوطه وتفكّك جمهورياته. وفي لحظة تخرجّها من الجامعة كانت تحت راية أخرى، راية دولة أوكرانيا التي ولدت من جديد، كأنّ الدولة الجديدة مثل سبيل التي استقلّت وغدت كينونة مستقلة عن عائلتها يفخر والدها بها بعدما سمع بنجاحاتها وإن كان بشكل موارب، بينما كان دعاؤه عليها يوم سافرت بعدم التوفيق خلبيًا، ليس نابعًا من قلبه.                                                                                         أتى عنوان الرواية (أيتام الجبال) كاشفًا عن محنة الأجيال التي ولدت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فلقد كانوا في برزخ يجمع بين ضفتيه؛ رؤية آباء وأمهات كان تغيّر التقاليد والعادات سريعًا جدًا بالنسبة لهم، بحيث لم يستوعبوا العالم الجديد، فظلّوا حذرين نحوه وأحيانًا رافضين له. وأبناء يشدّهم العالم الجديد إليه بقوة، مع رغبة شديدة بالقطع مع الماضي. وإلى الآن ما زلنا نتخبّط بين ماضٍ يدسّ رأسه في شؤون الحاضر، وحاضر لا يعي تمامًا لحظته الفارقة، فنحن أقرب للأيتام في هذا العالم، علينا أن نكون آباء وأمهات ذواتنا، لربما نعلّم آباءنا وآمهاتنا البيولوجيين أن يكونوا أبناءً من جديد في زمن سريع التغيّر.

وكما نجحت سبيل في تحقيق أحلامها، نستطيع القول عن الروائية السورية نجاة عبد الصمد، بأنّها قد قدّمت رواية غنية ودسمة وعميقة كانت فيها أحيانًا، كمبضع الجراح تبتر ما يجب الصمت عنه بالإيماء. وأحيانًا أخرى تمرّر يدًا حانية على السرد، فيشعّ  وضوحًا.

باسم سليمان

كاتب من سورية

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/7/27/%D8%A3%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D9-%D8%B9%D9%D8%AF%D9%D8%A7-%D9%D9%D9%D9-%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%D8%A3%D9%D9%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%D9%D8%B3%D9%D8%A7خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 27, 2025 10:19
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.