سليمان عوّاد من روّاد قصيدة النثر السورية

مقالي في مجلة الأقلام العراقية 2024

عدد خاص من الأقلام عن قصيدة النثر العربية. وهو خير ما تختم به الأقلام عام 2024 .. وهو، ذاته، عامها الستون.

يقول أدونيس في قصيدة نشرها في مجلة شعر عام 1957 بأنّ: “الشعر يحرق أوراقه القديمة”؛ وكأنّنا بقوله هذا مع حركة طارق بن زياد الحداثية، عندما أشعل النار في سفنه قائلًا: “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم”. إنّ الدلالة الفكرية لهذين المقبوسين تكمن في أنّ المعنى/ الجوهر لم يعد سابقًا على الوجود، فالشعر الذي يحرق أوراقه يشبه صقر قريش في مقاربة أدونيس له؛ فعبد الرحمن الداخل ترك كل شيء خلفه في دمشق وانطلق ليصنع لحظته الوجودية المبتكرة/ الأندلس، وكأنّه طارق بن زياد آخر، لم يبق لجنوده إلّا صناعة النصر، وإمّا الموت. هذه الإرهاصات للفلسفة الوجودية التي أشار إليها أدونيس في شعره معلنًا زمن الشعر الخالق، نراها متجسّدة في فلسفة سارتر الذي نقض مقولة أسبقية الجوهر على الوجود؛ والتي كانت تطبيقًا لمقولة هيدغر بقوله، أنّ واجب الفن أن يخلق أرضه الجديدة، وقد وازاها أدونيس بالقول: “عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامضِ، زد سعة الأرض”.                                                                                                     وإذا توجّهنا إلى الناقدة الفرنسية سوزان برنار، والتي تعدّ من أوائل من نظّر لقصيدة النثر بإصدار كتابها: (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا عام 1958) نجد ثلاثة محدّدات لقصيدة النثر، وهي: (التكثيف – التوهّج – المجانية) مستحلبة من فلسفة سارتر الوجودية بالإضافة إلى الرؤى الفكرية التي تراكمت من عصر الأنوار إلى لحظة المقاربة النقدية من قبل سوزان برنار؛ حيث نفى سارتر المعنى السابق لوجود الإنسان وبالتالي أفق التوقّع الموروث: (الديني – السياسي – الفكري – الاجتماعي…) الذي كان محكومًا من المقولة التوراتية: “لا جديد تحت الشمس”. هذا الجوهر السابق لوجود الإنسان قد نقض، والإنسان الآن، هو من يبتكر آفاق توقّعه الجديدة غير المسبوقة، وكأنّه كريستوفر كولومبس في اكتشافه أمريكا، وهذا دور الشعر.    

إنّ أخص خصيصة لقصيدة النثر كانت في كسرها لأفق التوقّع؛ ومن ثم وضعها في موقع المعارضة مع الوزن (عمود – تفعيلة). إنّ هذا التضاد بين قصيدة النثر والوزن، هو الصيغة الأظهر لها في مباينتها لغيرها من أنواع شعرية (عمود – تفعيلة) وهو التطبيق الأمثل لأبستمولوجيتها، فقصيدة النثر أتت كتذوق جديد للكون نتج عن سقوط الكون البطليمسي وظهور الفرد كشخصية مستقلة عن أي أقواس سابقة لوجوده، فما من غزية بعد الآن أيًا تكن، فـالجملة الدينية والتي تجد لها صدى في كلّ الأديان:”كما في السماء كذلك على الأرض” ذهبت إلى غير رجعة، ولحقت بها كل الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.                                                                                             إنّ العري العقائدي والفكري والثقافي بأشكاله كافة، قد داهم الفرد وخاصة في القرن التاسع عشر، فأصبح مطلوبًا منه أن ينسج حياته ذاتيًا، وأن يخصف لها أوراقًا جديدة. في هذا القرن بالذات بدأت كلّ الآداب والفنون التي خرجت عن الفكر والثقافة التقليدية – إن صحّ التعبير- بالتشكّل على الأقل أوروبيًا. ومن هذا الواقع الفكري الجديد نفهم لماذا كانت (لا وزنية) قصيدة النثر تهدم مقولة الجاحظ الثاقبة، بأنّ “المعاني ملقاة على قوارع الطرقات”، وقد كان بهذا القول، قد اختصر الثقافة العالمية من جلجامش إلى عصر الأنوار الأوروبي، فلا وزنيتها، قد أدّت إلى أنّ أفق التوقّع للمقول/ الخطاب الذي كان دوماً متاحًا قد اهتزّ. ومن هنا نفهم الاعتراض الذي قيل لأبي تمام: “لمَ لا تقول ما يُفهَم؟ فأجابه: ولمَ لا تفهم ما يُقال؟”؛ مع أنّه لم يغادر الوزن قيد أنملة ولم يخرج إلى الغرابة في صوره، أمّا عدم فهمه، فقد أتى من أنّه غيّر قليلًا بأفق التوقّع الموروث. وهذا التغيير كان قد نتج عن حركة الترجمة وتطور بنيان المجتمع العباسي، ممّا سبّب في اعتراض أصحاب المعرفة المستقرّة؛ مع أنّها جهل مستمر، كما يقول النفري. و كما فعل أبو تمام ثار أبو نواس على أفق التوقّع الموروث بقوله: “تعجبين من سقمي/ صحتي هي العجب”.                                                                                                 إنّ جوهر قصيدة النثر يقوم على قراءة جديدة للكون تعارض أفق التوقّع، ففي القصيدة العمودية يكون حصان المعنى فيها ملجم بالوزن والقافية؛ أي مقدّر للمعرفة قبل أن يتلفّظ الشاعر به، كذلك مغامرته الشعرية محدّدة بميدان الصدر والعجز. وهذا لا يعني أنّ قصيدة العمود أو التفعيلة لاحقًا، كانت حبيسة التفاعيل بشكل لا مناص منه، فالشاعر الحقّ كان يوسع الميدان الذي تجري فيه قصيدته إلى حدّ ما، لكنّه في النهاية لا يستطيع تجاوز أفق التوقّع للمعنى إلى ما بعد الأكمة إلّا قليلًا.                                                                                             يشرح تزفيتان تودوروف في كتابه (شعرية النثر) طبيعة الحبكات القديمة -أفق التوقّع- في السرود الحكائية والشعرية بالقول، بأنّ تحقّق النبوءة التي تخصّ البطل وإن كانت تفضح مجريات القصة بحيث تصبح حركات البطل متوقّعة ومكشوفة لا يعتبر ضعفًا، بل من طبيعة السرود القديمة، فالبطل سيهزم التنين دومًا، كذلك الشعر، فرحلة الشاعر القديم على ناقته إلى الممدوح ستتم على الرغم من الصعاب. في الوقت الذي ظهرت فيه قصيدة النثر في أوروبا كان أفق التوقّع الكلاسيكي قد انتهى بسقوط الكون البطليمسي، وانفتح العالم على احتمالات لامتناهية، فالتاريخ يصنعه المغامر الجريء من دون نبوءة.                                                      إنّ إرهاصات خلخلة أفق التوقّع الفكري والثقافي قد بدأت في البلاد العربية مع حملة نابليون على مصر والصدمة الحضارية التي أحدثتها، وتبعها الاحتلال (الانتدابي) الأوروبي والترجمات لآداب الشعوب الأخرى بدءًا بترجمة هوميروس، على سبيل المثال، فمرحلة الإحياء والبعث التي ابتدأها محمود سامي البارودي، والتي جاءت ردًا على سطوة الثقافة الأوروبية، إلّا أنّها ظلّت كدبيب النمل على الصخر. ومن ثم جاء القرن العشرون؛ العصر الحداثي الذي بدأ يخيم على الثقافة، ممّا دفع بالمفكّرين والأدباء العرب للبحث عن أساليب جديدة تستوعب الدفق الحضاري الآتي من الغرب ومن واقعهم في الوقت نفسه. ومع بدء تلمّس السرد الجديد بالرواية الأوروبية، والشعر مع بودلير ورامبو ومالارميه وغيرهم، شعر الأديب العربي أنّ وسائله قاصرة، فهي تناسب زمنًا آخر لم يعد موجودًا، ففي الشعر كانت التفعيلة وسيلة لاستيعاب فيض المشاعر والأفكار، كما علّلت الشاعرة نازك الملائكة أسباب كتابة قصيدتها (الكوليرا). وفي المنحى ذاته استوعب شعر التفعيلة إدخال الأسطورة في شعر السياب، لكنّ شعور بعض الشعراء، بأنّ قيد التفعيلة لا يختلف كثيرًا عن قيد البيت، دفعهم مع وجود المثال المحتذى المترجم والتجارب النثرية العربية إلى شعرنة النثر وكتابة قصيدة النثر، فلا قيد، ولا حدود، ولا أفق توقّع معروف مسبقًا، وإنّما مجهول على الشاعر أن يضيئه بتجربته الخاصة.                                                                                      لاريب أنّ بدايات الشعر المنثور المتحرّر من الوزن والقافية في القصيدة العربية، كانت قد بدأت تومض مع جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم، بينما الزمن يتقدّم إلى المحطة المفصلية في قصيدة النثر العربية مع مجلة شعر، التي أصدرها يوسف الخال في شتاء عام  1957. حيث نجد العديد من الشعراء قد نشروا دواوينهم الشعرية النثرية قبل سطوع مجلة شعر وتنظيراتها؛ مثل الأردنية ثريا ملحس في ديوانها (النشيد التائه) عام 1949 والعراقي حسين مردان (صور مرعبة) 1951 والفلسطيني توفيق صايغ (30 قصيدة) 1954 وفي سورية تحديدًا كان أورخان ميسر في ديوانه (سريال) 1948 وخير الدين الأسدي (أغاني القبة) 1951 وسليمان عواد (سمرنار) 1957 وغيرهم كاسماعيل عامود وإلياس فاضل. والمقصد من ذكر هذه الدواوين بأنّ لحظة المعايشة للشعر المنثور، ولقصيدة النثر لاحقًا، أصبحت متاحة للشاعر والقارئ معًا، قبل ولادتها الشرعية التنظيرية النقدية من خلال ترجمة بعض من أفكار سوزان برنار بمجلة شعر، وتنظيرات أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال.

طغت شعرية الماغوط وتنظيرات أدونيس على جميع التجارب السورية التي كتبت قصيدة النثر بالتوازي الزمني معهما، بل إنّ بعض هذه التجارب كان أسبق زمنيًا، ومع ذلك أهملوا من الدرس النقدي لأسباب عديدة؛ لربما أحدها عدم تدفق تجربتهم بالقوة التي كانت للشاعرين المذكورين آنفًا. ومع ذلك لا بدّ من إلقاء الضوء على تجربتهم، فهي دليل على أنّ قصيدة النثر لم تكن نبتًا غريبًا في الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم حتى ظهور مجلة شعر، وأنّ الأصداء التي لقيتها مجلة شعر كانت تعود إلى أنّ الأرض الشعرية قد بدأت تزدهر بقصيدة النثر، فلم تكن الأرض خربة ومن ثم جاءت مجلة شعر، لتقول: كن فيكون! وبناء على ما سبق سنختار أحد الرواد الذين توارت تجربتهم الشعرية نتيجة الحضور القوي لأدونيس والماغوط.                                                                                              مستصغر الشّرر قد كان من سليمان عوّاد:                                                                  

“لولا سليمان عوّاد لما تعرّفت على قصيدة النثر وكتبتها” هذه الجملة التي صرّح بها الماغوط وإنْ كانت تشير إلى ريادة سليمان عوّاد في كتابة قصيدة النثر والتعريف بها – على الأقل سوريًا- إلّا أنّها تومئ في الوقت ذاته إلى أنّ اللحظة الحداثية أصبح من الممكن تذوّقها وإدراكها وتمثّلها بالنسبة للشعراء والنقّاد والمتلقين في خمسينات القرن الماضي. ويتابع الماغوط في ذكر الإرهاصات الأولى لقصيدة النثرـ بالقول بأنّ عوّاد كان يترجم الشعر الفرنسي ويطلب من أصدقائه محاكاته، حيث بدأ سليمان عوّاد بنشر قصائده النثرية في مجلة الأديب اللبنانية، أو تطبيقاته العملية للشعر المنثور منذ منتصف الأربعينات.                                                                                               

ولد الشاعر السوري سليمان عوّاد في بلدة سلميّة (1922 -1984) وهناك تلقى تعليمه للمرحلة الابتدائية، وتابع دراسته في المرحلتين الإعدادية والثانوية بين مدارس حمص وطرطوس وحماة، ثم سافر إلى لبنان ليلتحق بكلية العلوم السياسية بالجامعة اليسوعية في بيروت لمدة سنة، وبعد ذلك غادرها إلى دمشق ليعمل معيدًا في مدرسة (خرابو) للزراعة، ومن ثم عمل في دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وفصل من عمله بسبب السياسة، وأعيد إلى وزارة الإعلام إلى أن انتهت حياته الوظيفية.

أصدر عوّاد العديد من الدواوين (سمرنار عام 1957 – شتاء- أغان بوهيمية – حقول الأبدية -أغان إلى زهرة اللوتس) وديوان (الأغنية الزرقاء الأبدية) التي صدر بعد رحيله، وله ترجمات عن الشعر الفرنسي والروماني ومسرحية واحدة بعنوان: (همجستان).  

بعد هذه المقدمة يأتي السؤال، هل تنطبق المحدّدات التي وضعتها الناقدة سوزان برنار في خمسينات القرن المنصرم في كتابها عن قصيدة النثر الفرنسية على شعر سليمان عوّاد؟ وهذه المحدّدات الفنية تكمن في: التكثيف – التوهّج – المجانية، والتي شرّعتها مجلة شعر كنقاط علّام إلى جانب الخروج عن الأوزان والقوافي كقالب لقصيدة النثر مع أنّها بذاتها ثائرة على التنميط. إنّ الإجابة ستكون: نعم إلى حدّ ما؛ يقول سليمان في قصيدته صقيع: “خذْ حريتي يا شتاء/ واعطني معطفًا .. ونهرًا من نبيذ”. إنّنا نجد في هذا المقطع تكثيفًا وتوهجًا ومجانية قد نتجت من كسر أفق التوقّع، فقد أصبح الشاعر أمام مجهول لم يعتده، وهو ابن بلدة ريفية تتكرّر أزمنتها، وقد غادرها إلى مدينة دمشق التي كانت تعيش عصرنة مفادها، بأنّ لا قديم تحت شمسها. لقد أدرك عوّاد مبكرًا بأنّ الإنسان في العصر الحديث يستعبده شتاء اقتصادي وسياسي وديني، لم يبق له إلّا حريته ليقايض بها، وخاصة أنّ التطلع إلى الآمال والغايات التي وعد بها القرن العشرون، قد انتكس فيما بعد، لذلك يخاطب عوّاد هذا السيد الجديد الممثّل له بالشتاء، عارضًا مقايضة غريبة، بأن يقول له، خذْ حريتي والقِ إلي بفتات مخدر، لاستحمل سياطك أيّها السيد، هبني معطفًا لأحتمل بردك، ونبيذًا لأدفأ، وأنسى أنّني إنسان حرّ؛ مادام لن يعقبك ربيع. إنّ كلمة (شتاء) وما تحيل إليه من دلالات، ليس آخرها الشتاء النووي وكلمة (المعطف) التي تأخذنا إلى معاناة أكاكي أكاكيفيتش ومعطفه  لغوغول وكلمة (نهر) التي تومئ لهيراقليتس؛ تجسّد محدّدات سوزان برنار لقصيدة النثر.

إنّ ريادة عوّاد تكمن أيضًا في كتابته القصدية العمدية للقصيدة النثرية في خضم سطوة العمود والتفعيلة، فهو لم يتدرّج من العمود إلى التفعيلة، ومن ثم إلى النثر، بل بدأ فيها مستهديًا بقراءاته وترجماته للشعر الأجنبي، في زمن لم تكن تلك القصيدة تستند إلى دعم تنظيري ولا نقدي، وإن حدث باستحياء كما قالت مي زيادة في كتابها (الصحائف): “ما النثر إلّا شعر أفلت من أقيسة الوزن الضيقة، غير أنّه لا يكون مرضيًا إلّا إذا خضع لنواميس الإنشاء بما فيها من توازن الجمل وموسيقى الألفاظ، وسرد الأفكار بسلاسة… فالنثر إذن شعر حرّ، يتسنى لكل كاتب أن يكون شاعرًا في نثره”. هذه الإرادة لكتابة الشعر المنثور هي ما تمنح عوّاد الريادة يقول في إحدى قصائده: “صرت آلة/ صرت شيئًا من المقهى/من المنضدة/من المقعد الجلدي الأخضر… دخّنِ السكائر/ إثر الخمرة يا شاعر الضياع/ يا أخا الفقر/ يا خدين الضجر… آه الضجر/ بلابل لا مبالية/ترحل من مكان إلى آخر”.

لقد تفتحت شاعرية عواد مثله مثل الشعراء الآخرين الذين ذكرناهم أعلاه بلحظة بدأ الاستعمار التقليدي يتراجع، فقد نالت سورية استقلالها عام 1946 عن الانتداب الفرنسي. لقد وفد عواد إلى دمشق وهو ابن بلدة سلمية الريفية، حيث الفصول مازالت تتكرّر منذ الأزل مانحة طمأنينة لم يجدها عوّاد في مدينة دمشق، فتحول إلى متسكّع على أرصفتها، محاولًا أن يجد بوصلة توجهه في هذا التوهان، فكانت قصيدة النثر تعبيرًا عن حياة ما هي إلّا نثار تتقاذفه الأقدار خبط عشواء، يقول عوّاد في قصيدته أغاني القيثارة الخضراء: “القمر يشرق منذ آلاف السنين/ فكم شاهد من أناس، وخبر من حضارات/ كم خبأ في صدره، من أسرار. القمر يشرق/ دون أن يعلم شيئًا عن مبتداه، ومصيره/ كالدهر نفسه، لا يعرف من أين أتى، ولا أين ينتهي!”.

لقد كان الماغوط طوفان نوح لقصيدة النثر والذي تجلّى في ديوانه (حزن في ضوء القمر) الذي صدر عن دار محلة شعر عام 1959 وما تلاه من دواوين. وهنا لنا أن نسأل من تأثر بالآخر؛ الماغوط أم عوّاد؟ إنّ القصائد المختارة في هذا المقال، هل تشعرنا بأنّ هناك روحًا ماغوطية فيها؟ الإجابة ستأتي بالتأكيد، كما يذهب الناقد السوري مازن أكثم سليمان، فالروح الماغوطية موجودة فيها! لكن لنقل بأنّ قصائد الماغوط الأولى كان فيها من روح عوّاد، لكن الماغوط حلق بعيدًا في فضاءات قصيدة النثر، وأخذها إلى أماكن أخرى لم يكن عوّاد قادرًا عليها، فإذا كان الماغوط في لحظة ما تلميذ عوّاد، إلّا أنّه تجاوز أستاذه بأشواط بعيدة، لدرجة يصبح القول بتأثر الماغوط بعواد حديث خرافة. وفي ختام هذه الإضاءة نورد إحدى قصائد عواد

: “أنا لستُ بالصّاحي / لقد شربتُ حتّى ارتويتُ / حتّى تلاشيتُ صبابةً سديميّة / تذهبُ في غيبوبة ذاهلة / أنا لستُ بالصّاحي / لقد كرعتُ حتّى رثَّتِ الأقداحُ / آمِلاً أنْ أتخلَّصَ من عبوديّة التُّراب / ولكنِّي واخيبتاه! / لم أعثرْ إلّا على سراب / أنا لستُ بالصّاحي / لقد تجرَّعتُ حتّى أنسى وجودي / وجودي السَّكران بالشَّقاء وخيبة الآمال / لم يبقَ لي في هذا الوجود / سوى أن أُودِّعَ الحياة / غايتي أن أستحيلَ على مرِّ السِّنين / طيراً بحريّاً أبيض الجناح / يُرافقُ الملّاحينَ عبرَ البحار / أو محارةً تحتضِنُ لؤلؤةً ناصِعة / أو موجةً زرقاء / تُغنّي في أعماق المُحيط”.                                                                                                     هذا هو سليمان عوّاد الذي قال عنه رائد آخر من رواد قصيدة النثر اسماعيل عامود ابن بلدته سلمية: “من يتحدَّث عن ريادة الشعر النَّثريّ يجب أن يُدرِكَ أنَّها تعود إلى سليمان عوّاد”.

إنّ تخصيص الإضاءة على الشاعر سليمان عوّاد، بهذا المقال، لا يعني بأنّ الآخرين المغمورين لم يكن لهم دور، بل هي دعوة لإعادة قراءة اللحظة الحداثية في تاريخ أدبنا وكيفية خلقها وتلقيها وانتشارها وعدم الاكتفاء بالأسماء المشهورة، فكثيرًا ما تسند الجرة حصاة.

ملاحظة: تم الاستناد إلى مقبوسات تراثية عربية، للتأكيد من أنّ فكرة كسر أفق التوقّع المكتسب من الأعراف والتقاليد والأنماط الفكرية السائدة، كانت دومًا موجودة، ولم تأتنا كلّية من الغرب.

باسم سليمان

خاص أقلام

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 22, 2025 09:17
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.