قبل غد -٣
شهد الحبوبة،جاء الغد يا قلب ماما، وكلُّ الخوف من الخيبة نتيجة الأمل المفرط صار في مهبّ الرّيح.من كان يظن أن أسبوعاً يساوي عمراً؟ تضيع فيه الأهداف والأمنيات والمساعي، وتصبح أسمى غايةٍ النفاذ من الخسارة بكافة أشكالها.. هروب من الفقد، والألم، والوحدة.. تزداد فيه التجاعيد كما لو أنه الوقت كله، ويشيخ فيه الفؤاد كما لو أنّه جلّ تجارب الزمان.لقد صارت ملامحنا ملامح مُجرّب، مرّ عليه قطار الخطر.. صارت الأصوات تُعزف على أجسادنا فيرتجف لكل صفقة باب، وهدير سيارة مارّة في الشارع المقابل، وكل خفقة غيمة..صار سؤالك عند كل صوتٍ غير معتاد-ولو كان منخفضاً-: "هذا بوف؟".. تقصدين به صوت "جدار الصوت" الذي اخترقت به طائرات العدوان الاسرائيلي سماءنا، سماؤنا التي وَجب أن تعرفيها زرقاء ذات غيمة، مسكناً للشمس، ومحطّةً للمطر..
حبيبتي،غادرنا منزلنا مرة أخرى، بعد أن استيقظنا في الرابعة فجراً على صوت انفجار هزّ بيروت. لقد قصفوا "البسطة". من كان يظن أن العدو يجرؤ على فتح حرب على اتّساع هذه الجبهة؟ أما الآن وقد جنّ جنونه، فلم يعد أي شيء مستبعداً.ولربما يا ماما لم يكن ذلك مستبعداً منذ البداية، ولكننا نمنّي أنفسنا بالأمان حتى نستطيع "الصمود".كبيرة هي هذه الكلمة.. تساوي في الواقع "البقاء" على بساطته.كنت أشتري الورد كما أفعل في العادة، كي أجعل أيامنا "كالعادة"، أشرب المتة "كالعادة"، أطهو ونفرح ونغني "كالعادة"... وفيما نعيش كالمعتاد، كنت أحفر تفاصيل المنزل في مخيلتي وديعةً.ولمّا أزفت الساعة، بكيت. "لا أريد المغادرة.."كنت أريد أن أصمد كما فعلنا في حرب لبنان-تموز ٢٠٠٦ بقرار من والدي. لكن الأمر لم يكن سهلاً. عيناك فجراً قلبتا المعادلة.بكيت فيما أوافق على المغادرة، فيما أوضب الحقائب كما لو أنني أغادر لمئة عام، فيما نغلق باب المنزل، وفيما نبتعد..
ليلة إعلان وقف الحرب، كنا عند بيت عمتك. أنا وإياك، في مسكننا الجديد إلى أمد بعيد.حجرتنا التي سنعتاد، ونحكي قصة ما قبل النوم، ونغني، ونستيقظ كما تحبين.والدك كان في بيروت، يتابع عمله في المستشفى. وإذ ترددت الأخبار وترنحت ذهابا وإياباً بين وقف النار واستحالته، بين إعلانها عند السادسة مساء بعد اجتماع الكابينت الاسرائيلي، أو عند الثامنة بعد أن تأجل الموضوع لأمر غير معلن، أو عند العاشرة بعد أن ينطق بها المسؤول الأميركي "رفيع" المستوى... بين وقفها بشروط غريبة عن المنطق والواقع، وبين توقيتي واشنطن(العاشرة صباحاً) وبيروت (الخامسة فجراً)... بين أرواح ستزهق في الوقت الضائع بينما يتمازح مسؤولان على عتبة صالون رئاسي ما.. وبينما يقرر أشخاص مصائر شعوب منتظرة، فيما يبقى الحق حقاً، والواقع واقعاً، والقضية الأولى -غزة الأبية- وحيدة من غير نصير إلا الله... بقي والدك كي يزداد الخوف في بيروت.
بين كل الأرقام؛ عدد الشهداء، ومساحة الوطن، وعدد المفقودين، والأبنية المدمرة، وكلفة إعادة الإعمار.. بين الذكريات التي دفنت تحت الركام، وأدخنة الضربات الأخيرة... بين الصلوات التي أقامها العائدون على رفاة بيوتهم، والجنائز المؤجلة، والجثامين المودعة في غير قُراها.. بين العائدين على حافة الانتظار... الواقفين على حدود قُراهم الجنوبية، التي مُنع عليهم دخولها إلى ما بعد ستين يوماً يتمشى فيها العدو في أحيائها على عين دولةٍ وبموافقتها، أو عدمه..
صبيحةُ اليوم التالي، يا ماما، كان عرساً آخر، بنكهة الموت. كان للكثيرين خسارات أخيرة، وأثمان تدفع قبل الزغرودة.ركبت الأحمال سيارات النازحين، المنكوبين.وبدأ المشوار الطويل، مشوار العودة الذي مهما طال، لن يكون أطول من الانتظار..اختلطت الفرحة بالدمعة..أما أنت وأنا، فانتظرنا فرحتنا الكبرى؛ والدك، والمنزل الذي يصبح قصراً حين يُطلّ إليه.
دخلنا بعد أربعة أيام، كأنها دهر، بريبةٍ مقلقة. هل لن نخاف صاروخاً مجدداً؟ ماذا نفعل الآن؟ من أين نبدأ حياتنا "المعتادة"؟سؤال جديد، وكيف تكون الحياة بلا سؤال؟يطيب الكلام معك يا قلب قلبي، ولكن الوقت لا يتسع.نجيب عليه في رسالة أخرى، أو في حياة.
مامابيروت، بيتنا، ٢٨ ك١ ٢٠٢٤
حبيبتي،غادرنا منزلنا مرة أخرى، بعد أن استيقظنا في الرابعة فجراً على صوت انفجار هزّ بيروت. لقد قصفوا "البسطة". من كان يظن أن العدو يجرؤ على فتح حرب على اتّساع هذه الجبهة؟ أما الآن وقد جنّ جنونه، فلم يعد أي شيء مستبعداً.ولربما يا ماما لم يكن ذلك مستبعداً منذ البداية، ولكننا نمنّي أنفسنا بالأمان حتى نستطيع "الصمود".كبيرة هي هذه الكلمة.. تساوي في الواقع "البقاء" على بساطته.كنت أشتري الورد كما أفعل في العادة، كي أجعل أيامنا "كالعادة"، أشرب المتة "كالعادة"، أطهو ونفرح ونغني "كالعادة"... وفيما نعيش كالمعتاد، كنت أحفر تفاصيل المنزل في مخيلتي وديعةً.ولمّا أزفت الساعة، بكيت. "لا أريد المغادرة.."كنت أريد أن أصمد كما فعلنا في حرب لبنان-تموز ٢٠٠٦ بقرار من والدي. لكن الأمر لم يكن سهلاً. عيناك فجراً قلبتا المعادلة.بكيت فيما أوافق على المغادرة، فيما أوضب الحقائب كما لو أنني أغادر لمئة عام، فيما نغلق باب المنزل، وفيما نبتعد..
ليلة إعلان وقف الحرب، كنا عند بيت عمتك. أنا وإياك، في مسكننا الجديد إلى أمد بعيد.حجرتنا التي سنعتاد، ونحكي قصة ما قبل النوم، ونغني، ونستيقظ كما تحبين.والدك كان في بيروت، يتابع عمله في المستشفى. وإذ ترددت الأخبار وترنحت ذهابا وإياباً بين وقف النار واستحالته، بين إعلانها عند السادسة مساء بعد اجتماع الكابينت الاسرائيلي، أو عند الثامنة بعد أن تأجل الموضوع لأمر غير معلن، أو عند العاشرة بعد أن ينطق بها المسؤول الأميركي "رفيع" المستوى... بين وقفها بشروط غريبة عن المنطق والواقع، وبين توقيتي واشنطن(العاشرة صباحاً) وبيروت (الخامسة فجراً)... بين أرواح ستزهق في الوقت الضائع بينما يتمازح مسؤولان على عتبة صالون رئاسي ما.. وبينما يقرر أشخاص مصائر شعوب منتظرة، فيما يبقى الحق حقاً، والواقع واقعاً، والقضية الأولى -غزة الأبية- وحيدة من غير نصير إلا الله... بقي والدك كي يزداد الخوف في بيروت.
بين كل الأرقام؛ عدد الشهداء، ومساحة الوطن، وعدد المفقودين، والأبنية المدمرة، وكلفة إعادة الإعمار.. بين الذكريات التي دفنت تحت الركام، وأدخنة الضربات الأخيرة... بين الصلوات التي أقامها العائدون على رفاة بيوتهم، والجنائز المؤجلة، والجثامين المودعة في غير قُراها.. بين العائدين على حافة الانتظار... الواقفين على حدود قُراهم الجنوبية، التي مُنع عليهم دخولها إلى ما بعد ستين يوماً يتمشى فيها العدو في أحيائها على عين دولةٍ وبموافقتها، أو عدمه..
صبيحةُ اليوم التالي، يا ماما، كان عرساً آخر، بنكهة الموت. كان للكثيرين خسارات أخيرة، وأثمان تدفع قبل الزغرودة.ركبت الأحمال سيارات النازحين، المنكوبين.وبدأ المشوار الطويل، مشوار العودة الذي مهما طال، لن يكون أطول من الانتظار..اختلطت الفرحة بالدمعة..أما أنت وأنا، فانتظرنا فرحتنا الكبرى؛ والدك، والمنزل الذي يصبح قصراً حين يُطلّ إليه.
دخلنا بعد أربعة أيام، كأنها دهر، بريبةٍ مقلقة. هل لن نخاف صاروخاً مجدداً؟ ماذا نفعل الآن؟ من أين نبدأ حياتنا "المعتادة"؟سؤال جديد، وكيف تكون الحياة بلا سؤال؟يطيب الكلام معك يا قلب قلبي، ولكن الوقت لا يتسع.نجيب عليه في رسالة أخرى، أو في حياة.
مامابيروت، بيتنا، ٢٨ ك١ ٢٠٢٤
Published on November 28, 2024 13:41
No comments have been added yet.