قصتي: اليد اليسرى في مجلة أفكار الأردنية العدد ٤٢٥ حزيران ٢٠٢٤
اليد اليُسرى
مازال يتذكّر أول بيضة سرقها، وآخر رزمة من فئة الألف كان قد اختلسها، قبل أن يُلقى القبض عليه. لقد مرّ زمن طويل على الحادثتين، ومع ذلك ظلّت ذكريات سرقاته تتدفّق كحديث تلك النسوة في صباحهن، بينما كان يستمع إليهن من سقيفة أحد البيوت التي حاول أن يسطو عليه، حيث دفعه استيقاظ رجل البيت مبكّرًا إلى الاختباء فيها. كان يشعر بأنّ ثرثرتهن كضرب المطارق على رأسه الفارغ من كل شيء، إلّا من فكرة الهروب التي ستسنح له، ما إن تغادر النسوة، مخلّفات وراءهن ربّة المنزل وحيدة مع طفلها الصغير. حسم أمره، لا بدّ من الهروب، فأي تأخير سيرتب عواقب كثيرة، لكنّ المرأة خرجت من البيت بعد ذهاب النسوة! فيما كان يبتعد عن مسرح جريمته، استرجع دعوات أمّه، بأن يرافقه التوفيق في كلّ أعماله! لقد فكّر بالتوبة كثيرًا، التي ستأتي يومًا كنوع من التقاعد الوظيفي، لأنّ مهنته خطرة جدًا، فالتقاعد المبكّر مسموح به؛ وخاصة، إذا ابتسم الحظّ له بسرقة معتبرة، عندها سيقدّم استقالته فورًا، ولا بدّ أن تكون توبته نهائية، وإلّا لن يكون جديرًا بدعوات أمّه، وينتهي جاحدًا لها.
قطع استرسال أفكاره، نداء أحد المساجين في المهجع، الذي يحوي عشرين سجينًا، تكاد تكون السرقة القاسم المشترك بينهم، ليخبره بأنّ إبريق الشاي قد جهز. رفع جسمه المتثاقل عن السرير المعدني، وخطا عدّة خطوات نحوه، ونطق بهدوء: شكرًا يا أبو حميد. جلس قربه وبدأ ارتشاف الشاي. أبو حميد هو من حماه ودافع عنه لحظة دخوله المهجع، قائلًا بصوت عالٍ: الذي يمسّه، يمسّني.
كان أبو حميد السجين الوحيد المحكوم عليه بارتكاب جريمة قتل، لذلك هابه الجميع، وكثيرًا ما افتعل لحظات غضبٍ أطاحتْ بأجساد سجناء صغار الحجم في الهواء، فكانت هذه المسرحيات الرادع النهائي لكلّ من يفكّر أن يتحرّش به، أو أن ينصّب نفسه معلّمًا عليه ، وفي الوقت نفسه لم يطلب الزعامة، هكذا كفى أبو حميد رفاقه بالمهجع شرّه، وهم بادلوه بالمثل.
سأله: لماذا دافعت عني؟
نظر أبو حميد إلى يد مظهر اليسرى المقطوعة من الكوع قائلاً: بسبب هذه اليد المقطوعة! أنتَ؛ أخذتَ جزاءك، وسجنك هنا، ظلم بحقّك.
أحنى مظهر رأسه، حرّك يده اليمنى، ومن ثمّ نقل نظره إلى الفراغ الذي كان من المفترض أن تملأه يده اليسرى، التي مازال يحسّ بعظامها المهشّمة وآلامها المبرّحة، ويرغب أحيانًا بحكّ باطن كفّها، لكن الأقسى هو عندما كان يداهمه شعور بأنّ أصابع يده اليسرى تحترق، فيهرع إلى دلو ماء من أوهام الخيال، يبرّدها فيه. هذه الأحاسيس والمشاعر كان الطبيب قد أخبره بأنّها سترافقه زمنًا، إذ ستمضي فترة لا بأس بها، سيحسّ فيها، بأنّ يده مازالت موجودة.
لم يكن مظهر أعسر، فهو لا يكتب بيده اليسرى، أو يأكل بها. لقد كانت مجرد يد مساعدة لليمنى التي يفعل بها كلّ شيء. اليسرى لاحقة، تابعة، مع ذلك أبعدها عن أعمال اليمنى، فكان لليد اليمنى النشل والخفّة في التقاط النقود من الجيوب والأدراج المفتوحة، والقدرة على التعامل مع الأقفال، وكأنّ لها عينًا ترى بها داخل القفل. في حين جعل اليسرى خاصة باللحظات الجميلة، كـأن يعطي نقودًا إلى أمّه، كان قد كسبها من عمله كحمّال. بشكل أو بآخر كان يجري فصلًا بين ما يكسبه بالحلال، وما يكسبه بالحرام.
القسمة التي شرّعها مظهر بين ما يكسبه من الحلال والحرام، كانت أقرب إلى تبييض الأموال، فهو يعتقد بأنّ إنفاقه على أمّه سيكسبه حسنات دعواتها، كذلك ما يعطيه إلى الشحاذين والأصدقاء، سيفعل نفس تأثير الدعوات. وكثيرًا ما رفض استرجاع ما أعطاه، وخاصة عندما تكون يده اليمنى قد أكسبته مبلغًا محترمًا.
في ظلام المهجع، يحدّق في الفراغ، يرفع البقية الباقية من يسراه، فتبدأ الأصابع بالتشكّل؛ إبهامه الذي بصم به على أوراق للحصول على البطاقة الشخصية، بنصره الذي يضع به خاتمًا فضيًّا بفصّ أزرق، الشعيرات الموجودة على ظهر كفّه، والجرح القديم نتيجة سقوطه من أعلى الحائط وهو يتدرّب على التوازن بالمشي عليه. يحرك أصابع يده اليسرى، فيستشعر ملمس النقود من فئات صغيرة كان يعطيها لأطفال حارته، بالإضافة إلى ملمس يد حبيبته.
يحدّق أكثر في ظلمة المهجع، ليرى نفسه كالفأرالذي أمسكتْ به المصيدة. الخزنة الضخمة، قد أغلقتْ بابها بسرعة خارقة، دافعة جسده إلى الخارج من غير أن تسمح له بسحب يده اليسرى.
لم يتصوّر إمكانية حدوث ذلك يومًا، ولم يره في أيّ من الأفلام التي تبتدع طرق جديدة للسرقة، والتي كان يستلهم منها الكثير؛ فأن تطبق الخزنة على يد السارق تعويضًا عن سهولة فتحها، فذلك لم يكن في حسبانه، لحظتها خرجتْ منه صرخة قاسية ارتجّ لها القصر الكبير. قُطعت يده، ويعرف الآن، بأنّ السبب كان ذلك الدرج الصغير في الخزنة الذي ما إن فتحه، حتى أطبق باب الخزنة عليه، وقطعت يده اليسرى، لا، ليس الدرج، بل الطمع! ينفض خيال يده اليسرى من أمام وجهه، محاولاً أن ينام.
****
يتمشّى مع أبي حميد في ساحة السجن؛ يدخّنان سوية. يقول مظهر لأبي حميد: مازالتْ موجودة، أحسّ بها، هذه اليد لا تريد أن تختفي.
يجيبه أبو حميد طالبًا منه الصبر، وأن يحمد ربّه، فلو كانت اليمنى هي المقطوعة، لصعبت الحياة عليه كثيرًا. يرمي عقب سيجارته، ويسحقه تحت قدمه.
– أتعرف!
– ماذا أعرف؟
يُكمل أبو حميد: لم أكن أقصد أن أقتله لكن ذلك حدث بسرعة ، كأنّ شخصًا آخر فعلها، وإلى الآن، في الليل أجده يحدّق بي، بذات النظرة، فيما كنت أدفعه ليسقط من أعلى البناء الذي كنّا نعمل على تجهيزه. شبحه يلاحقني، حتى إنّني أخاف في الليل.
يصمت مظهر قليلًا، تتردّد كلمة الشّبح في رأسه، فيتذكّر كلام الطبيب له، بأنّ إحساسه بيده المقطوعة يُسمى: مرض الشّبح.
أبو حميد: الشّبح روح هائمة، لن تستقر حتّى تنتقم، وتثأر من الذي قتل جسدها.
نزلتْ كلمات أبي حميد على سمع مظهر كالصاعقة. كان يحدّق في فراغ يده اليسرى المقطوعة من الكوع، وكأنّه وجد الجواب، لماذا لم يكن الجزاء بحقّ يده اليمنى السارقة!

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
