المال؛ هل هو سوسة الإبداع أم فراشته؟ مقالي في ضفة ثالثة
فة ثالثةإذا كان المال يلوّث كلّ شيء – كما يقولون- فلماذا نستهجن قذارته الجميلة في الفنون الإبداعية إلى هذه الدرجة؟ ولا نسترشد بمقولة الصعلوك الثائر الجميل عروة بن الورد: “والغنى ربّ غفور”! لعلنا نمسك العصا من منتصفها بين إبداع جميل وحياة كريمة. لقد قيل قديمًا بأنّ مهنة الوراقة مجلبة للفقر، فليس غريبًا أن يموت إدغار آلان بو في أحد الشوارع الباريسية مخمورًا متجمّدًا مدقع الفقر بعد أن قرّر أن يعيش من قلمه. كذلك كان حال فان جوخ الذي تباع لوحاته الآن بالمليارات في حين مات فقيرًا. لكنّ السؤال، لماذا عيب على الإبداع أن يرتبط بالمال! فمن أين تسلّلت تلك الحكمة التي تشبه السّم بالدسم؟ يقال أنّ الإبداع لا بدّ أن ينشأ من المعاناة والفقر والتشرّد حتى يكتسب (مصداقية) -نضعها بين قوسين- لأنّها كلمة صدق أريد بها باطل، أو لأنّ الكلمة لها قدسية ما، لحقتها من الوحي والأسطورة والدين، فلا يجب تلويثها بالمال؛ لكن هناك الكثير من الإبداع السيئ الذي جاء إثر المعاناة، وأيضًا الكثير من الإبداع الجيد تولّد عن توفّر المال! تشترك الكلمة والمال بأرومة واحدة منذ القديم، ومع ذلك هما ضدان، قد يظهر تضادهما الحسن أحيانًا، والبؤس أحيانًا أخرى، لكنّهما متعالقان بطريقة لا فكاك منها! ومن الفضيلة إمساك العصا من المنتصف، فلا إفراط ولا تفريط. إنّ صورة الكاتب الذي يبدع دون اعتبار للمال، هي صورة رومنسية ورثناها منذ زمن بعيد، ومازلنا نعاني من تبعاتها إلى الآن!
يقول المسرحي الفرنسي موليير (1622-1673ب.م): “الكتابة مثل الدعارة؛ في البداية تكتب من أجل حبّ الكتابة، ثم تفعل ذلك من أجل الأصدقاء، وأخيرًا تكتب من أجل المال”. لم يأت تشبيه موليير الكتابة من أجل المال بالدعارة اعتباطيًا، بل استخرجه من رحم العلاقة بين الكاتب وكلماته، فالكاتب هو مجموع كلماته؛ والعاهرة هي جسدها، وعندما يبيع الكاتب كلماته؛ فهو يسلّع جسده كالعاهرة. لا ريب أنّ موليير كان قاسيًا، لكن لنفهم قليلًا عن مقاصده، لا بدّ أن نذكر أن مؤلف مسرحية (طرطوف) التي تناول فيها النفاق الديني وأثارت غضب الكنيسة حتى أنّها طالبت بحرقه، إلّا أنّ ملك فرنسا استطاع حمايته؛ كان موليير يعتبر الكلمة مسؤولية أخلاقية، أو وفق الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي ارتباط القول بالفعل.
قبل أن ندخل في تحليل العلاقة بين الإبداع والمال، لا بدّ من التعريج قليلًا على التاريخ المقدّس للكلمة، أكانت منطوقة أم مكتوبة. لقد اُمتحن مردوخ الإله البابلي من قبل الآلهة حتى يكون جديرًا بأن يكون سيد مجمع الآلهة، بأن طرحوا ثوبًا أمامه وطلبوا منه إعدامه من الوجود بكلمة، ومن ثم إعادته إلى الوجود بكلمة وكان لهم ذلك. إنّ الحاجة لهذه القصة الأسطورية تكمن بأنّها تمنح كلمات الصلاة أو التعزيم السحري، وما شابه ذلك؛ قوة التأثير ذاتها الذي يملكها الفعل المادي، فالمؤمن إن لم يثق بأنّ كلمات صلواته ودعاءه سيكون لها تأثير إيجابي على صنمه لن ينطق بها، كذلك الشامان إن لم يكن لديه اعتقاد بأنّ كلماته لها تأثير على الطبيعة والبشر، لن يتفوّه بها. وإذا ذهبنا إلى الديانات التوحيدية نجد قدسية الكلمة حاضرة، فإنجيل يوحنا نجده يقول: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ”. وفي القرآن نجد فعالية الكلمة الإلهية: “إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”. إذن للكلمة بعد قدسي ديني وسحري، أخذ تجليات عديدة، اجتماعية وسياسية واقتصادية. وفي الآداب نجد الأسطورة اليونانية تحيل إبداعات الشعراء إلى ربّات الإلهام، وهذا ما حدا بأفلاطون، على الرغم من كرهه للشعراء، أن يعترف بأنّ بعض أشعارهم ناتجة عن الوحي الإلهي. وبذات المنحى نجد عند العرب قناعتهم بأنّ الشعراء ينطقون ما توحي به لهم جان عبقر. هذا التعالق بين الكلمة والمقدس الديني يرفض أن يكون للكلمة ارتباط بالمال، فنجد النصوص الدينية التوحيدية تحذّر الذين يتأكّلون من كلمات الدين بأنّ لهم عذاب شديد. ومادامت الكلمة لها جذرها القدسي الديني الأخلاقي، فلا يمكن إغفاله حتى بالآداب والفنون ومن هنا ولدت كراهة أن تباع الكلمة، فالشاعر ما هو إلّا وسيط يتم على لسانه إخراج كلمات الوحي من ربّات الإلهام، فلقد تحسّر الشاعر اليوناني بندار (522-443 ق.م) على تلك الأزمنة التي لم تكن ربات الإلهام تعمل كمرتزقة: “لم تكن ربّات الإلهام مرتزقة في تلك الأيام، ولم يكن يعملن مقابل أجر، ولم تكن الأغاني للبيع”. ما يتحدِّث عنه بندار، هو غياب الصدق، وابتعاد الشاعر عن الغاية الجمالية وراء المال والنقود، فالشاعر أو الفنان أصبح كالتاجر يبيع إبداعه كأي سلعة في السوق.
لقد عيب جدًا السعي وراء المال من خلال الإبداع، ويعتبر الشاعر اليوناني العظيم سيمونيدس الذي كان على زمن بندار؛ أول من اتهم ببيع كلماته، حتى وصفه المسرحي اليوناني أريستوفان بأنّه: “يبحر من أجل المال على منخل” وكثيرًا ما يشار إليه بأنّه من شرّع اغتراب الكاتب عن كلماته، فالكاتب لم يعد ما يكتب، مادامت كلماته أصبحت سلعة لا تفترق عن غيرها من السلع التي تباع بالسوق.
لقد ابتدأ سيمونيدس تلك العلاقة المشبوهة بين الإبداع والمال، لكن لنتروى قليلًا قبل أن ننجرف باتهامنا له بذلك؛ ولنعد إلى أوديسة هوميروس، ففي المشهد الذي يقرّرعوليس الذي انتصر على طروادة بخدعة الحصان، الاستماع إلى السيرينيات (حوريات البحر) اللواتي يجتذبن البحارة بغنائهن الشجي إلى الصخور الحادة على شاطئهن، ممّا يتسبّب بغرق السفن ومقتل البحارة. لقد طلب عوليس من بحارته أن يربطوه بإحكام إلى صارية سفينته ويسكبوا الشمع في أذانهم حتى لا يسمعوا غناء السرينيات السحري، فلا ينجذبوا إليهن. لقد استمع عوليس للغناء السحري للحوريات ولم يستطع أن يفكّ وثاقه ويقفز إليهن، يا للعجب، فالسرينيات كائنات إلهية لا ترد كلماتها، لكن عوليس فعل ذلك مشرعًا الباب إلى التفكير بأنّ الكلمة ليست الـــ (كن) الإلهية الآمرة الناهية، بل لا تختلف عن أي نتاج بشري أرضي آخر.
والآن نعود إلى سيمونيدس الشاعر المارق الذي اختط دربًا إلى الآن نعاني من أحكامه القاسية بالسؤال: كيف للكاتب أو الفنان أن يأخذ مقابلًا نقديًا بدلًا عن إبداعه! لقد كان في اليونان نظام للرعاية الفنية نجد أمثاله حاليًا بما يُسمى التفرّغ الأدبي والمنح والجوائز التي تمنح للكاتب مقابل إبداعه وعادة ما نتهم نظام الرعاية الفنية بالمحسوبية والوساطات والرقابة وأنّ الكاتب يبدع على قياس الجائزة التي لها أهداف كثيرة ليس أولها الإبداع الحرّ. إنّ نتاجات اليونان القديمة المعمارية والفنية والمسرحية والشعرية لم تكن لتوجد بنسبة كبيرة منها، لولا الداعمين، أسواء كانوا من كبار الكهنة أو رجال السلطة أو المال، وقد ناقش المبدعون اليونانيون، كما نفعل حاليًا، مساوئ هذا النظام وتحكّم رعاة الفن بإرادة المبدع. ألم يكتب التوحيدي كتابه (مثالب الوزيرين) الصاحب بن عبّاد وابن العميد تشهيرًا بهما عندما لم يتلق رعايتهما المالية كما توقّع منهما.
عندما أخذ سيمونيدس خطوته المتقدمة، وأعلن أنّه يريد بدلًا نقديًا عن نتاجه الإبداعي، وهو لم يكن ينطلق من فراغ، فالتزلّف الذي كان يمارسه المبدعون أمام الكهان والقادة وأصحاب المال حتى ينالوا حظوة عندهم، أصبح يهدّد المبدع ذاته بتحويله إلى عبد. أمام هذا الواقع جأر بندار بمقولته التاريخية: “اعتاد الرجال أن يكتبوا من أجل الحبّ وحده، والآن يكتبون من أجل المال” لا ريب أنّ مقولة بندار ستخدع من يقرأها ويدين سيمونديس! لكن بندار كان من أوائل المترزّقين على طاولة الرعاية منتظرًا الهدايا العينية والنقدية. لقد كان بندار يستند إلى منظومة اقتصادية قديمة قائمة على تبادل الهدايا بين الأصدقاء (الداعمين والمبدعين) وكان يرفض مبدأ سيمونيدس، لأنّه يحوّل عمل طقسي يربط الكلمة بالمقدس إلى صيرورة طبيعية نجدها في السوق، فما الذي سيصنع الحدّ بين قصيدة وكيلو من اللحمة! ولربما أجابه سيمونيدس بأنّ كلمته سلعة في السوق لكنّها صادرة عن ذات حرّة، فيما كلمتك يا بندار عبارة عن عبدٍ يباع ويشترى!
يذهب الانثروبولوجي مارسيل موس إلى أنّ النظام الاقتصادي القائم على الهدايا والرعاية، ليس بهذه الصفاوة، فهو يحمل في داخله صراعًا مريرًا على القيمة الاقتصادية والسلطة، فعندما يقدّم أحدهم هدية لشخص آخر يصبح الشخص الآخر ملزمًا بردها بشكل أفضل وأكبر؛ وكأنّه مدين يسدّد للدائن/ الراعي الدينَ مع مبلغ الفائدة؛ وهو إن لم يفعل سيسفح ماء وجهه إلى الأبد، بل حتى من الممكن أن يفقد رتبته كرجل حرّ ويعامل كعبد. إنّ الراعي وهو يهدي المبدع بدلًا عينيًا أو نقديًا مقابل إبداعه، يشتري خلوده من خلال عمل المبدع، قبل أن يتحصّل على القيمة الجمالية للعمل الإبداعي إلى جانب أنّه يحكم على المبدع أن ينصاع لرؤاه.
إنّ اقتصاد الهدايا، كما يرى جورج بطاي هو تسمية خاطئة، فالأرباح وإن لم تأخذ شكلًا نقديًا، إلّا أنّها في النهاية تغل ربحًا أكثر، ويتابع بأنّ العطاء المهيب من صاحب سلطة أو مال لشخص آخر؛ ولنأخذ المبدع هنا، يفترض منه بأن يرد بمدح لا مثيل له للمعطي الداعم، بالتأكيد لن يكون حقيقيًا.
كان سيمونيدس واعيًا في ذلك الزمن لسطوة النظام الاقتصاد النقدي، الذي بدأ بالتشكّل بدلًا من نظام الاقتصاد التبادلي، حتى أنّ المفكِّر الفرنسي (جاك بيير فرنان) أورد أحد التفاسير لعلاقة التنزيه بحق الآلهة الذي بدأ مع اليونانيين، فيما يناسب الإله من صفات، وفيما لا يناسبه، وصولًا لتخليصه من (الأين والحيث) يعود إلى النقد، بناءً على سؤال، كيف استطاعت قطعة ذهبية أن تعادل ثورًا في السوق؟ ومن هذه النقطة بدأ الفكر التجريدي والتنزيهي للآلهة! يتنبّه أحد المعلقين على سيمونيدس ويدعى (ديونيسيوس من هاليكارناسوس) بأنّ على القارئ أن يكون واعيًا بكيفة استخدام سميونيدس للكلمات، فكلمة (smikrologia) والتي تعني باليونانية: (الحساب الدقيق) في الأموال وحتى البخل بها، تحمل معان أخرى: (الاهتمام الدقيق بتفاصيل اللغة والتعبير الدقيق)، وكلمة (akribeia) والتي تعني إلى جانب الدقة في إجراء الحسابات النقدية تفيد أيضًا الدقة في استخدام الكلمات والمعاني أي البلاغة؛ والغاية من كلام ديونيسيوس تؤدّي إلى أنّ الجذور اللغوية للمال واللغة متشاكلة، فلماذا نعيب سيمونديس! ولكي نفهم أكثر هذه الرابطة بين الكلمة والمال يجب القول بما أنّ الكلمة الإلهية خالقة بالفعل والكلمة البشرية قادرة على إنجاز أفعال بالتشبّه بها، فكلمات الكاهن وصاحب السلطة والمتعاقدين على البيع أو الشراء، وحتى في الزواج والاعتراف بشيء ما؛ لها قدرة إلزامية على الناطق والمستمع، فإذا كانت الكلمة الإلهية الخالقة هي الأشياء بالفعل، فالكلمة البشرية وما تترتبه من التزامات تصبح هي الأشياء بالفعل أيضًا، ولا شيء يوضّح ذلك أكثر من النقد، فكيس من النقود يشتري/ يعادل حقلًا خلقته الآلهة. ومن هذا المنحى نستشف العلاقة التي ذكرها المفكّر بيير فرنان عن الرابط بين التجريد والتنزيه والنقد.
استطاع سيمونيدس المتهم بالبخل وحبّ المال أن لا يقع في المطب الذي وقع فيه الشاعر البريطاني ويليم بليك (1757-1827) الذي حاول أن يتحرّر من نظام الرعاية، فقد كان محاطًا بطبقة غنية وأصحاب سلطة وأصدقاء يحبونه كان من الممكن أن يدعموه في مشروعه الفنّي الرومنسي، لكنّه رفض ذلك وآثر حريته، ولم يطلب مالًا مقابل إبداعه، لكنه عاش ومات فقيرًا مدقعًا.
نظام الرعاية للمبدعين عبر التاريخ:
لم يكن المسرح أو الكتابة أو الرسم أو الموسيقى أعمالًا تنطلق من ذاتية المبدع بشكل كلّي في التاريخ القديم، فقد كان رجالات الدين والسلطة والمال هم قطب الرحى بولادتها، لأنّهم قادرون على القيام بتكاليفها. لم نكن لنعرف الملك جوديا حاكم مدينة لجش السومرية الذي حكم ما بين (2144- 2124 ق.م) لولا تماثيله المصنوعة من حجارة الديوريت القاسية وصعبة النحت. لم يذكر اسم النحات الذي قام بنحت تماثيل الملك كوديا، لكن لولا رعاية الملك، أسواء كانت عبر أوامره لأنّه ممثّل للإله على الأرض، أو لأنّه دفع التكاليف المادية لعمال المقالع الحجرية والنحاتين، لم تكن هذه التماثيل البديعة لتوجد أبدًا. إنّ الآثار العظيمة التي أتتنا من عمق التاريخ مدينة بالوجود لمن دفع تكاليف صنعها، مهما كانت الأسباب الداعية لذلك دينية أو سلطوية.
وإذا مررنا ونحن نتقدم في الزمن نحو الحاضر، سنجد أنّ أهم إبداعات الحضارة العربية الإسلامية في الزمن الأموي أو العباسي كانت برعاية الخلفاء، فالمسجد الأموي وقبة الصخرة بنيا تحت رعاية عبد الملك بن مروان، فيما النهضة الثقافية والفكرية في الزمن العباسي تجلت في بيت الحكمة على زمن المأمون حيث كان يدفع للمترجم وزن كتابه ذهبًا.
عرفت روما نهضة فنية عرفناها من خلال العديد من الشعراء كفرجيل وأوفيد وغيرهم، ولم تكن لتوجد لولا (جايوس ميسيناس) مستشار الإمبراطور الروماني أغسطس. عندما تقاعد ميسيناس من حياته السياسة جمع حوله مجموعة من الأدباء والشعراء ودفع لهم بسخاء حتى يسمى هذا العصر الذهبي للثقافة الرومانية بعصر ميسيناس. وقد سبقت اليونان روما بنظام الرعاية لما يحقّق لرجالات الدين والسلطة مكاسب كبيرة لدى جماهيرهم وخاصة أن أكثرية الفنون في تلك الأزمنة كانت ذات محتوى ديني وسلطوي.
في عصر النهضة الأوروبية وخاصة في إيطاليا تجلّى نظام الرعاية الفنية بشكل كبير، ساهمت الكنيسة بجانب كبير منه وبعض العائلات الغنية كعائلتي: دي ميديشي وآل بورجيا في فلورنسا. لعب البابا يوليوس الثاني ما بين (1503- 1515) دورًا كبيرًا فيما نعرفه من إنجازات خالدة كلوحة مدينة أثينا للرسام رافاييل المتواجدة في كنيسة القديس بطرس الذي أمر بهدمها وإعادة بنائها وكلّف الفنانين تزيين جدرانها. واستكمل مشروعه في تجديد الفاتيكان البابا ليو العاشر. عمل مايكل أنجلو تحت رعاية البابا كليمنت السابع وكلّفه برسم جداريات أسقف وحيطان كنيسة (السيستين) التي تعتبر من أبدع ما أنتجه الإنسان في فن الرسم. أمّا لوحة العشاء الأخير لدافنشي فقد أوعز إليه رسمها من قبل عائلة لودفيكو سفورزا الإيطالية. إنّ أكثر إبدعات عصر النهضة كانت تحت رعاية الكنيسة ورجال السلطة والمال والمميّز في هذا الأمر، بأنّ الفن كان وقتها طريقة آمنة لتبييض الأموال التي حصّلت من الربا الفاحش عند العوائل الفلورنسية أو بيع صكوك الغفران لتمويل نشاطات البابوات، وكأنّنا نقول لولا الفساد المادي لم نكن لنشهد تلك الإبداعات! لا تختلف اليابان في الرعاية الفنية عمّا ذكرناه، لكن نجد حالة خاصة جدًا في مسرح الكابوكي الذي بدأ عام (1586) الذي وجد تمويله من خلال الجمهور الذي كان يحضر عروضه بعيدًا عن رعاية الطبقة الغنية والإمبراطور. وفي الصين كان لأسرة (مينغ) الفضل في تطوير صناعة وفن الخزف الأبيض الحليبي اللون والأزرق الكوبالت الذي ذاع صيته عبر العالم. كان عصر الباروك الذي جاء بعد النهضة الأوروبية آخر عهد للتمويل من قبل الكنيسة للمبدعين، لذلك نجد المبدعين قد لجؤوا إلى وسائل أخرى لتمويل نشاطاتهم التي استفاد منها كل من موزارت وبتهوفن بدرجات متفاوتة إلى جانب أنّهما ذهبا إلى تمويل نشاطاتهما الفنية عن طريق النشاط التجاري. لقد لجأ موزارت لتمويل نشاطه الموسيقي إلى التمويل الجماعي من خلال تقديم مخطوطات لموسيقاه وتذاكر الحفلات الموسيقية قبل عروضه مقابل المال.
اتجه الشاعر والمترجم الإنكليزي ألكسندر بوب إلى معجبيه، حيث نجد شكرًا لهم في مقدمة ترجمته الإنكليزية لإلياذة هوميروس، حيث باعهم اشتراكات تخولهم الحصول على نسخ من الإلياذة حين صدورها وكأنّه باع كتابه مسبقًا؛ بهذه الطريقة أمّن تكليف ترجمة هوميروس. أمّا الرسّام غوستاف كوربيه فقد كان أول من أقام معرضًا فنيًا للوحاته بعيدًا عن الأكاديمية الفرنسية للفنون التي كانت تتحكّم بالتمويل وبأنماط الفن. رفضت الأكاديمية العديد من أعماله لمعرض عالمي كانت ستقيمه، فما كان منه إلّا أن استأجر أرضًا وعرض لوحاته فيها ومن بين تلك اللوحات كانت لوحة (استديو الرسام) التي ينتقد فيها نظام الرعاية الأكاديمية ويظهر التمويل الحقيقي للفن. وضع كوربيه ثلاث مجموعات من الشخصيات في لوحته؛ على اليسار توجد شخصيات تمثل كل ما اعتبره خطأ في الفن: كاهن، وتاجر، وصياد يشبه الإمبراطور نابليون الثالث بشكل مثير للريبة. ويجد الناظر إلى اللوحة رجلاً وامرأة فقيرين يتجمعان حول غيتار وسكين وقبعة على الأرض، وهي عناصر لا تزال حيّة من التقليد الأكاديمي. على يمين اللوحة، يحظى كوربيه بدعم بصري من الناقد الفنّي شامبفلوري، والشاعر تشارلز بودلير، والفيلسوف الفوضوي بيير جوزيف برودون، وبالطبع أبرز راعي لكوربيه ألفريد بروياس.
قبل أن نثني على مقاومة ألكسندر بوب لنظام الرعاية الفنية وخاصة جانبه السيئ، يجب أن نذكر أنّ القاصين في التراث العربي قد كانوا سباقين في اقتناص حريتهم الإبداعية، والذي جوبه بالكثير من النقد من رجالات الدين، لأنّهم نافسوهم على خطب ود الناس بل وأموالهم. سأل أحدهم الفقيه سفيان الثوري كما يذكر الأبشيهي (المستطرف في كل فنّ مستظرف: “من هم الغوغاء؟ قال: القصاص الذين يستأصلون أموال الناس بالكلام”. يورد ابن تيميه في كتابه (أحاديث القصاص) وكان قد أنشأه للرد على ما دبّج القصاص من أحاديث كاذبة عن الرسول تخدم أقاصيصهم، بأنّ القاص أحمد الغزالي لم يكن يقص إلّا بعد أن يستوفي ما يطلبه. وفي إحدى جلساته طلب ألف دينار، فجمع له الناس ما مقداره سبعمائة دينار، فرفض القص حتى تكتمل الألف، فما كان من امرأة إلّا أن خلعت ذهبها وأعطته إياه حتى يكتمل المبلغ. لم يكن أحمد الغزالي بدعًا، فقد ذكرت الدكتورة ليلى العبيدي في كتابها (القص والمقدس في التراث العربي والإسلامي) العديد من الأمثلة التي طالب القصاص الجمهور المستمع لهم بالأموال، وبذلك يكونوا قد خرجوا على الشرعة التي ابتدأها الأعشى بالطواف على الملوك وكبار القوم يمدحهم لأجل عطاءاتهم النقدية.
إنّ واقع الرعاية الفنية في القرن العشرين إلى زمننا الحالي، أشبه بسلة تجتمع فيها رعاية الدولة والمؤسسات المستقلّة والمنظمات الدولية والأفراد وغير ذلك، لكن بخلطة يتجاور فيها الحابل والنابل؛ وعلى المبدع أن يمشي في حقل ألغام ليضمن لعمله أن يكون حرًا معبرًا عن ذاته بخصوصيتها الفردية وأن يكون مستقلًا، فلا توجد جهة راعية – بنسبة كبيرة- إلّا ولها أجندة سياسية اجتماعية دينية اقتصادية فكرية تكمن وراء دعمها للفنون والمبدعين. وفي عالمنا العربي نذكر اللغط الكبير الذي دار حول مجلة شعر نتيجة لدعم المخابرات الأمريكية لها، مع أنّ دورها الريادي كان كبيرًا، إلّا أنّ مقولة من يدفع للعازف يسمع اللحن الذي يريد كانت تتردّد في خلفية مشهدية مجلة شعر الذي أسّسها يوسف الخال وضمّت مبدعين كثيرين كأدونيس والماغوط وبدر شاكر السياب.
لاريب أنّ ربط الإبداع بالمال يسبّب غصّة في الحلق، لكن لنعد إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية ونرى كيف استطاع المال الفاسد مع مبدعين عظام أن يدفع الثقافة البشرية إلى أعلى عليائها. ليس المال في الإبداع هو المشكلة بل المبدع، فالمبدع الحقّ سيكون المال وسيلته نحو الجمال، أمّا المبدع الفاسد سيكون الجمال وسيلته نحو المال. إنّ علاقة المال بالإبداع تشبه علاقة السّم بالترياق، فمادام المال يفسد كلّ شيء، فمن الضرورة أن يوجد الإبداع لإعادة الأشياء لنقاوتها وصفواتها وجمالها.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
