حول رواية اللالئ لعبدالله خليفة الابطال بعيدون والمكان قريب

كتب : حسن داوود
المصدر السفير
التاريخ 1983 – 3 – 19


قارئ رواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة لا يستطيع أن ينتزع الابطال من المحيط المكاني الذي يحتويهم . دائما يرى القارىء أبطال الرواية عن بعد من مسافة تفصله عنهم . فحين هم في البحر يراهم القارىء من عل. أولا يرى السفينة الهرمة، ثم يراهم على متنها نقاطا صغيرة. وحين تهب العاصفة العاتية وتحطم السفينة وترميهم في الصحراء، نراهم ضائعين في مساحات من الرمال لا تنتهي ايضا في الصحراء هم بقع صغيرة ، ويراهم القارىء من عل. وحين يتحركون أو يتكلمون أو يجري بينهم حدث فكأنما الكاميرا السينمائية هبطت من علو شاهق واقتربت من رجلين يتحاوران لكن تقف الكاميرا في مكان تحرص منه أن تظهر الرمال المترامية في خلفية الصورة .
هنا تختلف الصحراء عن تلك التي قدمها غسان كنفاني في روايته «ما تبقى لكم» (التي تأثر في كتابتها برواية الصخب والعنف لفوكنر). في غسان كنفاني الصحراء مكان لا يلبث أن يتحول إلى بقعة رمل صغيرة حين يتواجه البطل ونده الاسرائيلي. وفي لحظات الترقب الحاسم بينهما يبدو وجه الفلسطيني مستديراً وكبيراً. وجهان يتربصان أو يتحاوران لكنهما يطغيان على المكان ويلغيانه.
في رواية عبدالله خليفة لا تتسع الوجوه لتشمل محيط الكتابة كله.
تبقى دائماً اشياء في المكان ، صغيرة ، وكل ما تفعله يدل على سطوة الصحراء وطباعها حين يتنازع الابطال الهاربون، حين يقتتلون ويتحاسدون وتبلغ بينهم غرائز التملك ذروتها ، فإنما يكون ذلك دليلا على التأثير الذي تحدثه الشمس اللاهبة وفقدان الماء في الشجر.
ابطال الرواية، حين يتحركون. فكأنهم يخرجون من الصحراء طبائعها المختبئة ، يعطون للمكان بعده البشري . هم كائنات صحراوية لذلك لا تنفصل اقدامهم عن الرمل ووجوههم عن الشمس ، ولا يتنازعون إلا كمجموعة مشبعة الغرائز. مجموعة ليس في الإطار المكاني المترامي ما يدل على أثر مما أثار الاتفاق أو التآلف.
كل مشهد ترسمه الرواية كبير ومتسع البحر . الصحراء ، والأبطال لا يتعثرون بل يموتون، لا ينمو بينهم الحوار بل يشج واحدهم رأس آخر فيتدفق الدم احمر غزيراً ويبطل أي فاعلية لاحتمل كلام افعل البشر الضائعون في الصحراء متلائمة مع الاتساع الخرافي للبحر والصحراء من حولهم ولا يتم التعبير عن هذا التلاؤم بالقتل وحده ، بل بإزالة كل أشكال العلاقة الموروثة بين الرجال الضائعين .
في قلب الصحراء وفي مرحلة شديدة من عطش الرجال وضياعهم لا يعود أمر «النوخذا» ( وهو قائد سفينة صيد اللؤلؤ وصاحبها) مطاعاً، لا تعود رغباته مستجابة ، ولا تحفظ مكانته الاصلية، المستمدة اصلاً من اليابسة وليس من البحر . في قلب الصحراء والضياع، يتعرى «النوخذا» من صفاته ومرتبته ويصبح جسدا صرفا ، رجلا مثل الآخرين، ينساق معهم كواحد بينهم . في آخر الرواية، ولا يعود شيئا مختلفا عنهم .
حين يكتب عبدالله خليفة عن المكان الشاسع والقاسي، عن البحر والصحراء، عن أمكنة لم يغيرها التاريخ بل بقيت هي نفسها على مداره .
حين يكتب عبدالله خليفة عن ذلك كله فإنما يكون ينقل هذه الامكنة الى مجال الكتابة ويجعلها أدبية شرط ذلك، شرط أن يصف الكاتب سفينة عتيق خربة فيها طبائع البشر ، أن يعيش الكاتب حنيناً الى سفينة لم تعد موجودة شرط أن يحضر المكان سيدا طاغيا ، هو ان يبتعد البشر الصيادون والضائعون عن البحر والصحراء. عبدالله خليفة يتذكر زمناً وأمكنة.
بنتابه حنين إلى ما لم يعد موجوداً. إلى بشر باتوا وكأنهم من ماض سحيق بينما بعضهم ما زال حياً ويستطيع ان بسرد بالتفاصيل حكاية يعتبرها الجيل الذي أتى بعده ذكرى شديدة البعد.
يستطيع صيد اللؤلؤ في البحرين الكهل الذي ما زال حيا ، أن يتذكر وجوه الصيادين والخشب الواقعي الذي صنعت منه صارية السفينة .
ويستطيع ايضاً أن يستعيد حشرة صغيرة كانت قد ملأت عينيه وهو يحدق فيها في الصحراء المترامية . الراوي عبدالله خليفة لا يفعل ذلك. بل ينقل اشياء تلك الحياة وملامحها الى حيز الأدب . وفي الأدب ، لا يعود يظهر من المكان إلا خاصية طاغية ، ومن حركة البشر إلا ما ينبىء بالمصير. نوع خاص من الادب، او نوع خاص من الرواية تجعل المجرى الذي تنتظم فيه الأشياء والأحداث وكأنه يسير بقوة التذكر.
التذكر الذي هو خالق الأنساق لأنه يوحد بين أشياء متآلفة ، معتمداً في ذلك على الزمن الواحد الذي يخترقها معاً.
عبدالله خليفة شاعر وروائي . يظهر هذا من لغة الرواية أيضاً. حيث لا وجود للكلام السردي الذي يحاول أن يكون صورة عاكسة للحدث لا يسعى إلى أن يغير في نبرة اللغة ودلالاتها تبعاً لتدرج موضوعه بين الوطن والحوار والحدث . اللغة هي واحدة . وحين تنقل قتالا بين رجلين تاخذ الارتخاء نفسه الذي تأخذه حين يصف الراوي الجبل العالي البعيد .
اللغة كانها تحوم فوق ما يجري ولا تهبط إليه. قارئ الرواية سيبذل جهداً ، أو سيقرأ المقطع مرة ثانية حين يتبين في نهايته أنه يدور حول حدث وليس حول وصف هنا لا تجهد اللغة .
لا تتوتر أو تنبسط أو تتسارع تبعاً لنوعية الموضوع واهميته بين المواضيع الأخرى لا تكشف اللغة عن فعل القتل كأنها تكشف عن سر أو عن كنز حدثي. حين يجد الرجال علي مقتولاً فإنما يقال هذا ببساطة وفي السياق الطبيعي كان فعل القتل حدث عابر أو حلقة من حلقات الكلام .
«بدأ رجل يجلدك ماذا بقي فيك ؟ تكلم ، تكلم ، ماذا أعطاك أولئك الأوباش ؟ اهانوك ، بصقوا في وجهك ، تركوك وتبعوا آخرين . تكلم لترجع إلى أهلك حتى بلا لؤلؤة واحدة اتكلم ! سيجدونها، الان يفتشون خالداً ، هو الذي سرقها وداسك فانتقم منه…».
هذا المقطع يبدو وكأنه فاصل من مناجاة ، سيناريو من حدث متخيل ، أو استعادة لحدث ماض بصيغة التذكر. هذا ما يعتقده القارئ . لكن ، في الرواية ، هذا المقطع هو ذروة التوتر في البناء الروائي، ويعبر عن اللحظة الأكثر خطراً وتعقداً في الرواية .
القارىء يحسب غالباً أن الراوي استعمل هذه الصيغة للخروج من الحدث الذي ينتمي الى المضارع. بينما في الرواية هذه تحضر الأزمنة الثلاثة في نسيج واحد . لا يأبه الكاتب لأن يوحد الاشياء في مجرى زمني واحد . ربما لأن الحدث ليس المهم بالنسبة له، بل مصدره والمحيط الذي يولده . وهنا أيضاً نعود الى الأبطال الذين لا يشاهدون إلا عن بعد ، من عل، كأنهم في الصحراء ، نقاط حين يتبعثرون ، وخيط دقيق على رمال الصحراء المترامية ، حين يسيرون إلى الهدف الذي لا يعرفون عنه شيئاً.

إسم الكاتب حسن داوود
المصدر السفير
التاريخ 1983 – 3 – 19
الأشخاص خليفة عبدألله
الموضوع القصة العربية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 30, 2024 16:53
No comments have been added yet.