عبدالله خليفة .. كي لا يُدفن مرتين !

                 كتب : أحمد البوسطة

في الحادي والعشرين من أكتوبر 2014 خسرت الساحة الثقافية والأدبية والسياسية والصحافية، البحرين ومنطقة الخليج عموماً واحداً من أبرز روائييها ، كتابها الصحافيين ، باحثيها الجادين ، مثقفيها النقيين ومبدعيها الذين انحازوا لنصرة المعذبيين على البحر واليابسة ، ودفع ضريبة مواقفه وعشقه للحرية والتنوير والانتماء الوطني ، هذا الانسان اسمه عبدالله علي خليفة البوفلاسة.
عاش حراً ومات حراً .. مات ولم يملك شيئاً غير مؤلفاته الغزيرة ، ولكنه عاش ولم يتملكه أحد أو يجيره ،
ألف أكثر من 60 مؤلفاً بين رواية ودراسة وبحثاً نقدياً في الأدب , كانت له كتابة يومية للرأي في “الافق ” وتحقيقات صحافية ميدانية وكان مسؤولاً عن تحرير الصفحات الثقافية .. بعد وفاته لا زالت تحت الطبع ثمان روايات جديدة لم تطبع بعد من بينها رواية “رسائل جمال عبدالناصر السرية” ورواية “ابن السيد” وخليج الأرواح الضائعة” بالإضافة إلي الجزء الرابع من سفره الفكري الكبير : “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية” تحت عنوان ” تطور الفكر العربي الحديث” وكلها تنتظر الولادة .
حتى آخر يوم في حياته كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة , فكانت آخر قراءاته رواية “وجهان لحواء” وجدها شقيقه عيسى بالقرب من وسادته وبين اورقها رشوتات المستشفى وعشرة دنانير , هذه الرواية الأخيرة التي قرأها من تأليف “أمريتا بريتام” واحدة من ضمن سلسلة “إبداعات عالمية” للعدد رقم 326 من هذه الإصدارات التي ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب الكويتي . آخر ما خط به قلمه في دفتر مذكراته كلمات توديعية مؤثرة قال فيها : تأتي الريح وتقذفه بعيداً بين أشجار العصافير وأجنحة النسور .. يمضي مع ورق الشجر المتطاير من الصخور وثلل بشرية خريفية تتساقط في المدن.. يشق طريقه تترامي قراطيس كثيفة له في الأزقة .
في البناية الرثة (…) كلمة غير واضحة . ربما قصد بها “أشاهد” الحمامات , تعيش في الشقوق وتتزاوج ( يتحث عن الشقة العتيقة التي سكنها طيلة 21 عاماً و المبنى المقابل لشقته حيث كانت الشقوق محاكر للحمام)
يخبرنا في أخر كتاباته : ” أخوه يحيط به مثل الشجرة . من أصابعه يظهر الحليب والبيض وأصوات المعادن .(الاواني)
الآله تطلقه في الفضاء .. ومليون دواء ،
الشارع مغلق.”
( يتحدث عن شقيقه عيسى الذي كان جليسه الوحيد في الشقة العتيقة حتى آخر أيامه ويقوم بخدمته).
كتب الروائي اليساري الراحل عبدالله خليفة هذه الكلمات الأخيرة بخط يده وهو يحتضر قبل يوم أو يومين من رحيله على ما يبدو ، واضح من ارتجاف قلمه في يده وتباعد الحروف ، لكنه أبي إلا ان يكتب آخر الحروف بوداع حزين يختزل شذرات حياته بالعطاء الأدبي والفكري والنضالي التاريخي الدائم بعد ان أضناه مرض العضال الذي نتشر في جسده ولكنه لم يستسلم له حتى آخر دقيقة من عمره .
هذا الإنسان الرائع والمبدع والنقي الإيديولوجي . بالمناسبة كان عبدالله حين يمتدح شخصاً من رفاقة ومحبيه بم يكن بين الحضور لا يقول “هذا الرجل” بل “هذا الإنسان ” بما فيها من دلالة لا شوفينية ولا قومية ولا أو عقائدية ، كان يكتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر الستينات حتى غدت مؤلفاته في النقد الأدبي والرواية وقضايا الفكر أبرز كتاب الخليج
قاطبة غؤارة ومضمونا ، لكنه وللأسف لم ينل التكريم اللائق من دولته ، ومن يقرأ روايته : ”ذهب مع النفط” ويتمعن في سطورها وتحطيم المثقف يعرف السبب ، ومن يقرأ رواية : ”أغنية الماء والنار” وراية “امرأة” و”الينابيع” ملحمة الملاحم و”لحن الشتاء” إلي أخره…
فقدنا عبدالله الذي كان شعلة نضال وبرفقته تعرف إنه صفحة للبياض الأول وإنساناً يجاهد الوقت والنسيان ، فلا تنسوه مثلي!… لك الخلد أيها الرفيق الصديق النقي الطاهر .

أن تكتب الأدب في السجن: أحمد البوسطة

عند التفكير بالكتابة عن أدب السجون في البحرين، لا يستطيع أحد تجاوز الروائي والمناضل الراحل عبدالله خليفة وآخرين من شعراء وأدباء وأيضاً نحاتون وضعوا بصماتهم على صخور معتقل جزيرة جدا آنذاك .. ما هي ابتكاراتهم لتحقيق هذا المنجز الإبداعي أو ذاك، وكيف يواجهون الأخطار للحفاظ وتأمين ما أنجزوه حتى يخرج من الظلمات إلى النور… من السجن إلى خارجة بعيداً عن أعيّن الشرطة؟
عبدالله خليفة واحد من هؤلاء، كيف كان يكتب قصصه ورواياته ودراساته النقدية في الأدب والفكر خلف القضبان؟..
على أية ورق يكتب، في حين يمنعه السجان التزوّد بالورق وحتى بدفتر مذكرات، وبأي قلم يكتب والأقلام ممنوعة على المعتقلين وسجناء الرأي والضمير حتى لو كان قلم رصاص طوله أصبع لكتابة خواطره فترة التغييب القسري؟.. كيف كانت تُهرّب هذه الكتابات من داخل السجن إلى خارجه لتطبع على ورق مصقول وتتلاقفها الأيدي سراً خلسة عن الرقيب؟.
من الروايات والقصص التي تمّ تهريبها من السجن إلى خارجه طيلة فترة اعتقال عبدالله خليفة الذي استمرَّ ست سنوات منذ الهجمة على الوطنيين بعد حل المجلس الوطني في العام 1975 حتى أفرج عنه في العام 1981 والتي كُتِبَتْ على رقائق غلاف عُلب السجائر: روايات «اللآلئ» و«القرصان والمدينة» و «الدرويش والذئاب»، وهذه الأخيرة لم تنشر بعد، إضافة إلى قصص قصيرة حوتها فيما بعد مجموعة «الرمل والياسمين».
يروي أحد رفاقه الذين عايشوه حرارة الأوضاع في السجن، كيف كانت المعاناة لتوفير قلم وأوراق، كنا لا نرمي الأكياس ولا عُلب السجائر وننقل قلم «البنسل» – قلم الرصاص، والاسم الحركي المتعارف عليه بيننا: «حمبوص» من زنزانة لأخرى عبر مخابئ في حمامات السجن الذي نقضي فيه حاجاتنا، نلتقط الإشارات البعيدة عن أعين الرقيب والشرطة. وأحيانا بمساعدة شرطة متعاونين ومتعاطفين مع مظلوميتنا لتأمين الورق والأقلام للمبدعين ومن بينهم الراحل الرفيق عبدالله خليفة الذي كان غزير الإنتاج الإبداعي، نهم في القراءة، له عالمه الخاص، كتُوم، قليل الكلام كثير العمل والاجتهاد ويطلق النكات أحياناً، يلتقط العابر ليوظفه في رواية أو قصة.
ما أن يتم توفير بعض الأوراق وجمعها من زنزانة وأخرى حتى يقضي عبدالله عليها، وفي اليوم التالي يطلب المزيد وقلم رصاص آخر حتى أطلق عليه لقب أكبر مستهلك في السجن للورق والأقلام، وأي ورق وأي أقلام، الآن فهمنا، كيف استطاع هذا المبدع والمفكر أن ينتج أكثر من خمسين مؤلفاً، بين رواية وقصة قصيرة وكتب نقدية في الأدب وأربعة أجزاء من كتابه الضخم: «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» وخلال عام من مرضه العضال لم يتوقف عن الكتابة ولديه 15 رواية لم تطبع بعد إضافة إلى 13 رواية لم ينته من كتابة كامل فصولها و بأحجام مختلفة.
أثناء المقابلات في السجن مع عبدالله خليفة يتقصد شقيقة عيسى بوضع قلم في جيبه الأمامي بشكل لافت ويتربص فرصة مغافلة الرقيب لتهريبه له.
في إحدى المقابلات جلس عيسى في مقابله وجهاً لوجه، بينما والده وشقيقته جلسا على جانبيه، الأيسر والأيمن، كانت عيناه وهو يتحدث إلينا تمعن بحركات تمويهية على القلم وأكاد أرى لعابه يسيل مثل جائع يرى أمامه وجبة دسمة يريد التهامها، يقول عيسى، في ذلك اللقاء حدث شيئاً طريفاً، حيث كان يراقبنا الضابط راشد عبدالرحمن، خرج ثوانٍ لظرف ما لا نعرفه، أغلق الباب وراءه، فقام عبدالله بفتح جورابه ومدَّ رجله أمامي. في إشارة لوضع القلم في فتحة الجوراب، تداركت ببديهية لما كان يريد، فوضعت القلم وكان له ما أراد، أسند ظهره إلى الكرسي وعاد للحديث معنا بارتياح شديد وكأن شيئاً لم يكن.
شقيقه عيسى، لا يزال يتذكر.. كان قلم حبر جاف، ماركة «باركر» من أجود أنواع الماركات آنذاك، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
كان عبدالله يكتب نصوصه الأدبية ورسائله التي تصلنا بقلم الرصاص، وفيما بعد يستخدم قلم الحبر الجاف، وأدركت من خلال نصوصه الأدبية الجديدة أن عملية تهريب «الباركر» في جورابه بالرجل اليسرى قد نجحت، فها هو يخط بذاك القلم الذي وضعته بيدي في جورابه.. اجتاحتني فرحة كبيرة وتمنيت أن يسقط مطراً لأمشي تحته كي يُبللني.

«تفخيخ» برواية «اللآلئ»

علم رفاق (ع ج س) قرب الإفراج عنه خلال أيام ففكروا كيف يهربون معه رواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص للصحافي إبراهيم بشمي، قال له أحدهم في يوم الإفراج سنهدي لك بنطلوناً من بنطلوناتنا ذات الجودة بدل بنطلونك «الكحيان» هذا، لتقابل أهلك بهندام نظيف، تبادل معهم الابتسامات البريئة دون علمه بخططهم في تهريب «أوراق ممنوعة» من داخل السجن إلى خارجه.
قبل أيام من مقابلة إدارة السجن للإفراج عنه كانوا يخيطون الأوراق الصغيرة في البنطلون الهديّة، رزم من الأوراق، كل فصل من فصول الرواية بجانبه فصل آخر يخاط بإتقان يُبعد الشبهات.
تزامن موعد الإفراج عن (ع – ج) مع الانتهاء من «تفخيخ» بنطاله بالنصوص الأدبية، أعطوه رسائل شفوية للقاء شخص ما بالبنطال ذاته كشفرة متفق عليها، وعند وصوله المنزل اكتشف تلغيم بنطاله برواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص بشمي.. فسلم الأمانة إلى أصحابها وكان يضحك على نفسه لعلمه متأخراً عن هدية الإفراج من رفاقه الذين غادرهم إلى فضاء الحرية وهم لازالوا خلف القضبان.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 19, 2024 17:30
No comments have been added yet.