وطن الطائر: نموذج معبر لأدب الطفل في البحرين

في مسرحية (وطن الطائر)، يطور خلف احمد خلف التقنية الدرامية التي بدأ بتجسيدها في مسرحية (العفريت).
والفكرة الاساسية للمسرحية مأخوذة من قصة للأطفال، غير منشورة، كتبها الشاعر قاسم حداد (انظر الكتاب ص91). والقصة تصور طائراً جميلاً ذا صوت خلاب سجنه ملك، فيرفض الطائر التغريد، ويغريه الملك بطبيعة ساحرة لكنها مسورة، فيواصل الطائر الصمت، حتى يكاد ينفق، فيطلقه الملك ليعرف أي مكان هذا الذي يفضله الطائر على القصر وحديقته، فيجده يغرد فوق صخرة جرداء في المياه.
هذه هي الفكرة المحورية التي اقتبسها خلف، ليبدو شكل تجسدها على الخشبة، هو الاضافة الدرامية للفكرة.
والفكرة، كقصة للأطفال، بسيطة وشاعرية، لكن كيف يمكن أن تتحول إلى دراما غنية بالحركة، والتلون وتباين الشخصيات وصراعاتها؟.
إن بعض الثيمات التي استخدمها خلف في (العفريت)، يواصل استخدامها وتطويرها هنا.. فشخصية الراوي، المتحدث في الحكاية، المعلق عليها. تظهر هنا أيضاً، ولكن بصورة (طفل) و(طفلة)، مرحين، ساخرين من السلطان وقفصه وابنته البلهاء. وإذا كانت بعض مقاطع حضور هذا الراوي المشترك، ضمير المؤلف والأطفال معاً. حيوية، نابضة، فإن بعضها الآخر، زائد وتعليمي ومرهل لجسد المسرحية. كحديثهما الفكري عن الحكيم والحرية ص 122-123.
ان وجود الطفلين، الراوي الواحد المتسق عقلاً، المختلف جنساً، ضمير العمل، يطلق الحركة الدرامية عبر تعليقات ساخرة على السلطان وابنته وحرسه، أو عبر التعليقات الجادة على الحكيم، أو لوصف حركات وأحداث لم تظهر على الخشبة..
إن وجود هذا الراوي هو أول تجسيد درامي للقصة، وهو أول جر للقصة من ميدانها السردي المكثف، الى جسد المسرح الحركي الصراعي التجسيدي، وتنبيضها لوناً، لكن وجود الراوي الثنائي من جهة اخرى، وفي بضع مواقع، يوقف الحركة الدرامية ويثقلها، فيكون أشبه بوجود كاتب القصة في المسرح، أشبه بحضور السرد في الدراما.
وعلى سبيل المثال، اقرأ الفقرة الطويلة في ص 148، حيث يتناوب الطفلان – وهذا التناوب جزء من محاولة الخروج من مأزق الراوي الشارح – مدح الحكيم وحيلته في تحرير الطائر من أسر السلطان وإطلاقه إلى وطنه، إن هذه الفقرة، ليست سوى تمن بالذهاب مع القافلة ومدح الحكيم: (يا له من رجل حكيم – سأكون ابن الحكيم – سأكون ابنة الحكيم – وسنرى هذا الوطن الجميل.. الخ).
أن الأجزاء الخيرة من الصراع، كالطائر والحكيم والصخرة، توصف عن قبل الراوي المشترك بكل صفات الطهر والطيبة، في حين توصف الأجزاء الشريرة من الصراع كالسلطان وفهمان ونبهان والابنة والحراس، بكل صفات الغباء والقبح.
ومن هنا يكن المدح المبالغ فيه للجانب الخير من قبل الراوي، والسخرية الزائدة على الجانب الشرير، تحجيماً لوعى الطفل وتعليمية مباشر، حاول المؤلف أن يتجنبها.
ونجد الروح الدرامية لا تتجسد فحسب عبر وضع الراوي الممتع، وتعليقاته الذكية، بل عبر التنويع والإمتاع والتلون في شخص السلطان وحرس وابنته. ففي القصة القصيرة عند قاسم، لم يكن يوجد سوى الملك بمفرده، في مواجهة الطائر، لكن هنا يتحول السلطان إلى ما يشبه المهرج الخفيف الظل، لكن الباطش السطوة، القاسي.
إن صفات السلطان المتعددة تظهر، تباعاً، من خلال خطاب الراوي، وهو يبدو بحركاته الكثيرة الخرقاء، وطريقة فهمه للأشياء عبر الشكل العجيب، حيوي الظهور، مرح الكلام، لكن في إطار قسوة مستمرة، وصلف، هو جزء من تكوينه.
ويحيط الكاتب السلطان بثلة من البلاهة، تتجسد في شخصيتي الحارسين الاخرقين (فهمان)، و(نبهان)، الذين يغدوان كإضافة مهرج ثنائي، إلى مهرج مركزي هو السلطان، ويغدو استغلال غباء الحارسين، بدءاً من إسميهما الى حركاتهما وتصادمهما المستمر، وذكائهما الذي يتحول الى غباء، إضافة جانب ممتع ومسل وساخر إلى جانب السلطان.
إن الهالة التي تحيط بالطبقة الراقية تتمزق هنا عبر أنماط ملموسة.
ولا يكتفي الكاتب، بهذا التمزيق، لكن يضيف نمطا ثالثا مغايرا، جوانبه السلطان، التي كانت تغدو في الحكاية القديمة، رمزا لكل ما هو نقي وسحري وسري، فتصير هنا ابنة بلهاء مضحكة طيبة، تركب فوق ظهر أبيها وتحوله الى حمار، تستغل وجود نبهان وفهمان الآدمي بديلا عن دميها.
ان فكرة تحطيم الأوهام القديمة الفكرية – الفنية تستولي على مسرح خلف، عبر رفضه لفكرة الساحر القادر على كل شيء في (العفريت) وتمزيق ما هو مدرسي بليد، تحنطه الكتب، لنجد هنا ابنة السلطان تنزل من عليائها الى الواقع، ويرى الصغار اجنحة الحكايات الخيالية القديمة وهي تحترق فوق الارض، وتتكشف هذه الأنسجة المعقدة للثقافة والمجتمع، عبر مفردات الفن (البسيطة) المقدمة للأطفال.
ان حركات ابنة السلطان المتعددة تضيف بهجة وحيوية أخرى على النص القصصي، الذي سُحب الآن، من سكونه السردي الصراعي المكثف، إلى اتساع الشخصيات المتضادة والتعارضات البهيجة – المؤلمة، وتنوعات المواقف والأشياء..
ان القصة القصيرة ببنيتها المضغوطة وشخصيتها شبه الوحيدتين، تتباين مع بنية المسرحية ذات الاتساع غير المطول، والمتبلور في عملية صراع، متنامية، متعددة الوجوه، وإذا كانت القصة تقدم (الشرير) في شخصية، فإنها تقدم (الخير) في شخصية مقابلة، وهو الطائر، لكن في المسرحية تتسع الشخصيات المتقابلة، فكما تعددت وجوه السلطان والحاشية، فقد اتسعت شخصية الطائر لتصير راويين وحكيما يقدم المشورة الذكية الخبيثة ليسجن من قبل السلطان. أن الطائر الذي لا يتكلم في القصة، يفصح عن ذاته، ويتجسد مضمونه عبر شخصيات متعددة في المسرحية.
ولا يكتفي الكاتب بإضفاء توترات درامية – هزلية على المسرحية، بل يستفيد من التقنية المسرحية الصرفة، عبر كتابة ارشاداته عن الديكور والحركة، الأمر الذي يغدو اخراجا اوليا يتواصل عبر نص المسرحية. انه يقسم المسرحية ست لوحات، هي مقاطع المشاهد المتتالية النامية عبر عرض المسرحية، ويكتفي باستخدام [الديكور الرمزي في اللوحات الخمس الأولى] ص 90، حيث أن أجواء المشاهد تتحد في عوالم القصر والحديقة، وهذه أمكنة مسرحة يمكن التحكم فيها، من قبله. لكن اللوحة السادسة [تحتاج إلى تجسيمات عديدة لتقريب وتصوير مغزى المسرحية حول ارتباط الحرية بالوطن.. يمكن الإكثار من المؤثرات البصرية والسمعية في تلك اللوحة].
ان اللوحة السادسة هي لوحة قصصية، وتمثل لحظة الانتقال الحركي الطويل للسلطان والحاشية الى صخرة الطائر البعيدة، وطيران هـذا الطائر اليها، أيضا، مما يجعل التجسيد المسرحي صعبا.
ان اهتمام المؤلف بـ(المغزى) وضرورة تجسيده بالمؤثرات تدل على الرغبة الدقيقة في تحديد نمو المسرحية بالكيفية التي يراها، فهو يخرج المسرحية قبل إخراجها.
وتتضح العملية الاخراجية من سيطرة الكاتب الدقيقة على حركة الشخصيات، وأشكالها وملابسها، وقطع الديكور والمؤثرات. وكمثال نقرأ ما يلي: [الطفل: (يدخل على أطراف أصابعه محاذرا اصدار صوت، يتلفت في حذر تجاه الرجل النائم] و[فهمان ونبهان: يسرعان في التحرك فيتصادمان ويقعان على الارض، يسرع السلطان باتجاههما فينهضان بسرعة ويخرجان صارخين] الخ..
وهناك امثلة كثيرة على التحديد الدقيق لحركة المسرحية، واغلب هذه الإرشادات الإخراجية تستهدف تحديد عملية المسرحية للنص الأدبي. وهذه الإرشادات تدفع باستمرار باتجاه تنبيض اللغة وتجسيدها، واثارة المفارقات الجسدية، الحركية، اللونية، الشخصية، وإبعاد المسرحية عن الطابع التأملي العقلي. والكاتب يفلح في استنطاق النص قبل اخراجه، عبر عشرات الإرشادات التي تبدو عفوية في الصياغة، ومن هنا كانت عروض مسرحياته هي أعمال تنفيذية تنساق وراء الإخراج الضمني فيها.
ويجب أن نتوقف هنا حول (المغزى).
ان الكاتب لا يوضح فقط طريقة نمو التسلسل الدرامي وتجسيداته، بل يصر على المغزى وتحديده، فيقول [.. لتقريب وتصوير مغزى المسرحية حول ارتباط الحرية بالوطن ].
ان جملة الارتباط هذه تبدو غير واضحة، فالحرية مفهوم سياسي واجتماعي خاص، والوطن كيان ملموس، وليس ثمة علاقة مشتركة محسوسة. فهل يزول الوطن عندما يكون مستعبدا؟ أو يظهر الوطن فقط في الحرية؟ وهل يفر الإنسان / الطائر من وطنه إذا كان مكبلا؟ أو أن المواطنة الحقيقية لا تأتي إلا في وطن حر؟
ان المسرحية تهدف الى القول، ببساطة فلسفية، ان الوطن يكمن حيث توجد الحرية. ولكن ألا يقلل هذا من الوطن، ومن الحرية معا؟
واذا جئنا إلى القصة القصيرة، أساس النمو الدرامي، فإن (مغزى) آخر يتبدى هناك، حيث الطائر هو المبدع، الذي لا يستطيع الإبداع – الغناء وهو ملك لأحد. ان الابداع تمازج والحرية ، ويذوبان في سيرورة واحدة.
وتغدو الصخرة الصغيرة في البحر، المجردة من القضبان، هي موقع التغريد والفعل الحر والوطن. ان سياقات القصة الداخلية أكثر عبر هذه الترابطات الوثيقة.
ولكن كان من الصعب ـ على ما يبدو ـ إبراز هذا -المغرى- في مسرحية تقدم للصغار، فكان لابد من التحوير، وتغيير طابع المسرحية، لتغدو الصخرة هي الوطن وهي الحرية، وأن الطائر لا يستطيع أن يحيا (لا ان يغرد فحسب) إلا في وطنه، الذي هو الحرية.
لقد اقتضت طبيعة النوع الأدبي الخاص. وهو مسرح الطفل، تغيير الموضوع، لكنه تحول الى موضوع تجريدي. فنشأ تناقض بين الموضوع وطبيعة النوع الفني، الأمر الذي أدى في الصياغة الى محاولة التغلب المستمر على الطابع التجريدي، بجعله ملموسا، حيا، قريبا، وهذا أغنى تطور بعض الأدوات الفنية، من جانب، وظهور بعض المباشرة، من جانب آخر. لكن (المغزى) ظل مع هذا مراوغا، كقول الطفلة متحدثة عن السلطان [لا يقتنع ابدا ان غناء الطائر هو الحرية.. وليس الحديقة السجن التي أقامها] ص 121، أو قول الطفل [ نعم.. نعم.. الحرية التي غنى لها هذا الطائر اجمل اغنية] ص 123. بعدئذ تصبح الصخرة وسط الماء هي الوطن، الحرية.
وتقيم المسرحية سلسلة من التضادات المطلقة، فهناك: الطائر، الحكيم، الراويان، الصخرة، الغناء، الوطن، الحرية، السعادة، الجمال، الذكاء.. الخ.. في جهة، ومن جهة أخرى هناك السلطان، القصر، السجن، الابنة، فهمان ونبهان، الحراس، الغباء، القبح .. الخ.
ولا يحدث الانتقال من جانب إلى اخر، في الشخصية، ويظل الخطان متضادين، وحين تنتقل الابنة المعتوهة إلى وطن الطائر والخط الآخر، فإنها تفعل ذلك بصورة غير مقنعة فنيا.
ان وجود هذه التضادات في العالم الفني، يجعل الشخصيات منمطة، فالحكيم رمز الحكمة والكفاح، والطائر رمز الحرية، وهكذا بقية شخصيات الخط الأول، يغدو السلطان رمز المحدودية والضحالة، الخ..
ان الية النمطية تتيح توصيل التوجيه والمباشرة، لكنها تجعل العالم الفني أكثر احتياجا للغنى والتعدد.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2024 21:33
No comments have been added yet.