العقل والحرية
العقل والحريــــــــــــة
1
العقل هو الثمار الفكرية الصائبة التي تنتجها القوى الجماعية والأفراد خلال الفترات والحقب والتي تستفيد منها الأجيال، وتوظفها للمزيد من التطور والحرية.
وقد وقع العقل في الجزيرة العربية أسير التكوين الطبيعي القاسي وأسير البنية الاجتماعية التي تكونت في قيود هذه الطبيعة.
ولم تستطع الحضارات القديمة في ما قبل الإسلام أن تنتج نهضة جزيرية عربية مترابطة متكاملة، في حين إستطاع الإسلام ذلك لقيادة مدنه الحجازية إستيعاب العناصر النهضوية للشمال العربي في مبنى تحويلي عربي عالمي.
فيما بعد مكة والمدينة لن تظهر مثل هذه المدن التحويلية النهضوية الشاملة. وعادت الجزيرة العربية لإمكانياتها الرعوية والمدنية المحدودة.
إن العناصرَ الجوهريةَ في العقلانية الإسلامية هي قيام العقل النقدي بقيادة طليعة الجمهور في أعمال نضالية متدرجة وإشراك الجمهور في المنافع الاقتصادية والتطور الثقافي، بالمواد الفكرية والاجتماعية السائدة وقتذاك.
الإسلام كثورة أقام سلطة ليس ثمة بينها وبين الناس حواجز، قام بتوزيع أملاك الغزوات لمنع تركيز المُلكية، أي قدم جملة مفاتيح لدولة غير إستبدادية، وهذا الوضع تغير بعد الفتوحات والإنتقال للشمال العربي.
عنصر التجار الأحرار المتحالف مع الفقراء، شكَّلَ تلك النهضة، ولكنها إنساحت خارج الجزيرة العربية أكثر مما تكرست داخلها.
ولهذا فإن التراكمية العقلانية لن تكون من نصيب الجزيرة العربية، بل سوف تظهر في المدن الجديدة كالبصرة وبغداد والقاهرة.
في الجزيرة العربية فضاء جغرافي واسع، لكن الحرية صعبة، لأن تاريخَ البداوةِ المديد خلق سيطرات كثيفة: فحتى المركزية التي شكلها الإسلام لم تستمر وظلت العاصمة الدينية للمسلمين رمزاً غير محمي في كثير من الأحيان.
إن العقل كأرث فكري وقوانين ومؤسسات سياسية مدنية يحتاج إلى مدنٍ وإلى مدينة مركزية على الأقل، لكن هذا لم يتوفر للجزيرة العربية بعد قرن من الفتوح. فمع تراكم الثروة في بلدان الشمال العربي تفاقم الفقرُ في الجزيرة وخاصة في نجد والبحرين وعمان واليمن. فهل ظهرت إمكانيات للحرية؟
2
كان إنتاجُ الجزيرةِ العربية الفقيرة عبر تلك الإقاليم(اليمن والبحرين ونجد وعُمان) هو خلق التمردات والثورات المنقطعة عن خلق التراكمات الحضارية.
لماذا كانت الثورة منقطعة عن العقل؟ لماذا لم تشكل تجارب تراكمية باقية ومفيدة للقرون؟
لقد إعتمدت التراكمية النقدية النهضوية في قلب المدن العربية الإسلامية وفي عالم الخلافة على فئات وسطى من التجار والمتعلمين والحرفيين، وهي القوى التي شكلتْ المدارسَ والتيارات الفقهية والمنطقية والثقافية والفلسفية، وهي التوجهات التي وقفتْ وسطاً بين النظام الإقطاعي الحاكم بخلفائهِ وأمرائهِ وجواريه وبذخه وتمزقاته الكثيرة فيما بعد، وبين القوى الخارجة على القانون الداعية لإنشاء أنظمة خلافة بديلة، وشكلتها في الصحارى، وهي لم تبدلْ نظامَ الخلافةِ الإقطاعي بل جعلتْ من أمرائِها خلفاءَ تفتيتٍ وفقر مدقع.
من هنا كانت الصحارى في الجزيرة العربية هي الملاذُ لهؤلاء وهو أمرٌ كرّسَ الوضعَ المتصحر للعقل في هذه المنطقة الخليجية، وأغلب تلك الفرق قامت على النصوصية الشديدة.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة الأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
وجاء تطور المذاهب الإمامية متدرجاً عبر قرون، وبعد فشل الزيدية ثم القرامطة فإن الإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل الاجتماعي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ الجعفري أسسَ نمو الحياة الريفية في المدن الساحلية الشرقية البحرينية بالمعنى القديم، ولكن في هذه الأثناء جاء المذهب الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وتغلغل في الجزيرة العربية وفي نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً شديد المحافظة، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
يمكن أن نرى في قبيلة عبدالقيس المسيحية قبل الإسلام المسلمة بعده هذا التضفير بين الجذور الإحيائية ومصالح الفلاحين وإحتفالية الأرض المتخلصة من الوثنية كذلك والمتمايزة عن الارستقراطية الحاكمة البدوية.
لكن كان الصراع الاجتماعي السياسي هو الأساس، ومثلت أملاك الفلاحين وأهل المدن مطمعاً للبدو وهي حالة عيش ضارية طالما اعتمدتها القبائلُ البدوية الغازية في معيشتها، ولكنها هنا اتخذت أشكالاً دينية. وهذه أدت لمفارقات وسجون إجتماعية تاريخية للغالبية من المنتجين الشعبيين.
وعوضاً عن أن تنتشر في الجزيرة العربية ثمار الشمال النهضوية جاءتها الإشكاليات الفكرية له، وثمار هزيمة التطورات العقلانية الفقهية.
3
إنني أقدمُ هذا التحقيبَ الاجتماعي التاريخي بغرضِ التمييزِ هنا بين الإسلام كثورةٍ فتحتْ الآفاقَ النهضوية للعرب وللمسلمين وبين الإسلام كعقيدةٍ قامتْ من تشكلِ أبعادٍ غيبيةٍ ميتافيزيقية وتجسيدات تاريخية سياسية وعبادات ومعاملات بناء على ذلك المنظور الغيبي، فكافةُ حركاتِ الإسلام تبدو نتاجاً للغيب، فيما هي كذلك ثورةٌ إجتماعية بظروفِ البداوة العربية في الجزيرة وقتذاك.
ولكن هذا الفصلَ بين المنظورين لم يكن متيسراً عبر العصور، ولهذا فإن الحركات التمردية كانت محافظة، ولم تقم تمرداتها بشيءٍ عميق يمكثُ في الأرض، بل على العكس أحدثت القلاقل، نظراً لأنها لم تأخذ العناصر النهضوية في الإسلام وتشتغل عليها، وهو الأمر الذي قامت به الحركات الفكرية في المدن الإسلامية دون أن تطوره ليكون حركة تغييرية شعبية.
وعمليات الخلخلة التي قامت بها للعناصر المحافظة في الإسلام لم تُحدث نقلات، فحدث فشل كبير لها، قامت على أثره المذاهب وخاصة المذهب الشيعي والمذهب السني في شرق الجزيرة العربية ، بملء الفراغ المترتب على ذلك الزوال لحركات التمرد.
هذا لا يعني عدم وجودهما من قبل لكن نقصد هنا الانتشار والاكتساح.
اعتمد المذهبان على المبادئ العامة المحافظة عامة، أي لم يطرحا مسائل الثورة وتبديل حال العامة الفقيرة، ركزا على الشعائر والعبادات والفقه الخاص بكل منهما. وخلقا في ذلك تطوراً إجتماعياً مديداً رغم الغزوات والصراعات.
4
أدت التطورات السياسية في العصر الحديث إلى إنتصار الحنبلية السياسي والاجتماعي في أغلبية الجزيرة العربية، وتحولت لغة التمرد للفرق السابقة المهتمة بالغزو وثماره الاقتصادية إلى هذه الفرقة الحنبلية وشكلت جموداً إجتماعياً كبيراً لأغلبية الجزيرة العربية، فيما حُبست مدن الشيعة في مناطق معزولة أو متقطعة أو متنابذة، حاولت على مدى عقود أن تنفتح على الخارج.
كما قلنا ذلك تشكل من خلال قفزات القبائل البدوية ذات الطابع العسكري، فيما كانت المناطق الريفية ذات إستقرار طويل الأمد. ولهذا حدثت قفزات القبائل البدوية نحو المناطق الساحلية بسرعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.
يمكن ضرب المثل بقبائل آل ثاني وآل خليفة وآل صباح، وتتعدد طبيعة هذه القبائل المهاجرة حيث يغلب على بعضها الطابع التجاري المدني كآلخليفة وآل صباح بينما آل ثاني يغلب عليهم الطابع البدوي.
ـــــــــــ
مصادر
* ولقد كان طبيعياً أن تتأثر قطر بهذا المذهب نظراً للصلة المستمرة التي تجسدت في كون قطر ذات حدود برية مع الدولة السعودية التي انطلقت منها هذه الدعوة، ولا يزال القطريون يكنون احتراماً بالغاً للمملكة العربية السعودية باعتبارها موطن الإمام محمد عبد الوهاب مؤسس الوهابية، ولا غرو، فإن قاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر نفسه كان سلفياً وهابياً، وكان الشيخ رشيد رضا يعلم السلفية لأهالي قطر، كما قام بنفس المهمة أناس آخرون في كل من البحرين والهند، وذلك في محاولة للتصدي لموجة التبشير التي أطلق عنانها في البحرين بأيدي مبشرين من الأمريكيين والإنجليز على حد سواء.


